لماذا لم أحب أم كلثوم منذ البداية؟ ربما لأنني لم أكن أومن أبدًا أن هناك معيارًا للقمة، أو ربما لأنني أقوم دومًا بالتقليل من قيمة كل ما يقدّسه البشر ويحوّطونه بهالات من الألوهية وكأنه لا مثيل له على وجه البسيطة، ربما لأن ذلك الإعجاب الشديد لها من قِبل كل من كانوا يكبرونني في العمر وقتها أصابني بالملل تجاهها، وأعطاني فكرة بأن تلك الشخصية احتكرها عالم الكبار ولن يفهمها غيرهم، أو من الممكن أن تخصيصهم وقتًا مميزًا في المساء لها وحدها قد أشعرني بالغيرة، ولكن أصابني بالفضول في الوقت ذاته، لماذا امرأة مثلها تحتل تلك المكانة الرهيبة في قلوب العديد من الناس.
جاء بعد ذلك وقت كسر الحواجز في تلك الفترة من التقلبات العمرية التي يمر بها كل فرد منا، وكانت أم كلثوم بالنسبة لي هي أحد هذه الحواجز، حاولت أن أستمع لها مع والدي لعلني أفهم ذلك السر الدفين في صوتها، لم تعط أذناي أي اهتمام للموسيقى، انتظرتها تغني ولكن الموسيقى طالت، شعرت بالملل وبدا الأمر لي في منتهى السذاجة، إنهم يستمتعون بالموسيقى كذلك، الجمهور في تسجيل الراديو يطلب الإعادة، ويقوم العازفون بالإعادة تلبية لرغبتهم، ما هذا الغباء، لماذا يطلب الناس تضييع وقتهم بهذه السهولة، إنها مجرد موسيقى، كما أنها ليست جيدة، أو هكذا كان رأيي وقتها.
يقول لي من يكبرونني في العمر بأنني لن أفهمها إلا عندما أكبر في العمر كذلك، بدا الأمر لي غير منطقيًا، إن كانت فنانة تلقب بكوكب الشرق كما يدعون، لماذا لا يصل صوتها للصغير قبل الكبير، لماذا عليّ أن أكبر لأفهم أغنية من أغانيها، ولماذ أفهم أغاني فيروز على الجانب الآخر، ولماذا أحب صوت عبدالحليم في ذلك الوقت رغم أنه كان حكرًا على الكبار كذلك!
وجدت أنه ليس من الضرورة أن يكون مغني أو مغنية أسطورة، ليس من الضرورة أن تكون فيروز رمزًا للرومانسية، ولا حكرًا على الصباح اللطيف، ليس من الضرورة أن يكون عبدالحليم حكرًا على الشباب وعلى الجانب الآخر أم كلثوم حكرًا على الكبار، ووجدت أن الحل في أن أبدأ في فهم أم كلثوم يكمن في التوقف عن المقارنة فيما بينها وبين الفنانين الآخرين، ربما وقتها يمكنني أن أبدأ في اكتشاف ذلك السر الدفين وراء سحر فنها المفتون به الجميع.
لم يكن الأمر بتلك السهولة التي توقعتها، حاولت الاستماع إليها بإنصات كما يفعل الجميع، بل حاولت أن أزيّف مظاهر الاستمتاع بصوتها وأدائها على خشبة المسرح كما يفعل الجميع، ولكن الأمر بدا أطول من اللازم لفتاة مثلي من جيل السرعة، لا أطيق انتظار فيديو على اليوتيوب أطول من خمسة دقائق، بدت الموسيقى لهم من أعظم ما تمّ تلحينه ولكنها بالنسبة لي مجرد موسيقى ليس أكثر، بدأت “الست” في الغناء، لم أفهم الكلمات، بدت لي من عالم آخر، أو من عالم الكبار كما ظننت دومًا، بدا لي صوتها أقرب لصوت الرجال، قويًا، لكنه صوت خشن، بدأت في إعادة المقاطع أكثر من مرة، بدا الأمر لي ساذجًا، الجمهور يطلب المزيد من الإعادة، إذن تبدو المشكلة مشكلتي وليست مشكلة أم كلثوم، الكل مستمتع إلا أنا، قالوا لي إن الأغنية ستستمر لساعة أخرى على نفس المنوال، كان ذلك هو السر الذي لم استطع فهمه، كيف بإمكانهم الاستماع لهذا الخليط من الأسرار لمدة تزيد على الساعة أو الساعة والنصف؟!
لم يكن الأمر معقدًا لي وحدي، فيمكن أن تسمع العديد من الآراء المشابهة من نفس الجيل، البعض يرى فيروز صوتًا ناعمًا يعبر عن الصوت الأنثوي الجميل، لذا ينفر من أم كلثوم لأن صوتها قوي وخشن ولا يمكنها غناء المقاطع الهادئة والرقيقة كما تفعل فيروز، إعجاب الأهل أو الإجماع الشعبي على حبها أصاب البعض بالانزعاج، فمن يسكنون بالقرب من القهاوي قد كرهوا أم كلثوم بالفعل بسبب انزعاجهم من صوتها الذي لا ينقطع عن القهوة، إعجاب الوالدين بها جعل الأطفال في المنزل ينفرون منها بالطبيعة، حتى مر الجميع بتلك المرحلة التي تكون فيها أم كلثوم أيقونة لا تمثل شيئًا على الإطلاق، هي مجرد شخصية عامة محبوبة من الكثير ولا يجب على الجميع حبها وليس الكل مجبورًا على الاستماع إليها.
أعترف بأن المسلسل المصري أم كلثوم قد غير الكثير فينا تجاه شخصية أم كلثوم، فقد استطاع بعبقرية تلفزيونية التسويق لأغاني أم كلثوم، هي لم تندثر مع العولمة والانفتاح على الفن الغربي والموسيقى الغربية، ولكنه أعادها إلى أذهاننا مرة أخرى، أو بالأحرى استطاع لفت انتباه الجيل الحديث إليها، واستطاع الترويج إلى أغانيها وكُتاّب الأغاني وملحنيها، بل برع في تقريب شخصية أم كلثوم الحقيقة للمشاهد العربي، فلم تعد أم كلثوم تلك السيدة التي تحيط بها تلك الهالة من الغموض وهي واقفة على المسرح تغني محركة منديلها، بل اتضح الأمر كثيرًا لي ووجدت أنها ليست الشخصية التي بنيت معها صراعًا وحربًا فكرية طوال سنوات عديدة، بل في وقت ما بدأت أفهم ذلك السحر العجيب الذي يشعر به من حولي تجاهها، وبدأت أنا أقبل بأم كلثوم كأيقونة فنية للفن الشرقي وأعترف بكونها كوكبًا للشرق.
لقطة من مسلسل أم كلثوم
والآن في ذكرى وفاتها بعد مرور 40 عامًا، اعترفت بأن صوتها لن يتكرر، من الممكن أن يحتل العديد من المغنيات والمغنيين مكانة صوتية جميلة وفريدة من نوعها، لكن يمكن لنا أن نطلق على صوت أم كلثوم بأنه صوت خاص بها وحدها، لن يتكرر بالفعل، فموهبتها بتصوير تلك المشاعر التي يمر بها جل البشر في فترات مختلفة من حياتهم ومراحل متنوعة في علاقاتهم البشرية بمجرد كلمات بسيطة برع كتابها في تأليفها وبرعت هي في إيصال رسالتها بصوتها، والأدعى من كل ذلك أنه على الرغم من مرور أربعين عامًا على رحيلها، مازلت تحتل تلك المكانة الغريبة غير القابلة للتغيير داخل قلوب المشارقة، بل وبين طيات تاريخ الفن العربي الحديث، كما أنه على الوجه الشخصي أجد أنها ساحرة في تحويل الذوق الفني لدى العديد من الشباب بعد أن كانت لا تمثل لهم شيئًا لفترة من زمن إلى تخصيص وقت من المساء خصيصًا لسماع صوتها، أو التأثير عليهم بذلك السحر الذي يجعلهم يرغبون في وجود أم كلثوم حاضرة معهم بصوتها في أي اجتماع لهم مع أصدقائهم.
الآن في ذكرى رحيلها أستطيع أن أعترف لها أنها جزء من حقبة مصر المستنيرة التي يعيش عليها المصريون حتى الآن، وهي ذلك الصوت الذي يروي حنين المغتربين عن الوطن ويذكرهم بكل ما هو جميل كان يربطهم بذلك المكان في يومٍ من الأيام، أعلم أنه مازال العديد منا لا يحبها، واتجه البعض وبخاصة الجيل الحديث إلى الفن الغربي واجدًا فيه ملاذه الفني باختلافات لغاته وموسيقاه وتنوع ألحانه، والذي لا أجد فيه عيبًا على الإطلاق إلا أن أم كلثوم لم ينسها تاريخ الفن الحديث أبدًا، كما لن ينساها كل من فهم كلماتها وموسيقاها، حيث ستظل مدرسة موسيقية يتم تدريسها في المعاهد الموسيقي العربية منها والأجنبية، أنا لا زلت لا أؤمن بأن هناك معيار للقمة، ولكن يجب علينا الاعتراف بأن بعض القمم مستحيل الوصول إليها.