برز مصطلح اليمين المتطرف في القارة العجوز والعالم الغربي، وحط رحاله في لبنان، حيث يستخدمه الإعلام والمحللون اليوم لوصف بعض الأحزاب اللبنانية المسيحية، التي باتت تأخذ في تصريحاتها مسارًا متطرفًا، كما يظهر في سلوكياتها عنف وتحريض على العنف، ومن المرجح أن فرنسا وعلاقتها الوثيقة بتلك الأحزاب هي التي نقلت كل من المصطلح والفكر معًا إلى لبنان.
ويتربع حزب القوات اللبنانية على قائمة الأحزاب المسيحية اليمينية المتطرفة، يليه حزب الكتائب اللبناني، ويحفل سجل كل من الحزبين بتاريخ دموي طويل، لا سيما خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
حتى يومنا تبرز تصريحات وتحركات كل من الحزبين، ابتداءً من مهاجمة اللاجئين والتحريض والاعتداء عليهم، إلى مهاجمة كل قرار عليه إجماع إسلامي لبناني حتى لو كان بسيطًا كقضية تأجيل تقديم الساعة في رمضان 2023، ما أحدث بلبلة كبيرة في لبنان واحتقان الشارع، وتنشط تلك الأحزاب المتطرفة تحت عنوان “حماية المسيحيين وعدم إلغائهم”، ما أدى إلى استمالة أغلب الشارع المسيحي ونجاحهم في الانتخابات. فما أفكار تلك الاحزاب؟ وما تاريخها؟
مسألة لجوء السوريين في لبنان بالنسبة لنا هي خطر وجودي فعلي يهدد وطننا.
— Samir Geagea (@DrSamirGeagea) April 19, 2024
نشأتهم ومشاركتهم بالحرب الأهلية
تأسس حزب الكتائب كحركة قومية شبابية سنة 1936 على يد بيار الجميّل وهو من أقدم الأحزاب اللبنانية، وكان يعد حركة كشفية شبه عسكرية بوجه مسيحي ماروني تدعو إلى استقلال الكيان اللبناني بذاته، وذلك في مواجهة “كشاف المسلم” الذي كان يدعو آنذاك إلى الوحدة السورية والعربية.
وحزب الكتائب حسب مبادئه هو حركة ديمقراطية اجتماعية شارك في “حركة الاستقلال” ضد الانتداب الفرنسي (1941-1943)، وحمل بعد الاستقلال شعار “الإصلاح السياسي” و”التعايش” مع المسلمين في بلد متعدد الطوائف، لكنه من جهة أخرى كان أحد الأطراف الأساسية في الحرب الأهلية اللبنانية التي نشبت في السبعينيات (1975-1990) وشطرت لبنان إلى قسمين متصارعين: قسم شرقي وكانت الكتائب اللاعب الأبرز فيه لسنوات وآخر غربي، وحزب الكتائب هو من أسس حزب القوات اللبنانية كجناح عسكري له، لكنه سرعان ما انفصل عنه وصار اليوم حزبًا منفردًا بذاته.
ومن المعروف وجود علاقة تجمع الكتائب بـ”إسرائيل”، فتعود الاتصالات الأولى بينهما إلى 1951، حين طلبت قيادة الحزب مساعدة مالية تحضيرًا للانتخابات النيابية، وقدّم حينها وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه شاريت لها مبلغًا من المال.
وحزب الكتائب هو من بادر بحادثة “البوسطة” الشهيرة التي قتل فيها فلسطينيون خلال عودتهم إلى مخيم تل الزعتر، والتي بدورها أطلقت فتيل الحرب الأهلية في 13 أبريل/نيسان 1975، وخاضت بعدها الكتائب حرب شوارع ضد أحزاب فلسطينية ولبنانية وارتكبت أفظع الجرائم ونصبت حواجز للقتل العشوائي على الهوية.
وفي 16 سبتمبر/أيلول 1982، قام إيلي حُبيقة، أحد قيادي الكتائب باقتراف مذبحة صبرا وشاتيلا حين جرى قتل نحو 500 لاجئ فلسطيني في حي صبرا ومخيم شاتيلا، تحت حماية الجيش الإسرائيلي الذي طوق المخيم وعزله، منعًا لهروب الفلسطينيين.
وسبقتها مذبحة وإبادة مخيم تل الزعتر الذي كان قائمًا في شرق بيروت في أواخر يونيو/حزيران عام 1976 حين حاصره الجيش السوري (الحليف للقوات المارونية اللبنانية اليمينية)، وارتكبوا إبادة جماعية بحق سكان المخيم الذي يقطنه 20 ألف فلسطيني و15 ألف لبناني مسلم، ارتكبت فيه أفظع الجرائم والمذابح.
في عام 1990، وصلت الحرب اللبنانية إلى نهايتها، ونفي بعدها زعيم الكتائب حينها أمين الجميّل إلى فرنسا، ومع وجود القوات السورية في لبنان انطفأت شمعة الكتائب، لكن سرعان ما عاد أمين الجميل إلى لبنان في يونيو/حزيران 2000.
تم انتخاب بيار أمين الجميل نائبًا عن قضاء المتن، ما يشير إلى نهضة حزب الكتائب. ومع عودة آل الجميل إلى الكتائب وانقسام لبنان إلى قوتين رئيسيتين، شهد الحزب مجددًا تحولًا في توجهاته، فانضم إلى قوى 14 آذار المناوئة لسوريا، في مواجهة قوى 8 آذار التي حافظت على علاقتها الجيدة مع سوريا. ويعد حزب الكتائب اليوم من الأحزاب الأكثر عداءً لـ”حزب الله” اللبناني.
خسر حزب الكتائب نوابه في البرلمان اللبناني خلال موجة التفجيرات التي شهدها لبنان، حيث اغتيل النائب بيار أمين الجميل عام 2006، ثم اغتيل النائب أنطوان غانم في 19 سبتمبر/أيلول 2007، وفي عام 2020 قُتل الأمين العام للكتائب نزار نجاريان في تفجير مرفأ بيروت أغسطس/آب 2020.
ولا يختلف تاريخ حزب القوات عن الكتائب كثيرًا، فهو منظومة عسكرية أسسها بشير الجميل سنة 1976 لتكون الذراع العسكرية للجبهة اللبنانية، يعني أن تكون قوات عسكرية قتالية تحسبًا لتحديات تحيط بمسيحيي لبنان بحسب تعريفهم، لكنها كانت إحدى أهم الأطراف المتصارعة في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وخاضت معارك عديدة ضد الحركة الوطنية اللبنانية والمنظمات الفلسطينية.
عرفت بعد اغتيال الجميّل سنة 1982 عدة تغييرات على قيادتها وبدأت تأخذ استقلاليتها عن المكتب السياسي الكتائبي، وبعد عدة انتفاضات على قيادتها الشرعية وتَصارع بين المنتفضين استتبّ الوضع لسمير جعجع رئيسها الحاليّ، بعد أن انتفض على إيلي حبيقة المرتكب لمجزرة صبرا وشاتيلا، دخلت القوات اللبنانية التي أصبحت تحت سيطرته في صراع دموي مع وحدات الجيش الموالية لرئيس الحكومة العسكرية ميشال عون بين 1989 و1990 سلمت القوات اللبنانية أسلحتها بعد اتفاق الطائف وتحولت إلى حزب سياسي.
لكن القوات اللبنانية لم تكتف بجرائمها ضد الأحزاب المسلمة والمسلمين، بل تفننت في القتل العشوائي حتى بين المسيحيين المخالفين لأهوائها، ففي عام 1994 اتهم قائد القوات سمير جعجع بعدة جرائم كان أحدها تفجير كنيسة سيدة النجاة، كما اتهم باغتيال طوني فرنجيّة نجل رئيس الجمهورية السابق سليمان فرنجيّة واغتيال رئيس الوزراء رشيد كرامي والعديد من الجرائم الأخرى، فأدى ذلك إلى الحكم على جعجع بالسجن المؤبد وحظر القوات.
رفع الحظر مع خروج الجيش السوري من لبنان سنة 2005 وأطلق سراح سمير جعجع بعفو. وهو الآن يرأس الهيئة التنفيذية للقوات، التي حصلت على 18 مقعدًا في المجلس النيابي الحاليّ.
أبرز أفكارهم اليمينية
تستمد الأحزاب اللبنانية اليمينية أفكارها وحضورها منذ الحرب الأهلية من فرنسا وخاصة الأحزاب الفرنسية المتطرفة كحزب الجبهة الوطنية، هذا على خلفية تقارب إيديولوجي وسياسي، أكّده مؤسس الحزب جان ماري لوبان في تصريح لصحيفة “لوموند”، قال فيه: “لدينا عاطفة خاصة تجاه لبنان، وأعتقد أنها متبادلة وتجمعنا توازيات إيديولوجية وسياسية مع المسيحيين هناك”.
وتعود العلاقات القوية بين حزب “الجبهة الوطنية” وقسم من ممثلي اليمين المسيحي في لبنان، إلى فترة الحرب الأهلية اللبنانية، فخلال هذه الحرب، التحق العديد من كوادر حزب “الجبهة الوطنية” بمليشيات حزبي “الكتائب” و”القوات اللبنانية”، وقاتلوا إلى جانبها.
تصدّر "حزب القوات" اللبناني حملة التحريض ضد اللاجئين السوريين بعد مقتل باسكال سليمان، إذ أصدر الحزب بياناً صحفياً يحسم بأن "الأمن استتب في سوريا" ولا بد من عودة اللاجئين، كما أطلق سمير جعجع، رئيس حزب القوات، تصريحات أقل ما توصف به بأنها مليئة بالتحريض والحث على العنف، واصفاً… pic.twitter.com/CVQrAqVld6
— Daraj Media (@Daraj_media) April 20, 2024
وفضلًا عن هذه العلاقة التاريخية بين “الجبهة الوطنية” والتيارات المسيحية اللبنانية، هناك حضور لافت لعدد من اللبنانيين من حملة الجنسية الفرنسية، في أجهزة الحزب الفرنسي. ويتمتع الحزب الفرنسي المتطرف الذي يرفع منذ عقود شعار “الدفاع عن مسيحيي الشرق في مواجهة المد الإسلامي”، بقاعدة انتخابية وازنة بين أوساط لبنانيين وفرنسيين متحدرين من أصول لبنانية، كما أن للحزب جمعية ناشطة في لبنان، هي جمعية “الجبهة الوطنية – لبنان”.
لهذا يطلق الكثير من المسيحيين لقب “الأم الحنون” على فرنسا المستعدة على ما يبدو لمدهم بالسلاح من أجل البقاء لو استلزم الأمر، ومن أبرز مطالبهم زيادة صلاحيات رئيس الجمهورية، التي – بحسب رأيهم – قلصها اتفاق الطائف ووزعها بين رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب.
ومن أبرز أفكارهم أيضًا خاصة خلال الحرب أن الموارنة هم أصل لبنان، لذا تكونت أحزابهم اليمينية من تلك الطائفة، كذلك يميلون إلى القومية الفينيقية وليس العربية، فهم كارهون للوجود العربي، ووصلوا إلى حد كتابة المراسلات باللهجة اللبنانية المكتوبه بالحروف اللاتينية لمقاومة العروبه والتعريب. وقد عارضت الكتائب وكافحت من أجل عزل لبنان عن الفكر العروبي إبان الانقلاب العسكري في مصر وحكم عبد الناصر، حيث يعتبرون لبنان بلد ليبرالي فينيقي.
إن أكثر المتضررين من هذه العقلية الانعزالية الدموية هم المسيحيون في لبنان، فقد أجبرهم سمير جعجع والأحزاب المتطرفة على خوض معارك تحت شعار حماية الوجود المسيحي، بينما في الواقع أسفر هذا النهج عن عزل المسيحي اللبناني عن محيطه الطبيعي، وتهجير قسم كبير منهم من مناطقهم، وهجرة عدد أكبر إلى خارج لبنان، عدا عن أن صاحب هذا الشعار “حماية المسيحيين” تاريخه حافل في الخوض في دماء المسيحيين اغتيالًا وقتلًا، وفصول الحرب الأهلية اللبنانية معروفة.
سياستهم الحالية وأبرز الأحداث
في الوقت الحاليّ بات كل من حزب القوات والكتائب، حزب سياسي يشارك في الانتخابات بعد أن تخلى عن السياسة العسكرية العنيفة، ومن الواضح جدًا عدائهما القوي لحزب الله ومهاجمته كلما سنحت لهما الفرصة، يختلفان اليوم معه في كل القضايا الوطنية وأبرزها كرسي رئيس الجمهورية الذي ما زال شاغرًا حتى يومنا هذا نتيجة الخلافات التي تجمعهم.
يمنع كل من الحزبين في مناطق سيطرتهم الوجود السوري الكثيف، وكذلك التحرك في أثناء الليل بحسب بلدياتهم، وبالطبع يرفضون الوجود الفلسطيني ويدعون إلى سحب سلاحه من المخيمات، ناهيك بالتضييق عليهم في مجال العمل، وآخر حوادث القوات مهاجمة شبان سوريين وعائلات وتهديدهم نتيجة مقتل أحد القياديين في القوات من عصابة سورية، هذا السلوك العنيف أعاد إلى أذهان اللبنانيين العقلية الميليشياوية، فالتصعيد ضد السوريين في لبنان يعتبر مسارًا متصاعدًا لعودة اليمين المسيحي المتطرف إلى عقلية زمن الحرب الأهلية، واستعادة مفرداتها متمثلة بحزب القوات اللبنانية الطرف الأكثر إجرامًا خلال مراحل تلك الحرب، وصاحب السجل الأسود في الاستقواء بـ”إسرائيل”.
توجه إليهما تهم كثيرة أبرزها العمالة لـ”إسرائيل” حتى يومنا هذا، فلا يمانع جمهور كل من الحزبين إبرام معاهدة سلام مع “إسرائيل”، رغم عدم اعتراف قياداتهما بذلك بشكل صريح، بحجة الفوضى الخلاقة والفساد الذي يعيش فيه لبنان، ومن أبرز مواقفهما الشنيعة رفضهما التعاطف مع غزة رغم المجازر الإسرائيلية، وتكرار جملة “أهم شيء عدم توريط لبنان” بحسب سمير جعجع زعيم القوات، أما سامي الجميل زعيم الكتائب فاعتبر “لبنان أولًا ونحن نتفنن بالتعاطف مع الخارج”، حسب تصريحه في أثناء صدور قرار الإضراب لأجل غزة آخر السنة الماضية، وهذا يدل عدم التعاطف مع القضية أو حتى الإبادة.
تعزيزًا لموجة العنصرية التي يتعرضون لها.. رئيس حزب القوات اللبنانية، #سمير_جعجع، يحرّض على ممارسة العنف ضد اللاجئين السوريين، بذكره مغالطات وأكاذيب عن الشعب السوري #لبنان #سوريا pic.twitter.com/QAn6iy6Vco
— نون بوست (@NoonPost) April 20, 2024
وقد لمح أيضًا المطران الشهير للروم الأرثوزكس متروبوليت بيروت إلياس عودة المقرب من الأحزاب اليمينية أن غزة لا تعنينا عبر تصريح “لم يمت أحد لأجلنا، لما علينا أن نتكبد خسائر ودفع الثمن”، وأكد ضرورة إبعاد لبنان عن أحداث غزة.
وتصاعدت لهجة عدم التعاطف والتجاهل أمام أحداث غزة إلى الشارع اليميني المسيحي الذي رفض حملات المقاطعة للبضائع الداعمة لـ”إسرائيل” والتضامن، وحتى الإضراب لأجل غزة، وعبر جمهور هؤلاء عن آرائهم عبر هشتاغ #لبنان_أولا.
وهكذا، تمارس الأحزاب اليمينية المتطرفة في لبنان، رفقة رجال الدين، تحريضًا واسعًا في الشارع المسيحي، متذرعة بحماية المسيحيين، فتخلق لهم الأعداء الوهميين من أجل استمرار وجودها وتحشيد الجمهور حولها عبر تخويفهم من الآخر، لكن المسيحيين في لبنان كانوا دائمًا جزء أصيل من تركيبة المجتمع، وليس من المقبول بقاء لوثة الحرب الأهلية متعششة في ذهن السياسيين الطائفيين في هذا البلد الذي تحكم الطائفية كل مؤسساته.