حمل باعة الصحف أمس عددا شديد الخصوصية من أعداد مجلة بلاي بوي الشهيرة، العدد الأول في تاريخ المجلة الأيقونية الذي لا يحوي أي صور عارية بشكل كامل؛ الصور التي حددت طبيعة المجلة وكانت مسؤولة عن شهرتها منذ العدد الأول، العدد الأول الذي كان سبباً في شهرة أيقونة أخرى من أشهر الأيقونات الجنسية على الإطلاق؛ مارلين مونرو.
يلفت الموضوع الرئيسي لهذا العدد الانتباه أيضًا، إذ أتى العدد مقدمًا تحية إلى برنامج “سناب شات” للهواتف الذكية، ذلك البرنامج الذي يقوم بنشر الصور ومقاطع الفيديو بين الأصدقاء سامحًا بمشاهدتها لمرة واحدة، والذي اشتهر أيضاً بشكل رئيسي لتبادل مستخدميه من الشباب للمواد الجنسية منزلية الإنتاج عبره.
من السهل جداً ربط حقيقة وقف نشر المواد الجنسية في المجلة بظاهرة يمثل برنامج سناب شات أحد أهم أيقوناتها حاليًا، “الجنس الافتراضي”، كان تبرير رئيس مجلس إدارة المجلة للقرار نصًا “أن المستخدم على بعد نقرة زر واحدة من جميع أنواع الأفعال الجنسية التي يستطيع المرء تخيلها بالمجان، فمن الطبيعي أن نقرر التخلي عن المنافسة في هذا المجال لصالح نقاط قوتنا”، وهذا التفسير يبدو شديد المنطقية في عصر نمت فيه شبكة الانترنت لحجمها الحالي؛ وتشبعت أوجه الحياة المختلفة بها تمامًا بشكل لا يمكن الاستغناء عنه.
تم إطلاق الشبكة العالمية للإنترنت بشكل رسمي في شهر فبراير للعام 1993؛ أي منذ ثلاثة وعشرين عاماً بالضبط، وفي شهر مارس 1993 تم إطلاق أكبر تحقيق رسمي بخصوص نشر المواد الإباحية التي تتضمن الأطفال عبر شبكة الانترنت في التاريخ حتى يومنا هذا، وواقع أن الزمن الفاصل بين الحدثين هو شهر واحد فقط يدل على طبيعة العلاقة بين الإنترنت والمواد الجنسية.
تاريخيًا؛ نجح البشر في استخدام كل وسيط إعلامي في نشر المواد الجنسية والإباحية في غضون فترة قصيرة للغاية، تطلب الأمر قرابة 200 عام بعد اختراع الطباعة لنشر أول رواية إباحية عام 1748 في إنجلترا، بينما كانت الصور الإباحية من أول ما تم إنتاجه على الإطلاق بعد اختراع التصوير الفوتوغرافي في فرنسا لتحقق مبيعات عملاقة، لم يتطلب إنتاج أول مجموعة من الأفلام الإباحية على يد مجموعة من المخرجين الفرنسيين مرور أكثر من عام واحد على عرض أول فيلم سينمائي في التاريخ عام 1895.
تمثل العلاقة بين البشر والجنس وتحليلاتها الاجتماعية أحد أكبر مجالات الدراسة الأكاديمية حاليًا، مما يجعل محاولة تحليلها في مقال محاولة غير مجدية، إلا أن ظاهرة الجنس الافتراضي يمكن تسليط الضوء على عدد مكوناتها هنا.
أتى الانترنت كاختراع تكنولوجي في فترة شديدة الخصوصية في تاريخ البشرية عمومًا والحضارة الغربية خصوصًا، فترة مثلت قمة نجاح الحضارة الغربية في فرض سيطرتها على العالم أجمع، أصبح أسلوب الحياة الغربي بصفاته المدنية والاجتماعية هو الأسلوب شبه الافتراضي للعالم أجمع، أصبحت أغلب دول العالم تلهث خلف التحديث والتقدم الصناعي والاقتصادي الغربي بكل السبل الممكنة، فترة قامت فيها أغلب المستعمرات السابقة بالتخلي عن أساليب حياتها وتراثها الفكري والقيمي في سبيل اللحاق بتقدم وقوة المستعمر.
وفي نفس السياق؛ وصلت مجموعة القيم التي تبنتها الحضارة الغربية كي تصل لهذا التقدم والقوة إلى مراحل جديدة لم تكن في الحسبان، أدى تحليل الدوائر الاجتماعية رغبة في تقوية الفرد كالعنصر الأهم إلى خلق حالة اجتماعية تتسم بالسيولة والتحلل، حالة اجتماعية تتباهى بمركزية الفرد فيها بينما لا تلقي له بالاً على المستوى العملي، أدى تحلل المؤسسات الاجتماعية الرئيسية كالأسرة بالتوازي مع ارتفاع مستوى المعيشة إلى إطلاق العنان لظواهر كالانتحار والاغتصاب، حافظت البنى الاجتماعية الضخمة كالأمة على ثباتها وتماسكها، بينما بدأ الأفراد في إدراك عدم انتمائهم بشكل مباشر لهذه البنى العملاقة؛ بل ربما عدم انتمائهم لأي بنى على الإطلاق.
بالتدريج بدأت مجموعات كبيرة من الأفراد بالتأكيد على فرديتهم واغترابهم عن البنى الاجتماعية، ووفقاً لتحليل عالم الاجتماعي ايميل دوركايم الكلاسيكي لظاهرة الانتحار؛ فإن النهاية المنطقية لعدم شعور الفرد بالانتماء للمجتمع هي قتل الذات بشكل أو بآخر.
من الواجب أن ندرك أن هناك الكثير من المراحل التي تسبق الانتحار كحل للاغتراب عن المجتمع، ما يهمنا من هذه المراحل هو مرحلة اغراق الذات في اللذة كوسيلة للوصول إلى معنى للوجود، وهنا تظهر لنا واحدة من أهم تناقضات الحياة الحديثة؛ المسافة الشاسعة بين وفرة اللذة والقدرة على مخابرتها بشكل مباشر.
يعمل السوق بشكل بسيط للغاية؛ يبزغ الطلب على شيء ما فيوفره السوق بسعر معين؛ ليس استثناء من هذا المنطق، يحتاج الفرد إلى الجنس فيوفره له السوق في مجموعة من الأشكال بأسعار مختلفة، إلا أن الجنس في ذات الوقت هو استثناء كبير نظرًا لطبيعته الخاصة؛ فالجنس هو نشاط اجتماعي بين فردين بالأساس؛ وهو أيضاً محل اهتمام كبير من قبل البنى الاجتماعية لدوره الهام جداً في التكاثر، ونتيجة لهذا الاهتمام يعمل المجتمع على تنظيم الممارسة الجنسية بأفضل الأشكال المناسبة له في منظومات كالزواج أو العلاقات الاحتكارية.
كيف يمكن التوفيق في هذه الحالة بين الجنس كسلعة تنتمي للفرد يمكن له التصرف بها كما يحلو له؛ وبينه كضرورة اجتماعية أكبر من مصلحة الفرد في حد ذاته؟ هذا السؤال هو القلب من ظاهرة الجنس الافتراضي تحديدًا.
فالجنس الافتراضي في هذه الحالة هو “جنس” بالأساس؛ أي أنه ممارسة متعلقة بالجنس قادرة على جلب قدر معين من اللذة للأفراد المشاركين به، وهو أيضاً سلعة يمكن بيعها وتبادلها، إلا أنه في ذات الوقت “افتراضي”؛ أي أنه متخيل وغير ذا وجود في أرض الواقع كممارسة حقيقية للجنس بين فردين، فهو في هذه الحالة يفترض به أن يقدم لذة الجنس للأفراد من دون السماح لحالة من الانحلال الجنسي التام تتحقق بها أكثر الخيالات الجنسية تطرفاً في أرض الواقع.
ينتمي التحليل السابق لحقبة أقدم قليلاً من الحقبة التي نعيشها حالياً؛ حقبة كان يمكن للفرد فيها أن يزعم وجود فارق حقيقي بين الافتراضي والواقعي، إلا أن المعيشة في حياتنا اليوم تشي بغير ذلك، فهل يمكن الحديث عن الحياة اليومية للأفراد من دون ما يتخللها من علاقات قوامها التواصل الافتراضي عبر الانترنت؟ هل يمكن تصنيف الأحاديث اليومية بين الأفراد على شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثة كأحاديث افتراضية غير حقيقية؟
يؤدي التقدم التكنولوجي المضطرد يومياً إلى إزالة الفواصل بين الواقعي والافتراضي، في البداية كان من غير الممكن تصور تبادل الصور ومقاطع الفيديو بهذه السرعة، والآن نحن نتحدث عن نظارات الواقع الافتراضي (VR) القادرة على وضع الفرد في مكان مختلف تماماً يستطيع الفرد فيه أن يستكشف المكان بكامل الحرية (بدأ إنتاج الأفلام الإباحية بهذه التكنولوجيا منذ العام الماضي).
في مثل هذا العالم، هل يمكن الحديث عن قدرة تكنولوجيا بتخلف الطباعة والفوتوغرافيا بتحقيق هذا الدور الذي يزداد تعقيدًا كل يوم؟ هل يمكن لهذا النهم الجنسي الافتراضي الذي يزداد توسعًا وتطلبًا كل يوم أن يحزن على مجلة من القرن العشرين كبلاي بوي؟