إن عملية السابع من أكتوبر 2023، وما تلاها من حرب إبادة دمّرت قطاع غزة، عمرانيا وإنسانيا، لم تكن مجرد حادثة عابرة في سجل الصراع الطويل، بل شكلت زلزالًا جيوسياسيًا أعاد تعريف مفهوم الأمن القومي المصري، ووضعت القاهرة في أخطر مأزق دبلوماسي واقتصادي منذ عقود. على مدى عامين كاملين (أكتوبر 2023 – 2025)، وجدت الدولة المصرية نفسها أمام مفترق طرق يتطلب التوفيق بين ثلاث أولويات متناقضة: حماية حدودها وسيادتها برفض مطلق للتهجير القسري كـ “خط أحمر”، وتأكيد دورها التاريخي كوسيط إقليمي محوري وعصب إنساني لا غنى عنه لغزة، وأخيرًا، الحفاظ على استقرار معاهدة السلام مع “إسرائيل” التي اهتزت أركانها بفعل التصعيد الحدودي.
تراوح الموقف المصري بين ثبات المبدأ، المدعوم بالرفض القاطع لتصفية القضية الفلسطينية على حساب توطين الغزيين في سيناء، وبين ضرورات الواقع الاقتصادي القاسي. فالحرب، لم يقتصر تأثيرها على التحديات الأمنية المتمثلة في إدارة معبر رفح ومحور “فيلادلفيا” فحسب، بل امتد ليفرض ضريبة اقتصادية باهظة على النظام، خاصة مع تضرر إيرادات قناة السويس نتيجة لتوترات البحر الأحمر قبل الاتفاق الأمريكي مع الحوثيين. وفي هذا السياق، وُضعت العلاقات التجارية البحساسة، وعلى رأسها صفقات الغاز مع “إسرائيل”، تحت المجهر، كاشفةً عن التناقض بين المصالح الاقتصادية العاجلة والكلفة السياسية والأخلاقية.
في هذا المقال، نحاول رصد أبرز محطات هذا الموقف المصري المتأرجح منذ خريف 2023 وحتى اللحظة الراهنة، عبر تفكيك الاستراتيجية المصرية في إدارة مخاطر “الخط الأحمر”، وتحليل معضلة الوساطة الإنسانية التي تدور حول إدارة معبر رفح، وتقييم مدى هشاشة السلام في ظل تصاعد التوترات الحدودية وما يتعلق بالوجود الإسرائيلي في محور فيلادلفيا. كما سنقوم بتحليل الأعباء الاقتصادية المترتبة على الأزمة، بما في ذلك تداعيات خسائر قناة السويس والتصريحات الخاصة بالعلاقات التجارية وصفقات الغاز.
وفي الختام، يسعى المقال لاستشراف مسارات القاهرة وأدوارها المحتملة خلال المستقبل القريب حيال غزة في “اليوم التالي” للحرب، وكذلك استراتيجيتها في إدارة التوتر الحاد مع “إسرائيل”.

الأمن القومي كأولوية وجودية
كانت حماية الحدود المصرية ومنع تهجير سكان غزة إلى سيناء هي الركيزة الأساسية للموقف المصري، والتي وصفت رسميًا بأنها “خط أحمر” لن تسمح مصر بتجاوزه تحت أي ظرف. وقد أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هذا الموقف مرات عديدة، مشددًا على أن الهدوء والتعقل اللذين تتسم بهما السياسة المصرية “لا يعنيان ضعفًا أو تهاونًا”.
مع بدء حرب الإبادة، وخلال لقاء مع المستشار الألماني، أوضح الرئيس السيسي الأبعاد الاستراتيجية لهذا الرفض. وذكرت وزارة الخارجية المصرية في بيان رسمي صدر في سبتمبر 2025، أن استمرار الحصار ومنع دخول المساعدات يفاقم الكارثة ويهدد حياة المدنيين، مشددة على أن أي حلول لا تراعي حقوق الفلسطينيين ستُعتبر انتهاكًا للقانون الدولي و”تمهيدًا لتهجير قسري مرفوض”.
لم يكن رفض التهجير نابعًا من مخاوف إنسانية بالأساس، بل من فهم عميق للتداعيات الجيوسياسية الكارثية على الأمن القومي المصري واستقرار المنطقة، حيث تنظر الدولة المصرية، وتحديدًا مؤسساتها الرئاسية والأمنية، إلى التهجير القسري كخطوة تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، فإذا خرج الشعب الفلسطيني من غزة إلى سيناء، “لن يكون هناك أرض يعود إليها” في المستقبل.
كما يشكل التهديد الأمني الوظيفي للتهجير البعد الأهم في عقيدة الأمن القومي المصري، فإذا انتقل سكان غزة إلى الأراضي المصرية، فإن هذا يضع معاهدة السلام بين مصر و”إسرائيل” في مهب الريح ويعرّض الأمن القومي لمخاطر عديدة. هذا التهديد ينشأ من فرضية أن انتقال الشعب الفلسطيني إلى سيناء سيخلق بالضرورة أرضية لانطلاق أي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية من الأراضي المصرية ضد “إسرائيل”. هذا السيناريو يجبر مصر على خيارين كلاهما مرّ، وهما: إما الاصطدام المباشر مع حركة المقاومة الفلسطينية على أراضيها، أو التعرض لعمليات استهداف إسرائيلية داخل سيناء بحجة ملاحقة المقاومة، ما يمثل تحولًا جذريًا في طبيعة سيناء، حيث تتحول المنطقة العازلة الخالية من الصراع إلى ساحة احتكاك محتملة، مما يساعد على كسر الاتفاقيات الأمنية التي تضبط طبيعة التواجد العسكري المصري في المنطقة.
لذا، كانت القاهرة، ومنذ البداية، واضحة ومستمرة في وصفها استراتيجية التهجير بـ “الخط الأحمر” كرافعة ضغط استراتيجية لم يهدف فقط إلى حماية الحدود، بل أيضًا لإجبار المجتمع الدولي و”إسرائيل” على الاعتراف بالدور المصري كطرف أساسي لا يمكن تجاوزه في أي نقاشات تخص مستقبل قطاع غزة بعد الحرب.
تحديات الوساطة والدور الإنساني واتفاقيات السلام
على الرغم من التوترات العميقة، استمرت مصر، مع قطر وأطراف أخرى إقليمية ودولية، في لعب دورها التاريخي كوسيط رئيسي في جهود احتواء تداعيات الحرب، والعمل على التوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. كان الدور المصري حيويًا في دعم مسار حل الدولتين، وفقًا للتصريحات الرسمية، وتم التأكيد على أن السلطة الفلسطينية “لن تعود إلى غزة على الدبابة الإسرائيلية”، بل يجب أن تعود في إطار تسوية شاملة للقضية. وقد ساهمت الوساطة المصرية في تضمين بنود مهمة في اتفاقيات وقف إطلاق النار، خاصة فيما يتعلق بمعبر رفح ومحور فيلادلفيا، لكن أصرّت “إسرائيل” على رفض جميع المقترحات المقدمة، كما استكملت الحرب بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار مرتين: الأولى في نوفمبر عام 2023، والثانية في يناير من هذا العام.
واجهت القاهرة ضغوطًا لوجستية ودبلوماسية هائلة في إدارة معبر رفح، الذي ظل لفترة طويلة (حتى الغزو الإسرائيلي لجانبه الفلسطيني في مايو 2024) المنفذ البري الوحيد لقطاع غزة بعيدًا عن السيطرة الإسرائيلية المباشرة. لكن، على مدار العامين، وثقت مصر التعنت الإسرائيلي الممنهج في إدخال المساعدات الإنسانية. ففي أغسطس 2024، انتقد مسؤول مصري أمام وفد أمريكي “تعنت إسرائيل في إدخال المساعدات لقطاع غزة”، مشيرًا إلى تصاعد عمليات الحرب. وقد وصل الانتقاد المصري إلى مستويات غير مسبوقة، حيث ندد الرئيس السيسي بـ “تجويع وإبادة ممنهجة” لسكان غزة. هذه الشكاوى عكست الإحباط المصري من استخدام “إسرائيل” للمساعدات كورقة ضغط سياسية وعسكرية، ما أضعف من قدرة القاهرة على الاضطلاع الكامل بدورها الإنساني.
في ظل القمع العنيف، يواصل النشطاء احتجاجاتهم ضد حصار غزة، بينما تتعرض أسرهم في مصر للاضطهاد والاعتقال، في محاولة لثنيهم عن مواصلة نضالهم. pic.twitter.com/oINn7JtkRa
— نون بوست (@NoonPost) September 4, 2025
شهدت إدارة معبر رفح أزمة كبيرة عندما احتلت القوات الإسرائيلية الجانب الفلسطيني من المعبر في مايو 2024، مطالبة بأن يكون لها ممثلون دائمون لإدارته، وهو ما رفضت مصر التعاطي معه واعتبرته خرقًا للاتفاقيات. ففي يناير 2025، عُقد اجتماع مطول في القاهرة بين مسؤولين استخباراتيين مصريين (مدير المخابرات العامة المصرية حسن رشاد) ونظرائهم الإسرائيليين (رئيسا الموساد والشاباك)، وقد أسفر الاجتماع عن اتفاق مؤقت يتعلق بإدارة معبر رفح في الجانب الفلسطيني، وقد قضى الاتفاق بتولي السلطة الفلسطينية إدارته، تحت إشراف ومتابعة أممية ودولية.
يمثل هذا الاتفاق، رغم كونه مؤقتًا ويخص مرحلة وقف إطلاق النار فقط، نجاحًا دبلوماسيًا جزئيًا لمصر، فإصرار القاهرة على تفعيل دور فلسطيني/دولي يهدف إلى منع تكريس الوجود الإسرائيلي المباشر في إدارة المعبر، الذي كان سيُعد اعترافًا مصريًا ضمنيًا بالسيطرة الإسرائيلية الكاملة على حركة الأفراد والبضائع. كما هدِفَ إلى استعادة النفوذ المصري في المنطقة وتأكيد شرعية السلطة الفلسطينية كطرف إداري مقبول، وهو جزء من استراتيجية القاهرة الأوسع لرفض أي ترتيبات إسرائيلية منفردة لما يسمى بـ “اليوم التالي” للحرب، والتي تُصرّ على استبعاد السلطة الفلسطينية.
أيضا، شكل محور صلاح الدين الحدودي (محور فيلادلفيا)، الذي يمتد بطول 7.5 أميال على حدود غزة مع سيناء، نقطة التوتر الأخطر بين الطرفين. في مايو 2024، بعد ثلاثة أسابيع من الهجوم على رفح، أعلن الجيش الإسرائيلي “السيطرة العملياتية” الكاملة على هذا المحور الاستراتيجي. وقد جاءت هذه الخطوة بناءً على مزاعم إسرائيلية بأن مصر لم تقم بما يكفي لمنع وصول السلاح عبر الأنفاق بطول هذه الحدود لقطاع غزة، وهو ما نفته القاهرة بشدة، كما زعمت “إسرائيل” العثور على نحو 20 نفقًا بين غزة ومصر في المنطقة.
مثّلت سيطرة “إسرائيل” على المحور تحديًا مباشرًا للترتيبات الأمنية المتفق عليها بموجب اتفاقية المعابر لعام 2005، وتهديدًا صريحًا لمبدأ “السيادة” المصرية على حدودها. كما تصاعدت التوترات لتصل إلى حد الاحتكاك العسكري المباشر، وقد وقع الحادث الأشد خطورة في 27 مايو 2024، حيث استشهد جندي مصري برصاص “قناص إسرائيلي” خلال تبادل لإطلاق النار على الشريط الحدودي في رفح. فيما بعد، أكد مصدر أمني مصري أن القوات المصرية “لم تبدأ بإطلاق النار”، بخلاف مزاعم إسرائيلية أولية، وقد أعلنت القوات المسلحة المصرية إجراء تحقيق شامل في الحادث، ولم تعطي أي تفاصيل إضافية حتى وقتنا الحالي.
بالرغم من محاولات الطرفين احتواء الحادث وإجراء مناقشات، إلا أنه كان النقطة الأخطر في العلاقات المصرية-الإسرائيلية منذ توقيع معاهدة السلام. إن وقوع اشتباك عسكري مباشر يؤدي إلى مقتل عنصر من جيش طرف المعاهدة يمثل مؤشرًا على التآكل الهيكلي في الثقة الاستراتيجية وغياب التنسيق الأمني الفعال، فحين تصل الخلافات الأمنية إلى هذا المستوى من التصعيد، فإنها تضع الاتفاقية نفسها في خطر وجودي، متجاوزة الخلافات “التقنية اللوجيستية” التي وُصفت بها المفاوضات اللاحقة.
📌 مصر تدرب مئات من عناصر السلطة الفلسطينية منذ أشهر لتولي إدارة الأمن في غزة بعد الحرب وجزء من التدريب يتم في الأردن.
📌 جميع المتدربين من حركة فتح وموالون للسلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، مع استبعاد الموالين لمحمد دحلان لتجنب اعتراضات القيادة وضمان دعم سعودي محتمل.
— نون بوست (@NoonPost) August 13, 2025
ظل محور فيلادلفيا هو نقطة الخلاف الرئيسية في المفاوضات الأمنية. في اجتماع يناير 2025، شهدت المباحثات المصرية-الإسرائيلية “خلافًا” فيما يتعلق بمحور فيلادلفيا، إذ اقترحت “إسرائيل” تنفيذ انسحابات جزئية، لكن الموقف المصري ظل ثابتًا، حيث تصرّ القاهرة على الانسحاب الإسرائيلي الكامل وعودة الوضع الأمني إلى ما كان عليه قبل الحرب. إصرار مصر على الانسحاب الكامل هو محاولة حاسمة لاستعادة الردع والحفاظ على سيادتها الإقليمية. إن قبول السيطرة الإسرائيلية العملياتية، حتى لو كانت جزئية أو مؤقتة، كان سيفتح الباب أمام مطالبات إسرائيلية بتعديل دائم لاتفاقية السلام في الجانب الأمني، وهو ما ترفضه القاهرة للحفاظ على هيكل المعاهدة كما هو، ومنع “إسرائيل” من إنشاء حقائق أمنية جديدة على حساب مصر.
وعلى الرغم من غضب النظام المصري من احتلال معبر رفح، ومن إغلاقه بواسطة “إسرائيل”، إلا أنها رفضت ومنعت بالترهيب والاعتقال كل المحاولات الشعبية سواء المصرية أو العالمية من الوصول إلى المعبر، بهدف الضغط على “إسرائيل” إقليميًا ودوليًا. وفضّلت العقلية الأمنية في مصر أن تكون هي الوحيدة التي تملك حق الضغط، فكانت تحشد الوفود أو “مصريين” تابعين للسلطة من أجل إيصال رسائل ضغط على “إسرائيل”، ومن ثم تتراجع، وكل هذا حسب التوترات التي تأخذ منحى تصاعديًا بين فترة وأخرى.
الأعباء الاقتصادية: الضريبة الباهظة للأزمة الجيوسياسية
لم يقتصر المأزق المصري على الأبعاد الأمنية والدبلوماسية فحسب، بل امتد ليفرض ضريبة اقتصادية باهظة كشفت عن مدى هشاشة الوضع المالي الداخلي في ظل صدمات جيوسياسية إقليمية، حيث تسببت توترات البحر الأحمر، الناجمة عن استهداف الحوثيين للسفن التجارية المرتبطة بـ”إسرائيل” أو المتجهة لموانئها، في ضربة قاسية لشريان النقد الأجنبي الرئيسي لمصر قناة السويس. وقد كشف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن حجم الخسائر، مشيرًا إلى أن بلاده فقدت نحو 50% إلى 60% من إيرادات القناة خلال ثمانية أشهر، مقدرًا هذه الخسارة بما يزيد عن 6 مليارات دولار أمريكي.
أما على صعيد العام المالي الكامل (2023/2024)، فقد تراجعت إيرادات هيئة قناة السويس بنسبة 23.4% مقارنة بالعام المالي السابق (2022/2023)، إذ انخفضت الإيرادات من 9.4 مليارات دولار إلى 7.2 مليارات دولار، نتيجة انخفاض عدد السفن العابرة من 25,911 سفينة إلى 20,148 سفينة. وتناغمت هذه البيانات مع تقديرات دولية، حيث أشار صندوق النقد الدولي إلى أن توترات البحر الأحمر تسببت في انخفاضات كبيرة وصلت إلى 70% في عائدات القناة الفورية، ما يؤكد الضرر الفادح الذي لحق بمصدر حيوي للعملة الصعبة.
الصادرات محلية الصنع وبقيمة 116 مليون دولار في يونيو وحده.. تقرير يكشف تصدير مصر والمغرب والإمارات والأردن منتجات غذائية للاحتلال وذلك في ذروة مجاعة #غزة pic.twitter.com/Z7JHQvVOGB
— نون بوست (@NoonPost) August 3, 2025
مع مرور الوقت، تفاقمت خسائر قناة السويس في وقت كانت فيه مصر تعاني بالفعل من نقص حاد في العملة الأجنبية بعد سحب المستثمرين لحوالي 22 مليار دولار من “الأموال الساخنة” عقب الحرب الروسية الأوكرانية في أوائل 2022، ما أدى إلى تضاعف سعر الدولار من نحو 15 جنيهًا إلى 50 جنيهًا. إن هذا العجز المفاجئ الذي تجاوز 6 مليارات دولار، ألقى بظلاله على الاستقرار النقدي والسيولة الدولارية.
كما تُقدر الأموال الساخنة (أموال المحفظة) الحالية بما يتراوح بين 30 و 35 مليار دولار، والتي تُعد ركيزة أساسية لاستقرار سعر الصرف، بسبب وجود حرب إقليمية مستمرة، ما يجعل هذه الأموال عرضة للسحب السريع، مما يهدد بتكرار أزمة العملة الحادة. هذا الوضع الاقتصادي الحرج يفسر جزئيًا حاجة القاهرة الملحة لتأمين تدفقات العملة الأجنبية، حتى عبر الصفقات التجارية التي تحمل كلفة سياسية وأخلاقية عالية.
استراتيجية الفصل بين الدبلوماسية والتجارة
فيما يخص العلاقات التجارية، ولا سيما في مجال الطاقة، ففي خضم التوتر العسكري والسياسي الحاد حول حرب الإبادة في غزة واحتلال محور فيلادلفيا، برزت العلاقة التجارية مع “إسرائيل”، خاصة في مجال الغاز، كنقطة فصل حادة بين ضرورات الاقتصاد وقيود الدبلوماسية. اتبعت الحكومة المصرية استراتيجية حاولت فيها الفصل بين الموقف السياسي المتعلق بالحرب والمصالح التجارية الحيوية. وقد عبّر وزير البترول المصري عن هذا الموقف بتبسيط لافت، مشيرًا إلى أن التعامل مع الغاز الإسرائيلي هو مجرد “بيزنس” وأن مصر “تعتمد على الذات” و “مفيش محبس عند حد”. هذا السعي لفصل الجانب التجاري عن الجانب الجيوسياسي كان محاولة لتبرير استمرار تدفق إمدادات الطاقة، التي تُعد حيوية للاقتصاد المصري.
تجسدت العلاقة الاقتصادية المتوترة في الإعلان عن تمديد اتفاقية استيراد الغاز الطبيعي من “إسرائيل” حتى عام 2040، بتقديرات مالية تصل إلى 35 مليار دولار. هذه الصفقة الضخمة ترجع جدواها الاقتصادية إلى أن مصر تستورد الغاز الإسرائيلي لتسييله وإعادة تصديره كغاز طبيعي مسال (LNG)، مستفيدة من البنية التحتية لمعامل الإسالة المصرية، خاصة في ظل تراجع الإنتاج المحلي من حقول مثل حقل ظهر.
تمويل من يبيد الجار.. صفقة غاز طويلة الأمد تربط مصر بالاحتلال حتى عام 2040، في ذروة إبادة غزة. pic.twitter.com/GEBbtqALf8
— نون بوست (@NoonPost) August 9, 2025
لكن استمرار هذه الصفقات الضخمة خلال فترة حرب الإبادة خلق تضاربا أخلاقيًا وسياسيًا حادًا، ما أضعف من نفوذ القاهرة المعنوي في قيادة الموقف العربي تجاه الأزمة، إذ انتشرت التعليقات الإقليمية والشعبية التي تتهم مصر بـ “تمويل إسرائيل حربها ضد غزة”، مما يسلط الضوء على الكلفة السياسية المرتفعة لهذه التبعية الاقتصادية. فقد راهنت القاهرة على أن الفائدة الاستراتيجية لتأمين احتياجات الطاقة والحفاظ على موقعها كمركز إقليمي للطاقة تفوق الكلفة السياسية المؤقتة، لكن هذا يضعف موقفها التفاوضي غير المباشر أمام تل أبيب في ملفات الحرب المتعددة.
بالرغم من محاولة الترويج للاعتماد على الذات، أثبتت الأزمة هشاشة هذا الاعتماد الاستراتيجي. فقد اضطرت مصر في أوقات سابقة إلى البحث عن بدائل وشراء 60 شحنة غاز بعد توقف إمدادات الغاز من “إسرائيل”. هذا يبرهن على أن الاتفاقيات التجارية، رغم ضخامتها، لا تمنح القاهرة حصانة أمنية أو استراتيجية، بل على العكس، يمكن استخدامها كنقطة ضغط من قبل الطرف الآخر في أوقات الأزمات، مما يكشف تناقضًا بين التصريحات الرسمية والواقع الاستراتيجي للطاقة.
استشراف المستقبل: مسارات القاهرة الاستراتيجية
مع اكتمال عامين على بدء الأزمة ودخول الدور المصري مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا، يتطلب استشراف مسارات القاهرة المستقبلية تحليلاً دقيقًا لـ “اليوم التالي” في غزة واستراتيجية إدارة التوتر مع “إسرائيل”، وفقًا لوضع إقليمي ودولي شديد التعقيد. تتمسك الرؤية المصرية بمبدأين أساسيين لمرحلة ما بعد الحرب: رفض مخططات التهجير، وأيضًا مخططات فصل غزة عن الضفة الغربية، وضمان عودة فلسطينية/سلطوية إلى القطاع في إطار تسوية شاملة للقضية، مع تأكيد مصر دعمها لموقف القيادة الفلسطينية، الذي يرفض العودة إلى غزة “على الدبابة الإسرائيلية”.
لكن، دخل الدور المصري مرحلة جديدة وحاسمة مع الموافقة الرسمية للقاهرة على الخطة الأمريكية-الإسرائيلية لوقف الحرب في قطاع غزة، التي تمت في 29 سبتمبر 2025. تمثل هذه الموافقة تحولًا استراتيجيًا، إذ تعكس إما تلبية الخطة للحد الأدنى من المطالب المصرية المتعلقة بـ”اليوم التالي” المتمثلة في منع التهجير، على ورق الخطة فحسب، أو إجماعًا دوليًا وإقليميًا فرض على القاهرة السير في المسار الجديد رغم التحفظات القائمة. فيما يتوجب على الرؤية المصرية الآن تفعيل مبادئها الأساسية في إطار هذا الاتفاق الجديد، والتي تتمحور حول رفض مخططات فصل غزة عن الضفة الغربية، وضمان عودة سلطة فلسطينية موحدة إلى القطاع في إطار تسوية شاملة للقضية، وألا تستمر لجنة السلام الدولية، كما سمّاها رئيسها دونالد ترامب، في إدارة قطاع غزة.
إن موافقة مصر على هذا المسار، في عقليتها الأمنية، يهدف إلى منع تمرير أية ترتيبات إسرائيلية منفردة تكرس السيطرة الأمنية دون أفق سياسي، مع تأكيد موقفها الداعم للقيادة الفلسطينية المتمثلة في سلطة محمود عباس. كما أن الدور المصري سيتعزز في مرحلة إعادة الإعمار والرقابة على تنفيذ بنود الاتفاق، حيث ستكون القاهرة جسرًا لا غنى عنه بين المجتمع الدولي وغزة.
على الرغم من الموافقة على إطار وقف الحرب، يظل الملف الأمني الحدودي مع “إسرائيل” هو التحدي الأبرز لاستقرار هذا السلام الجديد، كما تظل المطالب المصرية الأمنية الرئيسية هي الإصرار على انسحاب “إسرائيل” الكامل من محور فيلادلفيا وعودة الترتيبات الحدودية إلى ما قبل 7 أكتوبر 2023. فموافقة القاهرة على الاتفاق الشامل لوقف الحرب يجب أن يُستغل كورقة ضغط للحصول على ضمانات دولية بخصوص الانسحاب الإسرائيلي من المحور وإعادة تفعيل معبر رفح بشكل كامل تحت إدارة فلسطينية/دولية وفق ما تم التوافق عليه سابقًا في يناير 2025.
رغم قربها من غزة.. تصم مصر أذنيها عن صرخاتهم، وتشارك في تجويعهم وإبادتهم علنًا، رافضة حتى هذه اللحظة فتح معبر رفح وإدخال المساعدات الإنسانية. pic.twitter.com/GvmSTQAVli
— نون بوست (@NoonPost) July 21, 2025
نهاية، لقد أثبتت حرب غزة أن الموقف المصري المتأرجح بين ثبات المبدأ (رفض التهجير) ومرونة الواقع (إدارة التبعات الاقتصادية والأمنية) لم يكن خيارًا، بل كان نتيجة لـ “إدارة ضرر” حتمية في بيئة لا تملك فيها القاهرة رفاهية الاختيار بين أمنها القومي واقتصادها الهش أو استقرار معاهدة سلام متآكلة، وخصوصًا أن مصر لم تطرح، بشكل جاد، في كل منعطفات الحرب منذ بدايتها قطع العلاقات مع “إسرائيل” وتجميد اتفاقية السلام، ما يعني أن النظام الحالي هو الأقرب تنسيقًا وتماهيا وتساهلًا مع الدولة الإسرائيلية.
إلى الآن، نجحت القاهرة في تحقيق هدفها الأمني الاستراتيجي الأبرز حتى اللحظة، وهو الحيلولة دون تنفيذ مخطط التهجير القسري، مستخدمة الخط الأحمر كأداة ردع فعالة. وفي الوقت ذاته، حافظت على قناة الوساطة مفتوحة. ومع ذلك، كانت الكلفة الاقتصادية هائلة، حيث أثرت توترات البحر الأحمر بشكل مباشر على أهم مصدر للنقد الأجنبي. وتظل الصفقة الضخمة للغاز مع “إسرائيل” تمثل مفارقة استراتيجية، حيث تضع المصالح الاقتصادية الحيوية في مواجهة الكلفة السياسية والأخلاقية.
التحدي الأكبر الذي يدخل فيه الدور المصري ما بعد أكتوبر من عامنا هذا، هو كيفية إعادة بناء نفوذها الجيوسياسي وتعزيز دورها كشريك لا غنى عنه في مستقبل غزة، دون التضحية بمصالحها الاقتصادية المستدامة. والأهم، كيفية إدارة التوتر الحاد مع الشريك الإسرائيلي على الحدود في ظل تآكل الثقة العملياتية. تتطلب المرحلة القادمة من القاهرة سياسة خارجية أكثر حزمًا في المطالبة بعودة الوضع الأمني إلى ما قبل الحرب، واستغلال دورها المحوري لتأمين استثمارات دولية ضخمة تضمن استقرارها المالي.