مع اقتراب الموعد النهائي للمفاوضات بشأن اتفاق الدول الست الكبرى مع طهران حول برنامجها النووي، لا تخلو الصحف العالمية والعربية من السؤال عن إمكانية توقيع الاتفاق وتداعياته على الإقليم، وتعلو نبرة الخلاف في واشنطن بين إدارة أوباما وخصومه الجمهوريين إلى الحد الذي استدعى نتنياهو للمشهد بخطاب هو الأول من نوعه أمام الكونجرس، ويكتنف السؤال مجموعة أخرى من الأسئلة، فهل واشنطن تستعد لنهج مختلف في الشرق الأوسط يتبع اتفاقًا مزمعًا مع طهران؟ وهل هي حقًا بصدد التخلي عن حلفائها فيه؟
سياسة الاحتواء كسلوك دبلوماسي
أصل الحكاية يعود إلى العام 1946 عندما أرسل المؤرخ والدبلوماسي الأمريكي جورج كينان أو السيد “إكس” برقية دبلوماسية مطولة من موسكو مكونة من نحو 8000 كلمة إلى وزير خارجيته في واشنطن جورج مارشال، والتي كانت بمثابة نقطة بداية للفت الانتباه ولفتح نقاش موسع حول سياسة أمريكية مزمعة تجاه الاتحاد السوفييتي، كينان نشر برقيته فيما بعد بإيعاز من وزير خارجيته في مجلة “الشؤون الدولية الأمريكية” تحت عنوان “مصادر السلوك السوفييتي”، باسم مستعار هو السيد “إكس”، هذه البرقية وعلى عكس الشائع في أوساط الباحثين العرب هي التي أسست لمذهب المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأمريكية وهو المذهب الذي حمله وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر على عاتقه وصولًا إلى اليوم، مقال أو برقية كينان تحدثت عما أسماه “سياسة الاحتواء” كطريقة للتعامل مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة.
قال كينان “إنه وطالما لم يبادر الاتحاد السوفييتي بمهاجمة الولايات المتحدة فإن عليها ألا تهاجمه، وأن تعتمد بدلًا من ذلك على العصا والجزرة الاقتصادية، وكذلك على الدبلوماسية والعمل الاستخباراتي، فضلًا عن الترويج لصحة وحيوية الرأسماليات الديمقراطية بغية الفوز بالحرب الباردة، صحيح أن الروس يتطلعون إلى توسيع نفوذهم الإقليمي والدولي، لكن ومع ذلك، فإن على الولايات المتحدة الأمريكية، أن تبنى سياساتها على أساس بعيد المدى، وأن تلتزم الصبر والحزم معًا، مع توخي اليقظة التامة في احتوائها للنزعات التوسعية الروسية”، كان في اعتقاد كينان أنه وبمرور الوقت، فإن الاتحاد السوفييتي آيل للانهيار من تلقاء نفسه، بسبب ضعفه وانعدام تماسكه الداخلي، وبسبب تمدده بعيدًا وعلى نحو منهك واستنزافي، خارج حدوده السياسية والجغرافية، وهو ما ثبت فيما بعد.
الحديث عن سياسة الاحتواء التي بلورها كينان كان هو نقطة الانطلاق التي اعتمدتها السياسة الخارجية الأمريكية في التعامل مع التهديد الإيراني عقب اندلاع الثورة في ذلك البلد ، بل ومع دول أخرى مجاورة شكلت تهديدًا لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في مراحل لاحقة كالعراق؛ ففي الثمانينات ترجمت سياسة الاحتواء في صورة فرض حظر على الأسلحة الأمريكية والمواد ذات الاستخدام ذاته التي كانت تُباع لإيران، فضلًا عن تقديم المساعدة إلى العراق في حربه ضد إيران، ثم في التسعينيات بعد تحول الولايات المتحدة عن دعم العراق وفي أعقاب عملية عاصفة الصحراء، قامت الولايات المتحدة باتباع سياسة الاحتواء المزدوج لمنع كل من إيران والعراق من تهديد منطقة الخليج، سياسة الاحتواء المزدوج ساهمت في زيادة القيود التجارية المفروضة على إيران (التجارة مع إيران كانت متواصلة حتى مع حظر بيع السلاح في الثمانينات) وفرض حظر شامل على التعامل الاقتصادي مع إيران في فترة ولاية الرئيس كلينتون الأولى، وقد أدى استمرار الضغوط الداخلية لفرض عقوبات مشددة، إلى إصدار المزيد في قانون العقوبات ضد إيران وليبيا في العام 1996، والذي عوقبت بموجبه الشركات الأجنبية التي تستثمر في صناعة النفط الإيرانية لتتوقف عن ذلك، في العقد التالي، فرضت الولايات المتحدة عقوبات إضافية، وخاصة على القطاع المالي الإيراني، بما في ذلك فرض عقوبات على البنك المركزي الإيراني بحلول نهاية العام 2011، تزامن ذلك مع حشد القدرات العسكرية الأمريكية لصالح حلفائها في الخليج لتعزيز سياسة الاحتواء ضد إيران عبر تعظيم قدرات جيرانها .
ولم تتوقف سياسة الاحتواء عند العقوبات إذ تزامنت أيضًا مع جهود أمريكية مباشرة لتغيير النظام سياسيًا، ففي عام 1994 على سبيل المثال، وجه بعض أعضاء الكونغرس نحو 18 مليون دولار إلى وكالة المخابرات المركزية لتقويض الحكومة الإيرانية، وفي عام 2006، خصص الكونغرس 75 مليون دولار لتغيير النظام في إيران عبر دعم المنظمات غير الحكومية المعارضة للنظام، وصولًا للعام 2009 الذي ظهرت فيه موجة الحركة الخضراء التي مثلت صحوة للمعارضة بلغت ذروتها في العام 2011 .
لم يختلف الساسة في واشنطن جمهوريين كانوا أو ديمقراطيين على انتهاج مثل هذا المسار مع التهديد الذي تمثله إيران، فحتى مع الإدارة التي سبقت الرئيس أوباما وفي عهد جورج بوش الابن وتحديدًا مطلع العام 2008 تحدثت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس عن ضرورة مجابهة إيران عبر دعم حلفاء واشنطن في منطقة الخليج، وتعزيز دفاعات الحلفاء الإقليميين فيها كالسعودية، في ذات العام 2008 قال الأدميرال ويليام فألون قائد القيادة المركزية الأمريكية في رحلة إلى البحرين إن الولايات المتحدة لا تبحث عن تعاون مباشر مع الناتو ضد إيران، مشددًا على أن الحلفاء في منطقة الخليج يمكنهم أن يمثلوا ضمانة للقيام بذلك، هذا الكلام أعاده الجنرال ديفيد بتريوس، وكذلك وزير الدفاع روبرت غيتس، اللذين تحدثا عن تعزيز التعاون الدفاعي مع حلفاء واشنطن في منطقة الخليج لردع النفوذ الإيراني.
رسم وبناء الستار الأخضر
لكن ثمة أسئلة ملحة فرضتها البيئة السياسية والجغرافية المحيطة بإيران، إذ إن سياسة الاحتواء التي تحدث عنها كينان ترتبط بشكل وثيق بمدى قدرة الولايات المتحدة على رسم ما أسماه “الستار الأخضر” أو Green Curtain حول الاتحاد السوفيتي وقتها، وهو ما سعت واشنطن للإجابة عنه فيما يتعلق بإيران، رسم الستار الأخضر حول طهران وهو بتعريف مختصر، ذلك الحزام الهادئ الذي يحد من تمددها جغرافيًا عبر نفوذ عسكري وسياسي وهو ما لم يكن بالأمر الهين، إذ صادفه ثلاثة عوامل مهمة صعبت من فروض سياسة الاحتواء ووسعت من مهمتها وأضافت إليها مهام أخرى أكثر تعقيدًا وعلى أصعدة عدة، ولنشرع في شرح هذه العوامل:
أولًا: العراق ما بعد الحرب
بعد حرب العراق أدرك الأمريكيون أنهم أمام حقيقة لا يمكن الفرار منها، تتعلق بدور إيراني محتوم في تشكيل مستقبل العراق ما بعد صدام حسين، وهو الأمر الذي يحمل أبعادًا إستراتيجية وأيديولوجية، واتجه الأمريكيون إلى القبول بمثل هذا المعطى ومحاولة التعامل معه عبر لغة المصالح المشتركة بافتراض أن “إيران والولايات المتحدة يهمهم استقرار العراق” كما سبق وأعلنت وزير الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، شكّل النفوذ الإيراني في العراق أزمة كبيرة لسياسة الاحتواء الأمريكي ومحاولة رسم الستار الأخضر حول إيران، التي تعرضت لتراجع كبير مع استعار النزاع الطائفي في ذلك البلد والذي رسخ النفوذ السياسي الإيراني أيديولوجيًا .
ثانيًا: تداعيات الربيع العربي
كانت سياسة الستار الأخضر حول إيران تفترض بالضرورة استقرارًا سياسيًا وأمنيًا في الشرق الأوسط بالشكل الذي يسمح بتقوية حلفاء واشنطن المعادين لإيران بشكل يسمح بتقويضها، والحديث هنا عن دول الخليج ومصر في عهد مبارك الذي كان لنظامه عداء دبلوماسي مع إيران شجعه الأمريكيون، بيد أن التحولات السياسية والاجتماعية التي جاء بها الربيع العربي لم تفاجئ واشنطن كثيرًا لكنها وبحسب وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون “خالفت توقعات الإدارة الأمريكية في حصول التغيير بصورة نمطية ” وهو النهج الذي كانت تدعمه واشنطن والذي بدوره يحافظ على رسوخ الأنظمة الداعمة لسياستها في المنطقة مع الضغط باتجاه إصلاحات سياسية عبر جماعات المعارضة يؤمن فرص الانتقال السياسي الحتمية خارج إطار العصف ببنية الدول العربية التي تحتاجها واشنطن في مجابهة إيران، عصف أدركت واشنطن منذ البداية أنه سيوفر صعودًا سهلاً لحلفاء إيران في الشرق الأوسط إذا ما أرادت ذلك .
ولا يغيب عن الذكر هنا، صعود تيارات أخرى غير مرتبطة بدول، اللاعبون غير الدول Non-state actors ، كتنظيم الدولة وجماعات المعارضة والميليشيات المسلحة في سوريا والعراق، والتي رغم ما أثارته من تهديد لبنية الدول العربية إلا أنها ساعدت في تحويل مناطق النفوذ والتمدد الإيراني إلى مساحات من الفوضى التي تعرقل التواجد الإيراني الواضح ومن ثم تقلل من مكاسبه .
ثالثًا: ممرات في الستار الأخضر
نجحت إيران في خرق سياسة الستار الأخضر الأمريكي حولها عبر دعمها السياسي والعسكري لحلفائها الأيديولوجيين في المنطقة حتى تمكّنوا من بسط نفوذهم السياسي على عواصم عربية عدة بل ودفع واشنطن وحلفائها الخليجيين إلى القبول بذلك كأمر واقع لا مناص منه .
لم تقف واشنطن مكتوفة الأيدي أمام هذه العوامل، وحاولت إعادة توجيه المسار وتوخي النتائج، فعندما يتعلق الأمر بالأزمة السورية وتداعيات الربيع العربي بشكل عام، فإن واشنطن استطاعت تشكيل تحالف عربي خليجي سني عسكري لمواجهة تنظيم الدولة في الوقت الراهن بشكل يسمح بأهداف أخرى مستقبلية (تشكيل قوة عربية مشتركة بمبادرة من الجامعة العربية)، وهو ما فطنت إليه طهران وتحاول مجابهته عبر توسيع نفوذها العسكري في العراق بدعوى المساهمة في الحرب على تنظيم الدولة (أعلنت واشنطن عن معلومات لديها حول قيادة رئيس الحرس الثوري الإيراني للعمليات في تكريت) هذا أولاً، ثانيًا ، فإنها ولأول مرة استطاعت تحويل الخطاب السردي في المنطقة العربية بشكل يعتبر إيران الخطر الأمني الأكبر وهو ما سيساعد على استلام مجلس التعاون الخليجي لدفة المواجهة وترسيخ مبدأ الدفاعات الخليجية الذي قد يحول الستار الأخضر الأمريكي حول إيران لستار دفاعي خليجي حولها بما يحقق الهدف ذاته .
وتستدعي التحركات الإيرانية التوسعية التي تأخذ شكلاً دفاعيًا كما في الحالة السورية وهجوميًا كما في الحالة اليمنية، ذلك العامل الذي ساهم في تفكيك وانهيار الاتحاد السوفييتي، وهو تمدده بعيدًا وعلى نحو منهك واستنزافي خارج حدوده السياسية والجغرافية، وهو ما تحدث عنه مساعد أوباما السابق لشؤون الشرق الأوسط فيليب غوردن واصفًا إياه بالقفز الانتحاري، غوردن تحدث أيضًا عن إدراك أمريكي لاستغلال إيران الربيع العربي لتدشين موجة صعود لتياراتها في المنطقة، وهو ما حدا بواشنطن للتشجيع على قيادة أممية للانتقال السياسي في اليمن تحديدًا وبخلاف عواصم الربيع الأخرى.
مجرد اتفاق أم سياسة شاملة
وأمام هذه الصورة الأوسع في محاولة فهم النقطة التي وصلت إليها واشنطن في مفاوضاتها حول ملف إيران النووي يمكننا أن ننتقل لمرحلة التدقيق في ماهية النهج الأمريكي، يبدو جليًا أن الولايات المتحدة ووفقًا لسياسة الاحتواء تحاول تقويض قوة طهران عبر بناء تحالف (ستار أخضر) حولها يأتي تاليًا على عقوبات أنهكتها بشدة، والابتعاد عن المواجهة المباشرة لصالح الاهتمام بقضايا إستراتيجية مستقبلية تلوح في أفق أسيا عبر الصعود الصيني، ورغم ما صادف سياسة الاحتواء من عوامل ذكرناها إلا أن واشنطن استطاعت وبأقل الخسائر أن تحول مسارها إلى ما يخدم سياستها حيال طهران بل ويرتب المنطقة إستراتيجيًا لذلك .
ومن هنا فإن واشنطن ماضية قدمًا في إعلان اتفاق نووي مع طهران، إذ تبدو المنطقة رغم استعار الحرب فيها أكثر استعدادًا من أي وقت مضى لحصول ذلك، فعدم توقيع الاتفاق في هذه اللحظة سيؤدي بالتبعية إلى فرض العقوبات وتشديدها مجددًا على نطاق أوسع ما سيستتبعه بالضرورة تصعيد إيراني في وتيرة برنامجها النووي طالما أنها تملك إمكانية التخصيب وخروج بطئ من حيز السيطرة الأممية على أنشطتها بل وتوسيع أكبر لمهام حلفائها في المنطقة.
أما توقيع الاتفاق فسينقل إيران ولو نظريًا من مرحلة العقوق إلى الاحتواء بشكل يساعد على تخطي أو على الأقل يعطل من مرحلة المواجهة معها عمليًا بخضوعها لنظام صارم من المراقبة النووية، فيما يبدو الستار الأخضر العربي السني أكثر استعدادًا على مواجهة الخطر الأمني الإيراني المحتمل، وهي النقطة التي تمثل قلقًا كبيرًا لحليفها إسرائيل التي بدأت تشعر أن واشنطن تضغط على زر “التوقف” عندما يتعلق الأمر بمواجهة طهران لكنها في نفس الوقت تنسحب من الشرق الأوسط لصالح تحالف عربي سني قوامه خليجي في دفة القيادة .
ويبرز السؤال عن مدى الدعم الذي سيحصده الاتفاق المزمع داخليًا في الولايات المتحدة؟ فخطاب وزير الخارجية الإسرائيلي بنيامين نتانياهو حول الاتفاق أمام الكونجرس والخلافات الحادة بين الجمهوريين والديمقراطيين لا تبدو رغم حدتها عاملاً معرقلاً لحدوث الاتفاق، ذلك أن النقاش الفعلي الذي يدور في أروقة صناعة القرار في واشنطن لا يدور بالأساس حول عاصفة توقيع الاتفاق وإنما حول الترتيبات المزمعة لانعكاساته على الإقليم والتي يجري التحضير لها على قدم وساق في عواصم متصلة بإعلانه أو بالأحرى نجاح سياسة الاحتواء ولو مرحليًا، ويظهر أن المملكة العربية السعودية هي الدولة المعنية بمثل هذا الإعلان، وهو ما يفسر التنسيق العالي المستوى بين واشنطن والرياض هذه الأيام والذي تبدو صورته جلية في تحركات المملكة المكثفة لتشكيل تحالف جديد في المنطقة يعمق من سياسة الستار الأخضر حول طهران ويتجاوز الخلافات الوقتية مع أنقرة أو بين أنقرة ومصر السيسي التي هي جزء من معادلة الستار الأخضر هي الأخرى، وهذا حديث متصل آخر عن الصورة التي ستبدو عليها المنطقة بعد الاتفاق المزمع، ربما يتسع له مقام لاحقًا.
————————————–
مراجع
– محاضرة جورج كينان، “تدابير قصيرة للحرب الدبلوماسية” كلية الحرب البحرية محاضرات، 16 سبتمبر 1946.
– إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة (2006)، يمكن الاطلاع عليه عبر:
https://georgewbush-whitehouse.archives.gov/nsc/nss/2006
– باربرا سلافين، المال، والميليشيات: كيف تمارس إيران نفوذها في الشرق الأوسط معهد الولايات المتحدة للسلام، 2008
– مناقشة الإجراءات السرية المختلفة التي تم إطلاقها مؤخرًا ضد إيران، ديفيد سانجر، “ديناميكيات أميركا القاتلة مع إيران”، نيويورك تايمز، 5 نوفمبر 2011.
– محسن ميلاني، “طهران: فهم السياسة الأمريكية في إيران”، مجلة الشؤون الخارجية 2009.
– فريدريك هري، تأثير العراق: الشرق الأوسط بعد حرب العراق مؤسسة راند، 2010.
– مايكل ماكوفسكي، “سياسة أوباما مع إيران، التحول إلى الاحتواء”، واشنطن بوست، 9 ديسمبر 2011
– احتواء إيران، إيريك لوبير، 2012، مجلس سياسات الشرق الأوسط، واشنطن