ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
يواجه الشرق الأوسط الذي أثار ربيعه العربي موجة من التفاؤل هيمنة فئة ناشئة قوية، صراع عنيف وأعمال وحشية يرتكبها متطرفون وميليشيات. وفي هذه الأثناء، يبدو أن الغربيين قد خيروا البقاء على الساحة المعتادة والتعامل مع المستبدين عوض مواجهة المجهول الذي تمثله حكومة منتقاة من الشعوب نفسها.
الصعود العنيد لداعش
يمكن للزعماء الأمريكيين والأوروبيين الذين قلصوا أو تخلوا في معاملاتهم الدبلوماسية عن الدفاع على حقوق الإنسان، التعلل بأولوية مواجهة التهديدات الأمنية على ما تمثله من خطر محدق.
وعلى الرغم من شرعيته الأخلاقية، يبدو هذا الرأي محدودا وقاصرا، حيث أن انتهاك حقوق الانسان قد لعب دورا حاسما في خلق وتفاقم معظم الأزمات الحالية في الشرق الأوسط. ولذا، فإن حماية حقوق الإنسان وإفساح مجال التعبير للمواطنين في مايخص طريقة تعاطي حكوماتهم مع مشاكلهم العديدة والمتعددة هو السبيل الأمثل لحل هذه المعضلة.
لم تشهد السنة الماضية تحديا دراماتيكيا كالذي فرضته داعش، ذلك التنظيم الذي يدعو نفسه بالدولة الإسلامية. تنظيم متطرف أثار موجة واسعة من الاشمئزاز والمعارضة بإعدامه للعديد من المحاربين والمدنيين المأسورين، استعباده الجنسي للنساء والبنات اليزيديات، والقطع المصور لرؤوس الصحفيين والناشطين المدنيين.
غير أن داعش لم تنبثق من العدم، فتلك الفوضى التي خلفتها خروج القوات الأمريكية إضافة إلى الحكومة الطائفية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي هي سبب تطرف الأقلية السنية، إذ أن المالكي، وبدعم من إيران، قد تصدر قوات الأمن العراقية ودعم الميليشيات الشيعية التي أعدم العديد منها السنة بطرق وحشية. ففي غياب قانون واضح، وتأسيا بقوات مكافحة الإرهاب الرسمية، قامت هذه الميليشيات بتجميع وأسر العديد من السنة وإعدام عدد كبير منهم دون محاكمة، في حين كانت القوات الجوية العراقية تقصف المدن ذات الأغلبية السنية بطريقة عشوائية.
السياق العراقي
من الواضح أن عنف الإعدامات قد غذى صعود داعش، ففي حين نجح التحالف العسكري مع الصحوة، العشائر السنية شرقي العراق، في القضاء على تنظيم القاعدة في المنطقة، أدى الصراع الذي انطلق سنة 2014 إلى تنامي خوف العديد من هذه العشائر من مجازر القوات المناوئة للنظام، مما دفعها لاستقبال خَلَفِ القاعدة بترحاب. غير أن رغبة الحكومات الغربية في تجنب تجربة التدخل العسكري في العراق دفعتها لتجاهل نظام بغداد الطائفي، بل ووفرت له كمية من الأسلحة.
نتيجة لذلك، تم الإقرار بأن تجاهل الفظائع المرتكبة تحت حكم المالكي مثل خطأ سعى رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي للتقليص من تداعياته بالانخراط في فلسفة حكم أكثر شمولا: حيث قام بالتخلي عن ملاحقة الإعلام متعهدا بإطلاق سراح السجناء الذي تم أسرهم دون إذن توقيف، وسعى لإيقاف القصف العشوائي للقوات الجوية.
إلا أن الطائفية العنيفة لم تتوقف بالعراق حيث يتواصل المدد العسكري الغربي، فقد ضل المالكي أحد نواب الرئيس العراقي الثلاثة، في حين ارتكزت الحكومة الضعيفة على الميليشيات الشيعية أكثر من أي وقت مضى. وعلى الرغم من الإبادة التي هي بصدد ارتكابها في حق قرى وأحياء سنية بأكملها، تبقى هذه الميليشيات القوات الرئيسية المحاربة لداعش.
ومن المتوقع أن يزيد استمرار هذه الفظائع من نسبة الانضمام لداعش عوض القضاء على هذه الجماعة الإرهابية على ساحة المعركة.
داعش، اللجوء إلى سوريا لمحاربة بشار الأسد
في سوريا، تقدم داعش نفسها كالقوة الأكثر قدرة على مواجهة الرئيس بشار الأسد. لا يمكن لأحد إنكار وحشية الأسد، فمنذ لجوء النظام السوري لسلاحه الكيميائي، أمست قنابل البرميل أكثر أسلحته شهرة: إذ تمتلئ هذه البراميل بمتفجرات عالية الطاقة وشظايا معدنية. تقوم قوات الجو السورية بإلقاء هذه القنابل من طائرة هليكوبتر محلقة على علو مرتفع لتجنب مضادات الطائرات، إذ أنه من المستحيل التصويب فيها مهما كانت دقة الأجهزة المستخدمة. أما قنابل البرميل، فتهوي بكل بساطة مطلقة صافراتها المرتفعة، في حين يهتز محتواها قبل أن يلامس الأرض منفجرا.
وتجدر الإشارة إلى انعدام دقة هذه القنابل، مما يدفع قوات الجو السورية تجنب استخدامها بالقرب من خطوط المواجهة خوفا من أن تطال جنودهم، فتقوم بإطلاقها في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، علما بأنها ستدمر المباني السكنية، المستشفيات، المدارس وغيرها من المنشآت المدنية، مما دفع بعض المدنيين مِن مَن لم يغادروا البلد لنقل عائلاتهم قريبا من تلك الخطوط مفضلين مواجهة القناصة وقوات المدفعية عوضا عن رعب البراميل المتفجرة.
ذاك هو إذن الوجه الجديد لتفاهة الشر، فحين شرع النظام السوري في مهاجمة المدنيين بالأسلحة الكيميائية، قام مجلس الأمن بالضغط على الأسد للتوقف وتسليم سلاحه. غير أنه في ضل مواصلة النظام السوري قتل عدد أكبر من المدنيين في هجمات عشوائية باستعمال أسلحة مصادق عليها، يكتفي مجلس الأمن المعطل من قبل روسيا بالمشاهدة دون رد فعل، في حين تكتفي عدة بلدان بالتنديد بالمجازر المرتكبة بعيدا عن المبادرة بالضغط ومحاولة الحد مما يحدث.
هذا وقد أدى هذا الاهتمام الانتقائي إلى أن يقدم المجندون المتطرفون أنفسهم في صورة المواجه الوحيد لفظاعات نظام الأسد مما يجعل مهاجمة داعش غير كافية للتقليص من جاذبيتها، إذ يجب حماية المدنيين بالإضافة إلى ذلك.
الفوضى المصرية
وأثناء ذلك، أراد الجنرال السابق والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي سحق التطلعات الديمقراطية في ميدان التحرير. لكن وإن كانت حكومة محمد مرسي الرئيس الأول المنتخب ديمقراطيا في مصر والمنتمي للإخوان المسلمين، بعيدة كل البعد عن الكمال، فإنَّ إخلالاته لا يمكن أن تُقارَن بما يتعرض له الشعب المصري الآن تحت حكم النظام المهمين من قبل العسكر الذي صعد إثر انقلاب 3 يوليو 2013.
14 أغسطس 2013، 12 ساعة فحسب، سلط فيها السيسي ووزير الداخلية محمد إبراهيم عملية قمعا وحشيا ضد الإخوان المسلمين ومؤيديهم في حين هاجمت قوات الأمن قرابة ال817 متظاهرا سلميا في ساحة رابعة بالقاهرة في مجزرة هي الأكثر دموية منذ تلك التي قمعت بها الصين الحركة الديمقراطية في ساحة “تيان آن من” سنة 1989.
غير أنه خلافا للأدلة الدامغة التي جمعتها هيومن رايتس واتش ومجموعات أخرى، حملت لجنة تحقيق أقرها مرسوم رئاسي من السيسي الإخوان المسلمين مسؤولية الدماء المسفوكة، مدعية أن لجوء قوات الأمن للعنف كان نتيجة لمبادرة المتظاهرين بإطلاق النار، وتضيف هذه اللجنة بأن الأمن قد اتخذ كل التدابير اللازمة للحد من عدد الضحايا والسماح للمواطنين بالهروب في سلام، في رواية معارضة تماما للأدلة التي جمعتها هيومن رايتس واتش ومخالفة لتصريحات ممثلي الحكومة أنفسهم قبيل المجزرة. تصريحات تنبأت بسقوط ما يفوق ال3500 قتيل.
وليست مجزرة رابعة سوى المثال الأكثر دموية لقمع تضاعف مع بسط السيسي لقبضته على السلطة، إذ قامت قوات الأمن باعتقال عشرات الآلاف ممن يُشتَبَهُ في انتمائهم للإخوان المسلمين دون تهمة أو محاكمة، بالإضافة إلى عدد من الناشطين العلمانيين، في حين أصدرت المحاكم المصرية أحكاما بالإعدام في حق العديد إثر محاكمات جماعية دون السماح للمتهمين بفرصة حقيقية للدفاع عن أنفسهم. هذا وقد فاضت السجون ومراكز الشرطة بالنزلاء الجدد ممن سجلت في صفوفهم العديد من الوفيات.
هذا ويعتبر رد فعل الغرب على هذا القمع غير المسبوق مخز وغير لائق، إذ بدأت واشنطن في إرسال المساعدات العسكرية للقاهرة في حين لم تبد أي حكومة غربية ميلا لمعاينة تجاوزات نظريتها العسكرية عن قرب. من جهته يعتبر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أن الإصلاح السياسي المصري ليس سوى مسألة وقت، حيث يعتبر أن الانقلاب لم يهدف سوى ل”استعادة الديمقراطية” وأن الانتخابات التي أقصت الإخوان المسلمين جسدت “الانتقال نحو الديمقراطية”.
رسالة لكامل المنطقة
يعتبر دعم نظام السيسي القمعي كارثة قضت على الأمل في مصر ديمقراطي ورسالة مروعة للمنطقة برمتها، إذ أصبح بإمكان داعش التأكيد على أن العنف هو السبيل الوحيد أمام الإسلاميين، بما أنه كان من السهل إزاحة أولئك الذين وصلوا للحكم عبر انتخابات نزيهة، دون صدى يذكر لدى المجتمع الدولي. وقد بدئ ذلك يؤتي أكله بالفعل في سيناء، حيث أعلنت الجماعة المصرية المتمردة الملقبة بأنصار بيت المقدس ولاءها لداعش. وسجلت 2014 سقوط 900 من مدنيين، مشتبه بهم وأفراد من قوات الأمن في محافظة شمال سيناء التي يسيطر عليها أنصار بيت المقدس.
أما في مايخص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فقد شهدت السنة المنصرمة دفعة جديدة من العنف الدامي في غزة أين تم ارتكاب جرائم حرب من الطرفين بصفة دورية.
دائما إسرائيل فلسطين ..
وجهت حماس وغيرها من الجماعات المسلحة في غزة مئات الصواريخ وقذائف الهاون عشوائيا باتجاه تجمعات سكنية إسرائيلية، معرضة مدنيين فلسطينيين للخطر بإطلاقها النار من مناطق مأهولة. وفي نفس الوقت قضت عشرات الآلاف من الصواريخ، القنابل والهجمات المدفعية الإسرائيلية على قرابة ال1500 مدنيا في غزة، مؤدية إلى تدمير غير مسبوق للمنازل والبنى التحتية المدنية، في إطار تعريف شامل لمفهوم الهدف العسكري المشروع الذي يتم على أساسه سن هجوم دون توفر هدف عسكري واضح مع إمكانية سقوط مدنيين.
هذا ولم تعتد إسرائيل على مطالبة جيشها بتقارير عند انتهاكه لقوانين الحرب، في حين لم تبد حماس أي نية للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبها المقاتلون الفلسطينيون.
وتجدر الإشارة إلى أن من شأن تدخل محكمة الجنايات الدولية الحد من جرائم الحرب التي يرتكبها الطرفان ومنح الضحايا قدرا أدنى من العدالة. هذا وقد انضمت فلسطين للمحكمة في ديسمبر 2014، بصفتها دولة مراقبة في الأمم المتحدة، مما يمنح لها حق التحقيق في جرائم الحرب المسلطة أو المرتكبة انطلاقا من الأراضي الفلسطينية، مما يجعل من مذكرتها سارية المفعول على طرفي الصراع. وخلافا للمنظمات الدولية التي تخضع لسياسات عدة، تُسَيَّر محكمة الجنايات الدولية من قبل مدع عام محترف، الغامبية فاتو بنسودا: محامية شهرت برصانتها، نزاهتها وعقلانيتها، والتي لم تبد يوما أي عداء تجاه إسرائيل.
وعلى الرغم من هذه الوعود بعدالة نزيهة، قامت الحكومات الغربية بتبني الخطة الغير مناسبة فيما يخص محكمة الجنايات الدولية. فقد قامت بتسليط ضغوط على فلسطين لمنعها من الالتحاق بالمحكمة، في حين يبحث الكونغرس الآن في سبل تسليط عقوبات نتيجة لقيامها بذلك. وتدعي هذه الدول بأن تورط داعش سيودي بمسار السلام وإن كان بصدد الاحتضار، في حين تقوم بتبني موقف مناقض إزاء كل الحلول الأخرى علما منها بأن الحد من جرائم الحرب هو الشرط الوحيد لبناء الثقة المفضية لسلم بناء. ولم يقدر أحد على تفسير اعتبار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة.
“الأسباب الوجيهة” لاستبعاد حقوق الانسان
الحافز الوحيد للحكومات الغربية هو حماية الإسرائيليين من ملاحقة قضائية محتملة. غير أن أسلوب التعاطي الانتقائي هذا لا يمكن أن يحميهم، ولا أن يحمي الفلسطينيين المعرضين باستمرار لجرائم الحرب. من جهة أخرى، فإن هذه السياسة تودي بقوة وشرعية العدالة الدولية في العالم أجمع بإفساحها المجال للانتقادات الجازمة بكونها حكرا على دول هي الأضعف بين حلفائها.
وفي كل الأحوال، فإن المشرعين يدعون امتلاكهم لحوافز وجيهة للحد من دفاعهم عن حقوق الإنسان، باعتبارهم أن هذه المفاهيم تفرض قيودا تناقض مبدأً يقضي باتخاذ التدابير الأمنية اللازمة في مواجهة ما يُطرَح من تهديدات. غير أن السنة المنصرمة تثبت قصور هذه الرؤية.
وعليه تجدر الإشارة إلى أن حقوق الانسان ليست مجرد قيود عشوائية مفروضة على الحكومات، بل هي انعكاس قيم أساسية مشتركة، عميقة الجذور، ضرورية لحماية كرامة واستقلال الانسان. والمكاسب القصيرة المدى التي تتحقق في مقابل خرق حقوق الإنسان تكلفنا ثمنا باهضا. وعوضا عن اعتبار حقوق الانسان عبئا ثقيلا، يجدر بالمشرعين لأن يتخذوا منها سبيلا للإرشاد الأخلاقي من شأنه أن يقود نحو الأفضل.
المصدر: سليت الفرنسية