أظهرت الأزمة الخليجية - الخليجية التي اختلف المحللون بشأن أسبابها، تباينًا في أهمية أدوار اللاعبين الإقليميين والدوليين، فمن جهة فإن التزامن الغريب بين زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لكل من المملكة العربية السعودية و"إسرائيل" بهدف تشكيل الناتو "العربي" المزعوم وتسريع وتيرة التصعيدات ضد قطر، يخلق مبررًا لإشارة العديد من المحللين إلى ضلوع أمريكا بشكل مباشر في هذه الأزمة، مع أن التصريحات الرسمية لم تتضمن أي تبادل للاتهامات أو خروج عن اللغة الفائقة الدبلوماسية بين كل من ممثلي الطرفين الأمريكي والقطري.

وعلى الجهة الأخرى اقتصر دور روسيا وبضع دول أوروبية على الدعوة للتهدئة والحوار، ويعد الموقفان الألماني والفرنسي هما الأكثر تقدمًا أوروبيًا، أما إيران فقد تمكنت من إيجاد فرصة جديدة لمواجهة المملكة العربية السعودية من خلال محاولة التقرب مجددًا من قطر مستفيدةً من قربها الجغرافي مما قد يُمكِن قطر من تقليل أضرار الحصار البري المفروض عليها. 

عربيًا لم تُظهر المنظمات العربية مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الخليجي أي مواقف واضحة، أما على صعيد الدول العربية فقد تباينت المواقف ما بين منحاز لأحد أطراف الأزمة وداعم لجهود الحوار والتهدئة، وضمن سياق المشهد العربي فإن دولة الكويت أظهرت الموقف الأكثر تقدمًا حينما أخذت على عاتقها دور الوسيط الرسمي لحل الأزمة.

أما بالنسبة للدور التركي فيبقى الأكثر تأثيرًا (حاليًا على الأقل)، ففي حين أعلنت الدولة التركية وعلى رأسها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الرغبة في التوسط بين الأطراف الخليجية لحل الأزمة، فإن الخطوات التي استجابت من خلالها للأزمة كانت صاحبة التأثير الأكبر، حيث أظهرت دعمًا كبيرًا لقطر، مما ساهم بشكل فعلي في كسر العزلة الدبلوماسية والتجارية (نظريًا) المفروضة على قطر.

نشر جنود قادمين من تركيا والتي هي عضو أساسي في حلف الناتو ورقة ضمان يقدم الأتراك من خلالها دعمهم الحقيقي لدولة قطر

فقد قام البرلمان التركي بإقرار مشروع قانون للتعاون العسكري يتم بموجبه تسريع نقل جنود أتراك للقاعدة العسكرية التركية الموجودة في قطر، ولا تزال الأنباء عن عدد الجنود غير دقيقة، حيث يجري الحديث إعلاميًا عن 3 آلاف جندي، ولكنَّ بضعة وسائل الإعلام تفيد أن عدد الجنود قد يفوق ذلك. 

قد تبدو هذه الخطوة للوهلة الأولى كرادع استراتيجي لأي تحرك عسكري ضد قطر، ولكن أهمية هذه الخطوة حقيقةً تكمن في رمزيتها، حيث يبدو نشر جنود قادمين من تركيا والتي هي عضو أساسي في حلف الناتو ورقة ضمان يقدم الأتراك من خلالها دعمهم الحقيقي لدولة قطر.

ومن جهة أخرى ظهر في الشارع التركي بعض التجمعات الشعبية المتضامنة مع قطر والرافضة لوسمها بالإرهاب، كما عبر ناشطون أتراك على وسائل التواصل الاجتماعي عن دعمهم لقطر، ورد عليهم نظراؤهم القطريين برسائل الشكر، ولم يقتصر الأمر على التواصل الاجتماعي فحسب، بل ذهب أبعد من ذلك لتبادل الدعم بين وسائل الإعلام الرسمية والمحللين والباحثين في كلا البلدين.

أمّا على الصعيد التجاري واللوجستي فقد استجابت تركيا لأزمة انخفاض مخزون الأغذية في الأسواق القطرية من خلال مد جسور إمداد من خلال الشحن الجوي، لتملأ السلع التركية رفوف المحال التجارية في قطر في شهر رمضان والذي يعد فترة حساسة جدًا نظرًا لزيادة الطلب على السلع الاستهلاكية.

ومن الجدير بالذكر أن هذا التقارب التركي - القطري ليس وليد اللحظة، بل إنه نتيجة لسلسلة متتابعة من التفاهمات السياسية والتجارية والتي بلغت ذروتها بعيد دعم قطر لشرعية حزب العدالة والتنمية في مواجهة الانقلابيين، إذًا فإن هذا التقارب يمثل بلا شك واحدًا من أهم الأسباب التي تدفع تركيا باتجاه الدفاع عن استقلالية القرار القطري، ضد ما أسمته الرواية القطرية "الوصاية".

في الحقيقة إن عمق التقارب ودرجة التماهي في وجهات النظر بشأن أهم الملفات في المنطقة (أطراف النزاع في سورية، دعم الإخوان المسلمين في مصر وسائر أرجاء المنطقة، الموقف من حماس… وغيرها)، يفتح أفقًا لتطوير العلاقات التركية - القطرية لما قد يفوق الشراكة الاستراتيجية مستقبلًا، لذا فإن أي "وصاية" على صناعة القرار في قطر سوف تجعل ظهر تركيا مكشوفًا، وستبقيها وحيدة في مواجهة العديد من التيارات المضادة، وهو الأمر الذي قد يمثل مأزقًا لأنقرة خاصةً في ظل عدم وضوح موقعها من تحالفات ترامب الأخيرة واستمرار التخوف داخليًا من ارتدادات جديدة للانقلابيين أو ما يسمى الكيان الموازي الذي تديره منظمة فتح الله غولن الإرهابية.

كان الحذر بطبيعة الحال سمة التحركات الدبلوماسية للمسؤولين الأتراك الذين أبدوا حرصًا على القيام بدور الوسيط، وحاولوا جاهدين عدم القيام بأي فعل استفزازي للمملكة العربية السعودية تحديدًا

لكن وفي المقابل أظهرت الجبهة الدبلوماسية بعض الاختلاف، حيث كان الحذر بطبيعة الحال سمة التحركات الدبلوماسية للمسؤولين الأتراك الذين أبدوا حرصًا على القيام بدور الوسيط، وحاولوا جاهدين عدم القيام بأي فعل استفزازي للمملكة العربية السعودية تحديدًا، خوفًا من اندلاع أزمة سعودية تركية، قد تعمل على تحويل موقف تركيا من الوسيط المحايد إلى الخصم المباشر.

وهو الأمر الذي لا تتمناه تركيا نظرًا للأهمية الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية كقوة إقليمية من جهة وكشريك تجاري مربح من جهة أخرى، فقد كان من المخطط رفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين ليبلغ قرابة الـ20 مليار دولار في المستقبل القريب، وهو الأمر الذي يعد مهمًا جدًا للاقتصاد التركي في ظل انتكاساته المتعاقبة بسبب العمليات الإرهابية والحرب في سوريا ومحاولة الانقلاب في تركيا تموز 2016.

إن مراقبة التصريحات الرسمية الصادرة عن الأطراف المعنية بهذه الأزمة (تصريحات المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص) تظهر أن القرارات قد اتُخِذت بشكل حاسم وبما لا يقبل أنصاف الحلول، وبما أن الرد القطري لم يكن لينًا ولم يُظهر أي تنازلات حتى الآن، فإن احتمال فشل الوساطات والتصعيد الشامل غير مستبعد على الإطلاق.

وفي ظل الدعم التركي الكبير لقطر، فإن نشوب أزمة سعودية تركية موازية للأزمة الخليجية تبقى موجودة بالفعل ضمن الحسابات، في حال عدم مقدرة أنقرة على الإبقاء على مستويات التوتر منخفضة، لكن وبنفس الوقت، فإن خسارة قوة إقليمية صديقة بحجم وموقع وأهمية تركيا، لن يكون أيضًا من مصلحة المملكة العربية السعودية خصوصًا بالنظر إلى عمق صراعها مع إيران وشدة التوترات المحيطة بها.

إن هذا يطرح سؤالًا مهمًا وهو إلى أي مدى يمكن أن تستمر تركيا باستراتيجية الدعم الحذر لقطر دون أن تخسر صداقاتها في المنطقة؟ تبدو الإجابة متعلقة بتقييم أهمية تركيا بالنسبة للمملكة العربية السعودية وحلفها الجديد، ولكن الأمر المؤكد أن تركيا حريصة كل الحرص على الوجود ضمن اللاعبين الأساسيين في الساحة الخليجية.

ولفهم هذا الحرص ينبغي إدراك الأهمية الاستراتيجية لهذه الفرصة حيث إنها المرَة الأولى التي يتمكن فيها الساسة الأتراك من إيجاد موطئ قدم في الخليج العربي منذ سقوط دولة الخلافة العثمانية، خاصّةً في ظل الاهتمام الكبير للساسة الأتراك بالشرق والذي لا يمكن إنكاره، والذي ازداد كنتيجة لخيبات الأمل الناجمة عن المعوقات التي يحرص الاتحاد الأوروبي على وضعها في وجه عضوية تركيا.

الإدارة التركية تريد دورًا فاعلًا في الحل أيًا كان السيناريو المطروح للخروج من هذه الأزمة، ولكنها بذات الوقت ستعمل جاهدة لإبقاء علاقاتها الخليجية بمنأى عن انعكاسات الأزمة الحالية دون أن تساوم على استقلالية حليفها الأقرب قطر

كما ينبغي لفهم الاهتمام التركي بمنطقة الخليج العربي، التعمّق في تحليل المنظور التركي للشرق الأوسط، حيث تجد تركيا نفسها ملزمة بحماية وتوسيع مداها الجيواستراتيجي وطبقات نفوذها في المنطقة باعتبارها وريث طبيعي لنفوذ الدولة العثمانية، ولا يبدو هذا المنطق غريبًا عن "العمق الاستراتيجي" للجمهورية التركية كما فهمه السيد أحمد داوود أوغلو والذي وعلى الرغم من انتهاء صلاحياته الرسمية لا يزال تأثيره حاضرًا ليس فقط في الأوساط الأكاديمية بل أيضًا في سياسات تركيا الخارجية دون أدنى شك وذلك بسبب سنوات خدمته الطويلة والتي يمكن اعتبارها فترة إعادة الصياغة لسياسات تركيا. 

إذًا الإدارة التركية تريد دورًا فاعلًا في الحل أيًا كان السيناريو المطروح للخروج من هذه الأزمة، ولكنها بذات الوقت ستعمل جاهدة لإبقاء علاقاتها الخليجية بمنأى عن انعكاسات الأزمة الحالية دون أن تساوم على استقلالية حليفها الأقرب قطر.