سردية الإرهاب و دورها في التمهيد لمجزرة رابعة

ترجمة: عبدالله فايد
الصورة: أثناء فض اعتصام رابعة العدوية – تصوير: مصعب الشامي
قامت قوات الأمن المصرية بمهاجمة اعتصام رابعة العدوية بعد صلاة فجر يوم 14 أغسطس 2013، كما فعلت الشيء نفسه في اعتصام ميدان النهضة بالقرب من جامعة القاهرة.
قبل هذا بستة أسابيع، قام قائد الجيش ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي بالانقلاب على أول رئيس مُنتخب ديموقراطيًا في تاريخ مصر “محمد مرسي” المنتمي إلى الإخوان المُسلمين؛ ردًا على تلك الخطوة، قام مئات الآلاف بالاعتصام في الميادين العامة، وفي مقدمتها ميدان رابعة العدوية، احتجاجًا على ما اعتبروه أنه ثورة مضادة لثورة يناير 2011 التي انتهت بالتخلص من حكم حسني مبارك الذي استمر ثلاثة عقود.
قامت قوات الأمن المصرية بقتل ما يزيد على ألف شخص بينما كانوا يقومون بمهاجمة مَحليّ الاعتصامين. الأرقام النهائية لا يمكن التأكد منها بدقة، جزئيًا بسبب قيام أفراد الأمن بإحراق بعض جثث الضحايا أثناء عملية الفض التي استغرقت اثنى عشرة ساعة، أظهرت الصور تفحم مسجد رابعة العدوية تمامًا من الداخل خلال ساعات من بداية الفض، وأوضح تقرير قد تم نشره مؤخرًا من قبل منظمة “هيومان رايتس واتش” بأن قوات الأمن المصرية استخدمت العنف المميت بشكل ممنهج ومنظم؛ مما تسبب في مقتل عدد من المتظاهرين لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر، وأكد التقرير على أنه لم يتم إثبات تورط أي من المسئولين المصريين في تلك المجزرة، بينما قامت كل التحقيقات التابعة للدولة بتبرير تصرفات الجيش والشرطة.
وكان التأييد واسع النطاق للمجزرة بين نطاقات واسعة من الشعب المصري صادمًا بنفس قدر إجراءات الجيش القمعية ناحية المعارضة الإسلامية للانقلاب، فقد نزل المئات من الآلاف إلى الشوارع يوم 26 يوليو لمساندة الجيش لـ “محاربة الإرهاب” وهو المُسمى الذي أضفاه السيسي على حملته القمعية المستمرة ضد مؤيدي مرسي، وتحت مظلة ذلك التأييد الشعبي الواسع؛ ارتكبت الدولة مجازر يوم 14 أغسطس دون أن يغمض لها طرف.
بعد عام من مجزرة 14 أغسطس 2013، هناك القليل من الغضب الأخلاقي تجاه الأحداث الفظيعة التي حدث في ذلك اليوم، وبدلاً من أن يكون هناك محاولة للتفكر والتأمل تجاه ما حدث في ذلك اليوم، فإن مرور الزمن، والاستقرار الجديد تحت حكم السيسي لم يزد الرواية الرسمية حول أن المعتصمين قد “نالوا ما يستحقونه” إلا رسوخًا.
لقد طالت الانتقادات الموجهة للإخوان المسلمين العديد من القضايا، بدايةً من رؤية الجماعة لـ “الحُكم الاسلامي” مرورًا بعلاقاتها المتوترة بمؤسسات الدولة والقوى الثورية الأخرى، ولكن تم التركيز على الزعم القائل بأن الجماعة تميل إلى العنف الممنهج لتبرير الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان التي ترتكبها الدولة باسم “الحفاظ على الأمن”.
في محاولة لنزع صفة الإنسانية عن الآلاف من الرجال والنساء والأطفال العاديين والكثير منهم غير منتمي لجماعة الإخوان المسلمين من الأساس، تم تصدير صورة “الإرهاب” و”التطرف الديني العنيف” عن المعتصمين، بينما بثت القنوات المصرية المختلفة هجوم قوات الشرطة والجيش على خلفية موسيقى تصويرية لأفلام هوليودية مصحوبة بكتابة شعار “مصر تحارب الإرهاب” بكل من العربية والإنجليزية.
ونظراً للطبيعة المستمرة لتلك الدعاية، فإنه من الخطأ اعتقاد أن حملة التحريض الأخيرة تجاه الإخوان المسلمين هي ظاهرة حديثة، لم تكن تلك الجملة مجرد حملة مؤقتة لمساعدة السيسي في حملته السريعة ناحية الاستيلاء على السُلطة، شعار “الحرب على الإرهاب” الذي تم استدعائه مؤخرًا هو تجلي واضح للصراع حول السردية التاريخية للرواية القومية المصرية، خصوصًا تجاه أحد أقدم التنظيمات المجتمعية في الدولة.
في إطار محاولة القوى المضادة لثورة يناير 2011 للتغلب على حركة الإخوان المسلمين ذات الشعبية الواسعة، تم اختراع سردية تؤكد على دور الإخوان المسلمين في صراع الدولة المستمر مع “الإرهاب” منذ منتصف القرن العشرين، وتم التركيز على تلك النقطة في إطار مخاطبة جماهير الغالبية العظمى منها جاهلة بدقائق هذا التاريخ، وتم ليّ عنق التاريخ بالتركيز على تلك النقاط في إطار خطاب بدائي للغاية.
في منتصف عام 2012، وبعد انتخاب محمد مرسي بأسابيع قلية، في الذكرى الستين لـ “ثورة” (انقلاب) عام 1952، قام “الناصريون” بالتحسر على عدم تعلمهم من درس تعامل جمال عبد الناصر مع الإخوان المسلمين، فقال متحدث رسمي بارز لأحد مجموعاتهم “إنهم لا يمكن الوثوق بهم على الإطلاق”. في الأسابيع اللاحقة، قام بعض الكُتّاب والمتحدثون بالإشارة إلى حملات العنف السياسي التي تمت في نهاية الأربعينيات، وتم لوم الإخوان المسلمين وأسلوبهم في “الحركية الإسلامية”.
وفي أحيان أخرى، قام النُقاد باستدعاء فترة السبعينيات وبروز الجماعات المسلحة التي حاولوا الربط بينها وبين الإخوان المسلمين، خصوصًا من خلال كتابات سيد قطب – أبرز منظري الجماعة الذي تم إعدامه على يد نظام جمال عبدالناصر عام 1966 – وقد تنامى الغضب “الإسلامي” حتى تم اغتيال السادات عام 1981، واستمرت تلك السردية حتى عهد مبارك، وحاول رجال الإعلام الربط تعسُفًا بين الجماعات التي مارست العنف ضد الدولة في منتصف التسعينيات وبين الإخوان المسلمين.
لو تابعنا هذه السردية حتى نهايتها المنطقية، يمكننا استنتاج أنه قد تم إنشاء الإخوان المسلمين تحت نزعة أيدولوجية ناحية العُنف، وأنه قد تم ممارسة تلك النزعة عن طريق إنشاء وتطوير جناح عسكري قام بموجات مختلفة من الأعمال “الإرهابية” خلال عمرها الذي يناهز الستة وثمانين عامًا.
المشكلة الرئيسية التي تقابلنا في مواجهة سردية الإرهاب في أنها تمثل قراءة خاطئة تمامًا للتاريخ المصري، ومحاولة مكشوفة من الدولة المصرية لأن تلصق تهمة “الإرهاب” بشكل فضفاض إلى أبرز معارضيها. في الحقيقة، واجه الإخوان المسلمون مشكلة العنف السياسي في بضعة محطات من نمو نشاطهم، لقد ظهر “التنظيم الخاص” التابع للإخوان المسلمين خلال أربعينيات القرن الماضي، وقام العديد من الباحثين بمحاولة توثيق ظهور ذلك التنظيم، ولكن ما يتم تجاهله من قبل أغلب الباحثين في الأونة الأخيرة هوالظروف التي ظهر فيها ذلك التنظيم، فقد نشأ في ظل المناخ السياسي المصري السائد في فترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي فترة كانت تتسم بالاضطراب الشديد و كانت الأحزاب السياسية الرئيسية المختلفة تواجه بعضها بعضًا في معارك في الشوارع بقدر ما كانت تتواجه عبر البرلمان أو الصحافة.
ذلك الجناح السري، الذي تورط في أعمال عنف ضد مسئولين حكوميين في نهاية الأربعينيات، تم تفكيكه عقب حملة القمع التي قام بها نظام جمال عبد الناصر عام 1954، وبينما كانت الجماعة تعيد تنظيم نفسها خلال السنين التالية، قام قادة الإخوان المسلمين بمحاولة إدماج عناصر من ذلك التنظيم الضبابي داخل جماعة الإخوان المسلمين بشكل عام، خصوصًا، الانضباط التنظيمي، التراتبية الدقيقة، والتركيز على الطاعة والسرية، ولكن ما تم تجاوزه هو الاستعداد للقيام بأعمال عنف، أي أن أبرز قيادات الجماعة فيما بعد مثل مصطفى مشهور وكمال السنانيري، استعانوا بتلك المبادئ من “التنظيم الخاص” لكي يستطيعوا محاولة امتصاص وتحمل قمع السلطة الحاكمة، وليس لمقاومة السلطة الحاكمة بشكل فعال.
وعندما استأنفت الجماعة نشاطها بشكل علني في السبعينيات بعد حوالي عقدين من الغياب بسبب القمع والتضييق الأمني المستمر، كانت هي في ظل تطورات مهمة حدثت للحركة الإسلامية في مصر،غيرت كثيرًا من بنيتها الأيدولوجية والتنظيمية، فقد أدى الضغط الناجم عن مناخ سياسي شديد القمع واستخدام واسع النطاق للتعذيب في سجون نظام عبد الناصر بقطاع من أعضاء الجماعة إلى اتخاذ رؤية أكثر صرامة وعدوانية تجاه الدولة، وقد كانوا متأثرين بأفكار سيد قطب وأرائه عن الديكتاتورية الناصرية، واعتقد هذا القطاع من الحركة الإسلامية بأن المجتمع المصري قد فسد إلى حد كبير جدًا تحت وطأة الديكتاتورية العلمانية، لدرجة أن الأفكار التقليدية لجماعة الإخوان المسلمين حول “الإصلاح بالتدريج” لن تجدي نفعًا وأنه لم يبق سبيلاً سوى طريق “الثورة المسلحة” التي يقوم بها “طليعة مؤمنة” حق الإيمان.
وعلى الرغم مما قد يدعيه هؤلاء الذين يكتبون عن تلك الفترة في السنين الأخيرة، فإن تلك الأراء لم تلق قبولاً واسعًا داخل الجماعة وبين قادتها، وقد حاول الكثيرون منهم مجادلتها ودحضها، ومن أبرز تلك المحاولات الكتاب الذي ألفه مرشد الجماعة في ذلك الوقت”حسن الهضيبي” عام 1969، تحت عنوان “دعاة لا قضاة” الذي دعا فيه للطريق الإصلاحي عن طريق الدعوة في نطاق حاضنة شعبية واسعة النطاق وحركية دائبة خلال مختلف شرائح الشعب المصري، وتنصل تمامًا من ممارسات التكفير، معتبرًا أن دور الحركة الإسلامية مقتصرًا على دعوة الناس دون الحكم عليهم.
وعلى الرغم من التصاعد المستمر لأعمال العنف التي قامت بها جماعات العنف الإسلامية خلال نهاية السبعينيات، فإن المسار الذي حظي بقبول واسع، والذي أثبتت الأيام أنه الأهم بكثير، هو قدرة الجماعة على إعادة بناء نفسها على أنها الممثل الرئيسي للتيار السائد في الحركة الإسلامية، وقام خليفة حسن الهضيبي، المحامي عمر التلمساني، بالإشراف على إعادة بناء الجماعة في إطار دعوي حظي بقبول واسع وسط الجيل الجديد من الشباب الإسلامي في المدارس والجماعات، وفي نهاية عصر السادات، وجد مئات الآلاف من المصريين الجماعة كمنتدى وملتقى لكافة التيارات المعارضة للنظام الحاكم، على أسس بناء حاضنة شعبية قوية وتدرج في التعامل مع مؤسسات الدولة، بل إن العديد من قادة العمل الطلابي وقتها قد اعتبروا أن وجود الإخوان المسلمين ورؤيتهم الإصلاحية التدريجية في ذلك الوقت قد حدّ كثيرًا من انتشار اللجوء إلى أعمال عنف وسط الشباب الإسلامي المحبط من ممارسات الدولة في ذلك الوقت.
بدت تلك الحقائق جديرة بالتذكر بينما نشاهد تداعيات جهود حكومة الانقلاب للقضاء على أحد أقدم الحركات المجتمعية في مصر، وقد قامت إحدى المحاكم – بالإضافة إلى مجلس الوزراء – العام الماضي بإعلان الإخوان المسلمين “جماعة محظورة”، وبينما حملة الدولة المصرية من القمع والحبس الاحتياطي المفتوح والتعذيب وأحكام الإعدام الجماعية مستمرة، تستمر في ازدياد تشعبها حينًا بعد حين لتطول النشطاء المستقلين غير المنتمين إلى “الإسلاميين”، ويمثل العهد الذي اتخذه السيسي على نفسه بـ “سحق” الجماعة أمرًا مثيرًا للقلق والاضطراب، كما قال هو في أحد لقاءاته التليفزيونية في مايو الماضي: “لن يكون هناك شيئًا يُدعى الإخوان المسلمون في عهدي”، وتمثل سياسة السيسي وميله ناحية فرض تغيرات اجتماعية عن طريق استخدام العنف تحديًا خطيرًا ستكون له بالتأكيد عواقب وخيمة على دولة عانت كثيرًا من اضطرابات سياسية واقتصادية لن يزيدها ما حدث في أعقاب الانقلاب العسكري إلا وخامة.
وعلى الرغم من محاولات حكومة الانقلاب الجاهدة للربط بين أعمال العنف والتفجيرات التي وقعت في البلاد في أعقاب الانقلاب وبين جماعة الإخوان المسلمين، فإن سعيهم قد باء بالفشل الذريع، وعلى الرغم من أخطائهم، بل وخطاياهم الكثيرة، فإن الجماعة استطاعت أن تحافظ على سجل خال تمامًا من العنف تجاه الأنظمة السلطوية المتعاقبة، على الأقل منذ إعادة ترتيب أوراق الجماعة في فترة السبعينيات.
وكما أثبتت الأحداث الأخيرة في مصر والعراق وسوريا، عندما يتم إغلاق المنافذ أمام المشاريع السياسية الإسلامية، فإن البديل الوحيد هو العنف المتطرف، ويمثل الصعود المخيف لـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام” مثالاً جليًا على ذلك، وقد قام المتحدث الإعلامي لـ “داعش” مؤخرًا في معرض حديثه عن الأحداث في مصر بتوجيه جُل لومه ولعناته على محمد مرسي بدلاً عن السيسي، وقام بنعت مرسي بـ “المُرتد” متمنيًا بأن يلعب دور الجلاد ناحيته، أخطر عدو للتطرف الديني المسلح – كحالة “داعش” – ليس هو العنف الممنهج من الدولة الحديثة العلمانية، بل هو المناخ السياسي المفتوح الذي يتيح لكافة الأطراف المتنافسة أن يقوموا بالدعوة إلى مبادئهم، بغض النظر عن توجهاتهم الدينية أو المذهبية أو الأيدولوجية.
عن طريق الخلط بين تقاليد الإخوان المسلمين في المعارضة دون اللجوء إلى العنف وبين التجليات الأخرى العنيفة في مناهضة الأنظمة الحاكمة المستبدة، تحاول سردية الإرهاب أن تشر عن أحقية الدولة في استخدام كافة الأساليب في مواجهة المخاطر المزعومة، وستبقى ذكرى مجزرة رابعة شاهدًا حيًا يُذكّر الناس بالتكلفة المرتفعة لسوء استغلال التاريخ ومحاولة ليّ عُنق الحقائق.
المصدر: دار نشر جامعة أوكسفورد