
مساء يوم الأحد الفائت، تجاوز لبنان قطوعًا كاد يشعل فتنة كبيرة، في ظل احتقان كبير يعيشه البلد على خلفية الأزمة الاقتصادية الحياتية المتفاقمة من ناحية، والسياسية التي تمنع تشكيل حكومة حتى اللحظة من ناحية ثانية، وانقسام حاد يأخذ طابعًا طائفيًّا ومذهبيًّا بين القوى السياسية من ناحية ثالثة.
وقد كان ذلك على خلفية ثأرية كادت أن تتحوّل إلى مواجهة طائفية ومذهبية، عندما حصل اشتباك مسلَّح بين مجموعة من أنصار "حزب الله" من ناحية، وأبناء منطقة خلدة من عشائر العرب في جنوب بيروت من ناحية ثانية.
وقد سقط في الاشتباك عدد من القتلى والجرحى، وسادت المنطقة حالة من الرعب والخوف والقلق، فيما تكثّفت الاتصالات السياسية على أكثر من مستوى لمنعِ تفاقُم الوضع، كما قام الجيش اللبناني بعزل المنطقة حتى لا تتمدّد المواجهات إلى مناطق أخرى.
خلفية الاشتباك
بالعودة إلى أسباب الاشتباك، فقد قام أحد أبناء عشائر عرب خلدة من آل غصن بإطلاق النار على أحد عناصر "حزب الله" (علي شبلي)، خلال حفل زفاف في بلدة الجيّة جنوب بيروت، وذلك على خلفية ثأرية وانتقامًا لمقتل شقيقه (حسن غصن، 14 سنة) في أغسطس/ آب من العام الماضي في منطقة خلدة، خلال اشتباك مسلَّح بين أبناء المنطقة وعناصر موالية لحزب الله.
وقد اتُّهم في حينها علي شبلي بقتل الفتى غصن بشكل متعمّد، وطالبت عشائر عرب خلدة في حينه تسليم المتّهم شبلي إلى القضاء اللبناني لمحاكمته، غير أن الرواية تقول إن الوساطات تمكّنت من وضع حلٍّ للمشكلة في حينه عبر دفع ديّة لأهل الفتى المقتول، بينما ينفي ذوو المقتول غصن ذلك، ويقولون إنّهم أعطوا عامًا كاملًا من أجل تسليم شبلي نفسه للقضاء لمحاكمته.
ولمّا لم تفلح الاتصالات في ذلك، أخذوا بمبدأ الثأر الذي تعمل به العشائر، وقام شقيق حسن غصن بتعقُّب علي شبلي إلى حفل الزفاف، ثم قام بإطلاق النار عليه من مسدس حربي فأرداه قتيلًا، ثم سلّم نفسه بعد ذلك للأجهزة الأمنية والقضائية اللبنانية معترفًا بجريمته.
وخلال اليوم الثاني للحادثة، أثناء تشييع شبلي في منطقة خلدة، وفي ظل أجواء الاحتقان السائدة، حصل الاشتباك الذي سقط فيه 4 قتلى وعدد من الجرحى، وكاد يتحوّل إلى مواجهة مفتوحة بين عشائر العرب و"حزب الله".
دعا "حزب الله" الدولة إلى القيام بدورها وواجبها وتوقيف المشاركين في إطلاق النار والتسبّب في مقتل عدد من مؤيّديه في خلدة، ومحاكمتهم على فعتلهم.
وقد اختلفت رواية كلّ من الطرفَين حول حادثة الاشتباك مساء الأحد، حيث قال "حزب الله"، في بيان صادر عنه، إن موكب تشييع شبلي تعرّض لكمين في منطقة خلدة، خلال مروره نحو منزل العائلة الكائن في المنطقة، ما أدّى إلى سقوط عدد من عناصره ومؤيّديه بين قتيل وجريح.
أما عشائر عرب خلدة قالت إن اتصالات جرت معهم من أجل تأمين مرور آمن لموكب الجنازة إلى منزل العائلة، وقد التزموا بذلك، غير أنهم أضافوا أن المشاركين بالموكب أطلقوا عبارات استفزازية، كما قاموا بإطلاق الرصاص على صورة للفتى المقتول حسن غصن، فضلًا عن تمزيقها.
استفزّت تلك الأفعال أبناء العشائر في المنطقة الذين أطلقوا النار، ما أدّى إلى سقوط ضحايا قبل أن يتدخّل الجيش اللبناني ويطوِّق الاشتباك ويحول دون تطوّره أو امتداده إلى مناطق أخرى، وقد واكبَ كل ذلك حركة اتصالات كثيفة على أكثر من مستوى وبين أكثر من طرف، صبّت كلها في خانة التهدئة وقطع الطريق على الفتنة السنّية الشيعية.
المواقف والتحرُّكات
منذ اللحظة الأولى لإطلاق النار وسقوط قتلى وجرحى، انطلقت حركة اتصالات كثيفة على أكثر من مستوى وبين العديد من المراجع السياسية والأمنية والعسكرية، كما كانت للعديد من القوى السياسية مواقف من الحادثة شدّدت كلّها على مخاطر الانزلاق نحو الفتنة.
أبرز هذه المواقف كانت من الطرفَين المشاركَين في الاشتباك. فعشائر العرب قالت إنها لا تريد أن تدخل هي أو أن تُدخِل لبنان في فتنة مذهبية سنّية شيعية، وأنها تحت القانون، وأن ما قام به أحد أفرادها (شقيق الفتى المقتول حسن غصن) يدخل في إطار الثأر، بعد أن اتُّهمت الدولة وأجهزتها بالتقاعُس عن القيام بواجبها في تعقّب الجاني ومحاسبته على فعلته العام الماضي أمام القضاء.
من جهته دعا "حزب الله" الدولة إلى القيام بدورها وواجبها، وتوقيف المشاركين في إطلاق النار والتسبّب في مقتل عدد من مؤيّديه في خلدة، ومحاكمتهم على فعتلهم، كما شدّد الحزب على عدم الانزلاق إلى الفتنة ورفضها.
على كل حال لبنان تجاوز هذه المرّة هذا المطب وهذا القطوع، غير أن النيران ما زالت كامنة تحت الرماد وفي النفوس في ظل تعبئة وتحريض من كل الأطراف.
إلى ذلك أصدر رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي، ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري، ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، بيانات شجبوا فيها ما حصل، ودعوا إلى التهدئة وإلى قيام الجيش وقوى الأمن والقضاء بدورهم لمنع انزلاق البلد إلى الفتنة.
كما دعا إلى ذلك كلّ من رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان، فيما تولّت الجماعة الإسلامية حركة اتصالات مع العديد من الأطراف لقطع الطريق على أية محاولة لجرِّ البلاد إلى أتون الفتنة، وكذلك فعلت هيئة علماء المسلمين في لبنان.
من جهته أكّد الجيش اللبناني رفضه لكل مظاهر السلاح، وحذّر من أنه سيقوم بإطلاق النار على أيّ مسلَّح في المنطقة.
من ناحية أخرى، اتهمت صحيفة "الأخبار" اللبنانية السفير السعودي في بيروت بإقامة علاقات مع عشائر العرب، في اتّهام ضمني للسعودية بتحريض العشائر على جرّ البلد إلى الفتنة والمواجهات.
على كل حال لبنان تجاوز هذه المرّة هذا المطب وهذا القطوع، غير أن النيران ما زالت كامنة تحت الرماد وفي النفوس، في ظل تعبئة وتحريض من كل الأطراف شهدتها منصات التواصل الاجتماعي، بلغت مستوى خطيرًا من الدعوة إلى القتل والقتال وسفك الدماء.
تهدّد هذه الأمور بالانزلاق إلى ما هو أخطر في المرحلة المقبلة في ظل أوضاع صعبة على المستويات كافة، وفي ظل انسداد أُفُق الحلّ السياسي، وتحويل لبنان إلى ساحة لتصفية الحسابات المحلية والإقليمية والدولية.
ويبقى أن يمرَّ قطوع ذكرى الرابع من أغسطس/ آب، الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت، والدعوات تتزايد من أجل رحيل الطبقة السياسية ومحاكمتها على ما حصل في المرحلة الماضية.