“قصة نجاح الخوذ البيضاء لم يكن الطرف الوحيد فيها هم الأبطال والمنقذون فقط.. كان هناك أبطال من نوع آخر ..أولهم الشعب السوري العظيم..” بهذه الكلمات المؤثرة لخّص رائد الصالح، وزير الطوارئ والكوارث السوري، والرئيس السابق لمنظمة “الخوذ البيضاء”، رحلة مؤسسة حملت على عاتقها مهمة الحياة وسط الموت، وواجهت قسوة الحرب بالإغاثة والإنقاذ، لتصبح واحدة من أكثر النماذج الإنسانية إلهامًا في العالم.
اليوم، في خطوة تُجسّد انتقالًا نوعيًا لمسيرة “الخوذ البيضاء”، أعلن الصالح رسميًا عن اندماج الدفاع المدني السوري ضمن وزارة الطوارئ، في إعادة هيكلة تهدف لتعزيز الاستجابة الإنسانية وتنظيم جهود الإنقاذ والإغاثة ضمن إطار مؤسساتي موحّد.
اندماج الدفاع المدني ضمن وزارة الطوارئ لا يُنظر إليه كخطوة بيروقراطية فحسب، بل كتتويج لمسيرة أكثر من عقد من الزمن من العمل الإنساني الشاق في قلب الحرب السورية، وإقرار رسمي بدور “الخوذ البيضاء” كرافعة وطنية وإنسانية لا غنى عنها في سوريا الجديدة.
ولأنّ هذه الخطوة لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة سنوات طويلة من التضحيات والعمل تحت النار، لا بد أن نعود إلى البداية، إلى تلك اللحظة التي وُلدت فيها فكرة “الخوذ البيضاء” من رحم الألم السوري، لتبدأ رحلة إنسانية استثنائية ستُخلَّد في ذاكرة التاريخ.
تاريخ التأسيس
في أواخر عام 2012 ومع تصاعد استخدام نظام الأسد البائد للقصف الممنهج لمعاقبة المناطق التي خرجت عن سيطرته، ظهرت الحاجة الملحّة إلى بدائل مدنية تسدّ الفراغ الإنساني والخدمي الذي خلّفه انسحاب مؤسسات الدولة.
كان هذا التحدي شرارة انطلاق لمبادرات تطوعية نشأت من قلب المعاناة، وضمّت مئات السوريين من خلفيات متباينة، جمعتهم إرادة واحدة هي إنقاذ الأرواح، فتأسست منظمة “الخوذ البيضاء” استجابةً للفراغ الإنساني في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
ومع مرور الوقت، تحولت هذه المبادرة إلى خط الدفاع الأول عن المدنيين تحت القصف، حيث واجه المتطوعون الموت بأيديهم العارية لإنقاذ الأرواح، وارتبط اسمهم بتلك الخوذ البيضاء التي كانوا يرتدونها خلال عمليات الإنقاذ، في مشهد بات رمزًا للأمل في زمن الخراب، رغم قلة الإمكانات وشدة المخاطر.
إحدى المحطات المفصلية في هذه المسيرة كانت في مدينة حلب، حين مُنع فريق إطفاء رسمي من إنقاذ حي سكني اشتعلت فيه النيران، فقط لأنه يقع في منطقة خارجة عن سيطرة النظام، لتبدأ بذلك قصة المقاومة الإنسانية بأيدي المدنيين أنفسهم.
عندها، تحدّى بعض العناصر القرار، وتوجهوا لإطفاء الحريق رغم التعليمات. وفي اليوم نفسه، أسسوا مركزًا محليًا للاستجابة لحالات الطوارئ، مفتوحًا لخدمة جميع السكان دون تمييز. هذه اللحظة شكّلت النواة الأولى لما سيصبح لاحقًا أحد أول مراكز الدفاع المدني السوري في محافظة حلب.
وفي دمشق وريفها، كما في إدلب ودرعا وحمص، سلك عشرات الشباب نفس الدرب، حيث راحوا يجتمعون في مجموعات تطوعية متفرقة، يؤسسون مراكز دفاع مدني بإمكانات متواضعة، ويحاولون بما توافر لهم من معدات بسيطة مواجهة كوارث القصف اليومي. لم تكن لديهم خبرات مسبقة، لكن الحافز الإنساني كان كافيًا لخلق طواقم إنقاذ محلية تنقذ الأرواح وتعيد الأمل تحت الرماد.
مع مطلع عام 2013، بدأت أخبار الفرق المتطوعة تنتشر بين المناطق، لتتعرف هذه المجموعات على بعضها البعض للمرة الأولى. هذا التواصل مهّد لإنشاء قنوات تنسيق بين الفرق، أسهمت في تبادل الموارد المحدودة وتوحيد الجهود. كما بدأت بعض المجموعات في تلقي تدريبات متخصصة على أساليب البحث والإنقاذ، مما رفع من جاهزيتها وكفاءتها الميدانية.
وفي 25 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2014، كان الاجتماع التأسيسي الأول في مدينة أضنة التركية، وحضره نحو 70 من قادة الفرق في سوريا، حيث وضعوا ميثاقاً للمبادئ الخاصة بالمنظمة لتعمل تحت القانون الإنساني الدولي، وتم الاتفاق على تأسيس مظلة وطنية لخدمة السوريين، وإطلاق اسم “الدفاع المدني السوري” عليها، وشعاره آية في القرآن الكريم، وهي: “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”.
ومع بداية عام 2015، أطلق الناس اسم “الخوذ البيضاء” على “الدفاع المدني السوري، بعد ملاحظتهم لجهودهم أثناء عمليات البحث والإنقاذ. فيما وصل عدد المتطوعين عام 2024 نحو 3300 متطوع بينهم أكثر من 260 متطوعة.
إنجازات المؤسسة
بين عمليات الإنقاذ، وتوثيق الجرائم، والتعامل مع الكوارث، كانت إنجازاتهم تتحدث عنهم في كل مناسبة، رغم حملات التشويه والشيطنة التي طالتهم. وفيما يلي، نستعرض أبرز محطات العطاء التي رسّخت مكانة “الخوذ البيضاء” كأحد أبرز رموز العمل الإنساني في سوريا الحديثة.
1- إنقاذ أكثر من 125 ألف مدني من تحت الأنقاض
منذ تأسيسها عام 2014 وحتى اليوم، نفّذت فرق الدفاع المدني آلاف عمليات الإنقاذ في مختلف المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وتمكنت من انتشال أكثر من 125 ألف شخص على قيد الحياة من تحت أنقاض القصف.
وحسب ما صرح به رائد الصالح في كلمته في مجلس الأمن في عام 2020 فإن “ما نقوم به ليس فقط إنقاذ أرواح، بل هو حماية للكرامة الإنسانية في وجه الإبادة المستمرة”.
2- مشروع “الراصد”
من أهم المشاريع التي أطلقتها المنظمة كان نظام “الراصد” للتحذير المبكر، الذي دخل حيّز التنفيذ في أغسطس/ آب 2016. وكان هدفه تقليل عدد ضحايا الغارات الجوية عبر إرسال تنبيهات فورية حول حركة الطيران الحربي في الأجواء السورية، ما يمنح المدنيين والكوادر الطبية والتعليمية وقتًا إضافيًا للاحتماء أو إخلاء المواقع المستهدفة.
واعتمد نظام الراصد على شبكة من المراصد المدنية الموثوقة التي تتابع حركة الطيران الحربي في الوقت الفعلي. تُجمَع هذه البيانات وتُحلَّل بسرعة لتوقّع المسارات المحتملة للطيران وتحديد المواقع التي قد تكون عرضة للاستهداف، مع تقدير وقت وصول الطائرات إليها. فيما تُنشر التحذيرات على الفور عبر قنوات متعددة تشمل وسائل التواصل الاجتماعي، وصفارات الإنذار التابعة للدفاع المدني، إضافة إلى أجهزة إنذار مثبتة في مواقع حيوية مثل المستشفيات والمدارس ومراكز الحماية، مما ساهم في حفظ عشرات آلاف الأرواح على مدى سنوات.
3- الإسهام في توثيق استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا
لعبت فرق الخوذ البيضاء دورًا حاسمًا في توثيق هجمات الأسلحة الكيميائية التي شنها النظام البائد ضد الشعب السوري عبر تصوير الأدلة الميدانية وتقديمها للمنظمات الدولية، بما فيها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
وفي تصريح لمتحدث باسم الخارجية البريطانية عام 2018 أكد أن “الخوذ البيضاء أدّت دورًا لا غنى عنه في كشف حقيقة استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية”.
4- الاستجابة للكوارث الطبيعية
في أعقاب زلزال 6 شباط 2023 الذي ضرب شمال سوريا وجنوب تركيا، كانت فرق الخوذ البيضاء من أوائل المستجيبين، وعملت لأيام متواصلة بموارد شحيحة على انتشال الضحايا وإغاثة العالقين، وقال رائد الصالح في تصريح خلال تلك الأيام: “نحن نواجه كارثة تفوق قدراتنا، لكننا لا نستطيع التوقف طالما هناك أمل بإنقاذ الأرواح”.
5- الخدمات الطبية والإسعافية العاجلة
عملت المنظمة على إنشاء نقاط إسعافية متنقلة وتدريب متطوعين على الإسعافات الأولية، بالإضافة إلى مساندة الكوادر الطبية في فترات القصف الشديد
6- برامج دعم مجتمعي وخدمة مدنية
عملت المنظمة على مشاريع لإزالة الأنقاض، وإعادة تأهيل المدارس، وتنظيف شبكات الصرف الصحي، ومساعدة الفئات الأكثر تضررًا كالأرامل والأيتام، رغم أن هذا الدور غالبًا ما يُغفل في الإعلام.
7- حملات التوعية والسلامة المجتمعية
أطلقت الخوذ البيضاء حملات للتوعية بمخاطر مخلفات الحرب، والتعامل مع الكوارث الطبيعية، والسلامة المنزلية، وصلت إلى آلاف العائلات في الشمال السوري.
الشيطنة الروسية
على مدى سنوات، قادت روسيا والنظام السوري حملة ممنهجة لتشويه سمعة منظمة الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء”، في محاولة لنزع الشرعية عن عملها الإنساني وتقويض دورها كشاهد مباشر على جرائم الحرب والانتهاكات، خصوصًا تلك المرتبطة بالهجمات الجوية والأسلحة الكيميائية.
اتخذت هذه الحملة أشكالًا متعددة، من اتهامات بالتعاون مع جماعات إرهابية، إلى ادعاءات بفبركة مشاهد الإنقاذ، مرورًا بترويج نظريات مؤامرة تتهم المنظمة بالتمثيل والخداع. ولعبت وسائل الإعلام الروسية الرسمية، مثل “RT” و”سبوتنيك”، دورًا محوريًا في بث هذه الروايات، إلى جانب شبكات منظمة من الحسابات الوهمية والمواقع المشبوهة التي ضاعفت من نشر التضليل.
ولم يتوانَ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن استغلال كل مناسبة للهجوم على منظمة “الخوذ البيضاء”، مجسدًا بذلك الموقف الرسمي الروسي الذي يتبنّى رواية تشكيكية وعدائية تجاه المنظمة. ففي مقدمة كتاب نُشر بعنوان “الخوذ البيضاء: شركاء الإرهابيين ومصدر التضليل”، وصف لافروف المنظمة بأنها “زائفة إنسانيًا”، واتهمها بالتعاون مع “إرهابيين” وفبركة هجمات كيميائية مزعومة بهدف شيطنة النظام السوري وتبرير التدخلات الغربية.
ولم تقتصر انتقاداته على المستوى الإعلامي، بل وجّه دعوات علنية لطرد أفراد الخوذ البيضاء من الأردن، واصفًا إياهم بـ”عملاء للغرب” شاركوا في “استفزازات مصورة”. كما زعم في تصريحات من موسكو أن المنظمة أُنشئت بدعم من أجهزة استخبارات غربية لتؤدي دورًا دعائيًا يشرعن التدخل في سوريا.
في المقابل اعتبر الصالح في تصريحات صحفية أن النظام وروسيا من خلال تشويه صورة الدفاع المدني يسعون لطمس معالم جريمتهم، ويرى أن السبب الرئيسي لما يتعرض له الدفاع المدني السوري من تشويه، هو محاولة روسيا والنظام “التخلص من الشهود على جرائمهم المختلفة، وكذلك بسبب المصداقية الدولية التي حازتها المؤسسة، إذ تتمتع بتواصل جيد مع العديد من الدول ومنظمات الأمم المتحدة المختلفة، وسبق أن زوّدتها بأدلة على الانتهاكات المرتكبة”.
لم تكن هذه الحرب الإعلامية عبثية أو عفوية، بل جاءت كرد مباشر على الدور الذي لعبته الخوذ البيضاء في توثيق الهجمات الكيميائية، مثل مجزرتي خان شيخون ودوما، وهي شهادات كانت محرجة ومُدانة أمام الرأي العام العالمي.
دور الدعم الغربي
حظيت “الخوذ البيضاء” منذ انطلاقتها بدعم كبير من دول غربية اعتبرتها ركيزة إنسانية في مناطق النزاع، وشاهدًا موثوقًا على الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين. لم يكن هذا الدعم عابرًا، بل جاء منسّقًا ومباشرًا، ماليًا وسياسيًا، في إطار سياسة أوسع لموازنة النفوذ الروسي داخل سوريا.
قدّمت الولايات المتحدة عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) أكثر من 23 مليون دولار، فيما ساهمت المملكة المتحدة بأكثر من 38 مليون جنيه إسترليني حتى عام 2018. كما شاركت دول أخرى كألمانيا، كندا، هولندا، الدنمارك، واليابان في تمويل عمليات المنظمة.
هذا التمويل غالبًا ما نُفّذ عبر شركات ومؤسسات متخصصة، مثل “Mayday Rescue” الهولندية، التي لعبت دورًا محوريًا في هيكلة عمل المنظمة، وشركة “Chemonics” الأمريكية التي تولّت عمليات الإدارة والتجهيز.
شمل الدعم أيضًا مواقف سياسية واضحة. ففي عام 2023، أقرّ الكونغرس الأمريكي حزمة دعم جديدة بقيمة 15 مليون دولار للخوذ البيضاء، ضمن تشريع يحظر تقديم أي تمويل للنظام السوري، في إشارة إلى تمسّك واشنطن بالمنظمة كفاعل مدني مستقل في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
إلى جانب هذا الدعم الغربي، تلقّت “الخوذ البيضاء” دعمًا ملحوظًا من دول عربية، أبرزها قطر. ففي عام 2025، أطلقت مجموعة البحث والإنقاذ القطرية الدولية التابعة لقوة الأمن الداخلي “لخويا” برنامجًا تدريبيًا مكثفًا استمر لمدة شهر، استهدف تعزيز قدرات فرق الدفاع المدني السوري في مجالات البحث والإنقاذ، والتعامل مع الكوارث والأزمات الإنسانية. شمل البرنامج تدريبات ميدانية وورش عمل، وركّز على تبادل الخبرات بين الجانبين
الجوائز والتكريم
نالت “الخوذ البيضاء” تقدير دولي واسع، وتم تشريحها لجائزة نوبل للسلام لثلاث سنوات متتالية (2016، 2017، 2018). كما نالت جائزة نوبل البديلة عام 2017 تقديراً لشجاعتها في إنقاذ المدنيين، وجائزة الحرية العالمية من المجلس الأطلسي عام 2016.
في العام نفسه، حصلت المؤسسة على وسام الشجاعة من جهاز الإطفاء الألماني، والذي تسلمه مدير الدفاع المدني السوري السابق رائد الصالح، بالإضافة إلى جائزة الأم تيريزا للسلام من الحكومة الهندية.
كذلك مُنحت جائزة “غاندي للسلام” عام 2020 لمتطوعة في المؤسسة، تكريماً لدور متطوعي الدفاع المدني في الاستجابة الإنسانية تحت القصف.
قصة نجاح الخوذ البيضاء لم يكن الطرف الوحيد فيها هم الأبطال والمنقذون فقط.. كان هناك أبطال من نوع آخر ..أولهم الشعب السوري العظيم السند في كل وقت الذي تعلمنا منه الصبر والثبات والعزيمة.
وكان معنا وإلى جانبنا أبطال مجهولون لا يربطهم بسوريا إلا شي واحد هو رابط الإنسانية وإيمانهم… pic.twitter.com/eArmNYtapY
— Raed Al Saleh ( رائد الصالح ) (@RaedAlSaleh3) June 2, 2025
ختامًا.. وُلدت “الخوذ البيضاء” من رحم الألم، لكنها لم تكن أبدًا مشروع ألم، بل مشروع حياة. في وجه الحرب، كانت استجابتهم الأولى أن ينتصروا للإنسان. واليوم، وهم يعبرون من ساحات العمل التطوعي إلى رحاب المؤسسات، فإنهم لا يغادرون الميدان، بل يعيدون تعريفه، بثقة أكبر وإيمان أعمق.
إن انضمامهم إلى وزارة الطوارئ والكوارث ليس نهاية الحكاية، بل بدايتها الجديدة، في وطن يحلم بأن يُعاد بناؤه بأياد تعرف جيدًا كيف ترفع الحجارة عن الجثث، وتزرع بدلها الحياة.
وما بين بداية مؤلمة ومستقبل واعد، تبقى “الخوذ البيضاء” وعدًا أخلاقيًا قطعته الثورة السورية للعالم: أن في زمن الموت، لا يزال هناك من يُصرّ على الحياة، لا من أجل نفسه، بل من أجل وطن لا يُترك تحت الأنقاض
واليوم، مع انضمامها إلى وزارة الطوارئ والكوارث، ينظر السوريون إلى هذه الخطوة كولادة جديدة للمنظمة التي وثقوا بها. فانتقال المتطوعين للمساهمة في مؤسسات الدولة يمنح ملايين السوريين شعورًا بالثقة والطمأنينة بأن الأيادي التي امتدت إليهم وقت الخطر ما زالت هنا، وتعمل الآن بإمكانيات أكبر، في وطن أكثر أمانًا.