غموض كبير اكتنف مصير زيارة البابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية لأمريكا، فطوال الأشهر الماضية، انتشرت شائعات التأجيل، واقترنت لدى البعض بأسباب سياسية داخلية، على رأسها غضب الأقباط من الانتهاكات المتكررة بحقهم، وآخرها الهجوم على منازلهم في قرية دمشاو بالصعيد، وحتى يخرج البابا من هذه الدائرة، سافر بالفعل في وقت متزامن مع زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأمريكا، رغم إصداره في السابق عدة تمهيدات، منها خطاب موجه منه إلى أساقفة أمريكا، يزعم فيه أن التأجيل المحتمل إن تم، سيكون خلفه أسباب رعوية وعلاجية.
جمد البابا الأخبار عن زيارته لأمريكا، حتى يتم التنسيق مع الدولة بشأن المطالب اللوجستية المطلوبة لزيارة السيسي لأمريكا، وبعدما اتضحت الصورة، حرص على إزالة جذور الشائعات، عن العلاقة بين الكنيسة والدولة في مصر لدى الشعب القطبي، وهي خط أحمر، وتدخلت الكنيسة دائمًا بقوة للتحكم فيها وإبعادها عن أي مناطق شك لدى المسيحيين، وخاصة في أوقات الأزمات، لذا كانت تصدر لهم دائمًا فرمانات، تؤكد أنه مهما حدث من اعتداءات أو انتهاكات بحقهم، يجب أن تكون العلاقة بين الكنيسة والدولة وخاصة في شكلها الحاليّ، على مسافات قريبة للغاية، لا تسمح بتعكير الصفو أو انعكاسات سلبية، قد يعاني منها الجميع.
طوال الأشهر الماضية، استعر الحديث بين المصريين عن عدم وضوح خط فاصل بين الدور الوطني للكنيسة وممارسة دور سياسي ديني مرفوض
الرحلة الرعوية للبابا إلى الولايات المتحدة، كما وصفتها الكنيسة، تم تمديدها لتنتهي يوم 11 من أكتوبر الحاليّ، بعدما كان مقررًا له الانتهاء قبل أيام، أسُرف نصفها الأول في السياسة وعقد لقاءات مع الأقباط بمختلف الولايات الأمريكية، وحثهم على حسن استقبال الرئيس، بعدما لاحظت الكنيسة وجود فتور في العلاقة بين الأقباط والنظام السياسي الحاليّ، بسبب عدم تنفيذ الأحلام الخيالية التي كانوا على بعد خطوة منها، سواء في إقرار قانون العبادة الموحد الذي يعطيهم نفس صلاحيات بناء المساجد دون تعقيدات أمنية، أم رفض إقرار نظام الجلسات العرفية لحل الأزمات الطائفية، كما كان الحال في السابق، وهي البنود التي رفضتها أجهزة سيادية وأبقت عليها، بما أشعل الغضب في نفوسهم.
البابا تواضروس: “يجب الصبر ٢٠ عامًا على السيسي واستقباله ليس سياسة”
رفض البابا بحسم جميع الانتقادت التي كانت تواجهه، في كل زيارة من زياراته للولايات المتحدة، وهو يحث فيها على استقبال السيسي بحفاوة، فكان يتجنب الحديث عن الأوضاع في مصر بشكل عام، ويكتفي فقط بسرد ما أنجزته الكنيسة خلال السنوات الماضية في مواجهة التحديات، وتلخصت ردوده في توضيح موقفه من مطالبته للمسحيين باستقبال الرئيس خلال حضوره فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، خاصة بعد علمه بالهجوم الشرس عليه، ليس فقط من الشعب القبطي، ولكن من العلمانيين المسيحيين الذين اتهموه بتسيس الدين والزج به في أمور سياسية.
طوال الأشهر الماضية، استعر الحديث بين المصريين عن عدم وضوح خط فاصل بين الدور الوطني للكنيسة وممارسة دور سياسي ديني مرفوض، فرغم العلاقة التاريخية للكنيسة مع رؤوس السلطة في مصر، فإن الباباوات كان لديهم دائمًا حس سياسي، يجعلهم يتخذون مواقفهم بناء على الحالة النفسية للمصريين عامة والمسيحيين بشكل خاص، وكان البابا شنودة الثالث، أكثر من يتخذ المواقف بذكاء شديد بناءً على ذلك، وهي الميزة التي تبدو منعدمة عند البابا تواضروس.
مواقف شنودة أصبحت حاضرة طوال الوقت على السوشيال ميديا في مواجهة تجمد تواضروس وعدم وضوح موقفه في أغلب المشكلات التي تعرض لها المسيحيون خلال السنوات الماضية
وسبق للبابا الراحل، الاحتجاج بالاعتكاف في دير الأنبا بيشوى بوادي النطرون، بسبب عدم الإفراج عن 154 من الشباب القبطيين المحبوسين في أحداث كنيسة العمرانية، واعتبر الإجراءات التي تمت بحق المسيحيين وقتها، فيها تعنت واضح من السلطات ضد الشباب المسيحي المحبوس، في الوقت الذي لم تلتفت الدولة لمعاناة نحو 154 أسرة قبطية تم تشريدها، وبالفعل كانت رسالة البابا شديدة القوة، إلى الأجهزة التنفيذية، بعد اهتمام العديد من وسائل الإعلام العالمية بموقف شنودة الذي رفض في الوقت نفسه الحديث معهم عن مشاكل الأقباط، ولم يسرد لأي مسؤول زار مصر وطلب مقابلته أي مشكلة طائفية، ورغم ذلك، كانت مواقفه كفيله بإيضاح صوته وموقفه مما يجرى، بما كان يكفل علاقة متوازنة بين الكنيسة والدولة.
مواقف شنودة أصبحت حاضرة طوال الوقت على السوشيال ميديا في مواجهة تجمد تواضروس وعدم وضوح موقفه في أغلب المشكلات التي تعرض لها المسيحيون خلال السنوات الماضية، رغم انغماسه في السياسة بشكل لا يكلف الأقباط إلا النقد الشديد من باقي أطياف المصريين، بسبب الزج بالكنيسة واستخدام صلاحياتها الدينية في التوجيه السيسي، ورغم ذلك لم يظهر للبابا أي رد فعل سياسي، تجاه أحداث قرية دمشاو هاشم بالمنيا، وتعرية سيدة الكرم وغيرها، وهي الأزمات التي كانت تتصدى لها الكنيسة، وتضع بعض الحلول العاجلة لها مع الدولة، ولكن يبدو أن تواضروس يرفض أي مواجهة مع المؤسسات المعنية بالشأن القبطي، ويتركها تتحمل مسؤولياتها إزاء ذلك.
وحرص البابا في لقاءاته مع المهاجرين الأوائل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، على إبصارهم بضرورة عدم توجيه انتقادات جارحه للنظام السياسي المصري، بما يضع الكنيسة في حرج معه، وذكرهم بدعم الكنيسة للمسار السياسي الذي تعيشه مصر منذ 2013، وتأكيده على المكانة المميزة للكنيسة مع السيسي رغم كل ما يحدث من انتهاكات لا يراها أكثر من ميراث لعقود من التسلط على الأقباط في العهود السابقة.
أقباط بلا سياسة
منذ قدوم البابا تواضروس لرئاسة الكرازة المرقسية بعد وفاة البابا شنودة الثالث، والرجل يحكم قبضته جيدًا ويمنع اندفاع دماء السياسة إلى شرايين الكنيسة من جديد، خاصة بعدما انطفأ وهج الحركات الشبابية المسيحية على رأسها اتحاد شباب ماسبيرو، بما جنب الكنيسة من وجهة نظره، الكثير من ويلات الاستقطاب السياسي والمجتمعي الذي دار خلال السنوات الماضية، رغم العواقب الأكثر شراسة التي تواكب عزل الأقباط عن الانخراط المباشر في العمل السياسي والمجتمعي.
إستراتيجية الكنيسة المصرية تسير دائمًا في اتجاه واحد، في ظل اعتقادها أن الشعب المسيحي بمصر – كما تطلق عليه الأعراف الدينية الكنسية – متحاب ومتجانس ولا خوف عليه
ورغم تعالي الأصوات الرافضة من علمانيي الكنيسة، لقصر قنوات الاتصال مع الدولة على الكنيسة والسلطة السياسية، فإن الاتفاق الضمني والعرفي بين الطرفين يسير على أفضل ما يكون منذ عقود، وتشير سياقات الأحداث دائمًا، إلى قناعة الطرفين بآليات حل المشاكل القبطية في مصر، سواء في تسوية معظم أزمات الأقباط خارج إطار القانون، عبر احتواء التوترات الدينية بالجلسات العرفية، أم منح الكنيسة اليد الطولى للتحكم بمصير الأقباط.
وفي المقابل تعطل الدولة بأريحية مبادئ المواطنة وسيادة القانون على الجميع بصورة كاملة، حتى لا تضع نفسها في مواجهات كالتي حدثت من قبل مع اتحاد شباب ماسبيرو الذي لجأ للشارع للمطالبة بحقوقه الدينية والسياسية، باعتبار أفراده الذين يعبرون عن المسيحيين مواطنين مصريين، بدلاً من انتظار تفاوض الكنيسة مع النظام والجود عليهم بالفتات، بما سبب أزمات كبرى من وجهة نظر الأجهزة المعنية، لدولة ليست لديها الجاهزية السياسية والفكرية والدينية والمجتمعية لذلك.
المثير في الأمر، أن إستراتيجية الكنيسة المصرية تسير دائمًا في اتجاه واحد، في ظل اعتقادها أن الشعب المسيحي بمصر ـ كما تطلق عليه الأعراف الدينية الكنسية ـ متحاب ومتجانس ولا خوف عليه سواء من الأصوات العالية على السوشيال ميديا الرافضة لحلول الغرف المغلقة لقضايا الأقباط، أم علمانيو الكنيسة الذي يعملون بجد منذ سنوات للزج بالطائفة القبطية إلى المجال السياسي بهدف زيادة التأثير القبطي في الحياة السياسية إلى أقصى حدّ ممكن، بما يمكنها من المشاركة في تقرير مصير المجتمع.
ولا ترى الكنيسة حتى الآن، أي حاجة في أن يكون للمسيحين صوت واحد، رغم تأكيد الواقع في بلدان كثيرة عاشت نفس الظروف المصرية، أن الممارسات السياسية الناضجة، الأفضل لجميع أبناء الوطن على حد سواء، عبر المشاركة الفردية في الأحزاب والتكتلات السياسية والجماعات والحركات المختلفة، وفقًا للميول السياسية لكل فرد، وليس لكونه مسيحيًا ترعى شؤنه وأفكاره وأهدافه ومصالحه كنيسة تمارس عليه وصاية أبوية لا معنى لها في العصر الحاليّ.