“علي مصدق” شاب تونسي يبلغ من العمر 26 سنة اختار واحات التمور مكانًا للعمل، بعد أن انقطع عن الدراسة في المقاعد الثانوية، “علي” أصيل قرية بشري من محافظة قبلي جنوب تونس، انقطع عن الدراسة مبكرًا بعد أن أقنع نفسه أن الحل في الواحات وأن مستقبله يكمن في العمل فيها.
يقضي “مصدق” أكثر من ثلثي يومه في الواحات بجانب النخيل والتمور، عمله ليس موسميًا كغيره من الشباب بل يمتد على كامل السنة، يرافق “عرجون التمر” بشتى أنواعه من وقت ظهوره وبداية بروزه في النخلة نهاية شهر فبراير إلى تلقيحه نهاية شهر مارس وأبريل، فتدليته وتنظيم موقعه في النخلة في شهر يوليو، فتغليفه وتنظيف النخلة من الجريد الجاف في شهر أغسطس، ثم جني التمور بداية الخريف وبيعه في الأسواق المحلية والعالمية.
تحت ظل نخلة من نخلاته الباسقات في واحته الخضراء، جلس الشاب “علي” ينظم لقاح (ذكّار) العراجين ويرصفها بعناية كبيرة، كأنه يربت على طفل صغير خوفًا عليه من نسيم الصباح القارص ونزلة برد وافدة، لا يرفع رأسه إلا قليلاً من الزمن، يجيب المارين السلام، ثم يعود إلى لقاح عراجينه، “انظر هذا اللقاح لا بد أن يوضع في العرجون بعد أيام قليلة من ظهوره في قلب النخلة، لا نقدم ولا نؤخر، فكل تقديم أو تأخير في التلقيح يفقد اللقاح نجاعته وبالتالي يقل الإنتاج إن لم ينعدم في بعض الأحيان”، يقول علي لنون بوست.
يأخذ اللقاح ويضعه في محفظة معدة خصيصًا لهذه المهمة ثم يصعد إلى النخلة، ما إن تغلق عينيك وتفتحها حتى تجده في قلبها رغم طول ارتفاعها البالغ 6 أمتار، يضع اللقاح في عراجينها بدقة كبيرة حتى يضمن ألا يسقط بسبب الرياح العاتية التي تميز ربيع جنوب تونس، بعد الانتهاء من التلقيح ينزل بطريقة لا يعلم سرها إلا أبناء الواحات مستعملاً جريد النخلة في ذلك، ثم يصعد لنخلة ثانية فثالثة فرابعة فخامسة، في كل واحدة منهم يقوم بنفس ما قام به في التي سبقتها.
يقول علي إنه يلقح في اليوم قرابة الأربعين نخلة أغلبهم صنف دقلة النور، وأنه لا يعمل في واحته فقط بل في واحات أقاربه وكل من يريد ذلك وسعر تلقيح النخلة 3 دنانير تونسية( 1.5 دولار).
تبلغ مساحة الواحات التونسية أكثر من 40 ألف هكتار فيها قرابة 5.4 مليون نخلة منها 3.55 مليون نخلة من الأصناف الجيدة لإنتاج التمور، وتعتبر واحات “نفزاوة” و”الجريد” أهم الواحات المنتجة للتمور التونسية الجيدة، حيث تنتج واحات منطقة نفزاوة (محافظة قبلي) قرابة 60% من الإنتاج التونسي، وتأتي واحات الجريد (محافظة توزر) في المرتبة الثانية، ثم تأتي واحات أخرى أقل أهمية بمحافظات قفصة وقابس وتطاوين.
وأضاف يتم وضع من 3 إلى 5 شماريخ (حسب صنف النخيل وحجم الشماريخ) مذكرة مقلوبة داخل العرجون لتتساقط حبوب اللقاح على الأزهار المؤنثة ثم يتم ربطه بسعف النخيل ربطة خفيفة ليسهل فتحها فيما بعد مع نمو حجم الثمار.
ومن خصائص نخيل التمر أن الأزهار المذكرة والمؤنثة لا توجد على نفس الشجرة لذا من الضروري أن يتدخل الفلاح في الوقت المناسب ليقوم بنقل حبوب اللقاح من النخيل المذكر إلى المؤنث حيث تتم علمية الإخصاب وتكوين الثمار، وتعتبر عملية التلقيح من أهم العمليات الأساسية للحصول على إنتاج وفير، حيث إن نتائج التلقيح الطبيعي غالبًا ما تكون ضعيفة جدًا.وبعد انتهائه من تلقيح النخيل يرتاح علي قليلاً من الوقت ثم يبدأ في حش (جزّ) العشب لماشيته التي يربيها في منزله كي تعيله وأهله ويقاوم بها ضنك العيش وصعوبته في جنوب تونس، ثم يقوم بتجميعه على أن يعيد نفس الشيء في اليوم التالي.
رافق “نون بوست” الشاب علي إلى بيته في قرية بشري حيث أهله وماشيته، وأثناء تقديمه العشب للخرفان قال “رأيت ما قمنا به اليوم، يتكرر كل يوم، أقوم باكرًا وأذهب إلى الواحة لتذكير (تلقيح) النخيل ثم حش العشب فالرجوع إلى البيت لتقديم الغذاء للماشية”.
سكت قليلاً من الوقت، يربت على خروف أمامه ثم يتابع “هذه الحالة أشترك فيها مع العشرات أو لنقل المئات من أمثالي من سكون الجنوب حيث لا رزق لنا إلا التمور، ومع ذلك فإن الدولة لا تدعمنا ولا تقدم لنا يد المساعدة”.
وتبلغ نسبة مساهمة قطاع التمور من القيمة الإجمالية للإنتاج الفلاحي التونسي 5% وبنسبة 16% من القيمة الإجمالية للصادرات الزراعية، كما يوفر القطاع مليوني يوم عمل ومورد رزق لقرابة 50 ألف عائلة.
وأوضح “مصدق” أن الأمر لا يقتصر عل التلقيح فقط، بل إن فلاحي الجهة وهو واحد منهم يجدون طوال السنة من أجل ضمان إنتاج أفضل من التمور الجيدة من ناحية الجودة والوفرة، وقال “بعد التذكير ننتظر حلول شهر يوليو لتبدأ معه عملية التدلية أو مفارزة العراجين”.
وتتمثل عملية التدلية في سحب العراجين من بين السعف وتدليتها والعمل على توزيعها بشكل منتظم في رأس النخلة، حيث إن شماريخ العرجون تتشابك عندما تنمو ثمارها بالشوك والجريد”.
ويؤكد الفلاح علي أن لعملية التدلية عدة فوائد منها حماية الثمار من التلف نتيجة احتكاك العراجين ببعضها وبالأشواك، وحماية أعناق العراجين من الكسر عندما يزداد وزن الثمار، وتسهيل عملية الجني، بالإضافة إلى تسهيل ملاحظة الحشرات والفطريات التي يمكن أن تصيب العراجين، ومنع تزاحم العراجين وفسح مجال أكبر لنضج الثمار.
ويشدد على ضرورة أن تكون في وقتها حتى لا تتصلب العراجين وتتعرض أعذاقها للكسر عند ثنيها، وثمن تدلية عراجين النخلة الواحدة بـ 3 دينار (1.5دولار).
وحسب علي، فإنه بداية من وسط شهر أغسطس ينطلق موسم حماية صابة التمور من العوامل المناخية عبر تغطية العراجين بأغشية الناموسية والبلاستيك لحمايتها من الأمطار من أجل المحافظة على جودتها وقيمتها، ويتزامن تغليف العراجين مع تنظيف النخلة من خلال تقليم الجريد اليابس الذي لم يعد له أي فائدة في النخلة.
وبداية شهر أكتوبر يبدأ موسم جني التمور – الذي ينتظره فلاحو الجهة بفارغ الصبر – عند التأكد من اكتمال نضج الثمار، ويقول علي إنه قبل البدء في عملية الجني، ينصح بتنظيف دوائر النخلة وتجنب رمي العراجين من أعلى النخلة.
ويشير المركز الفني للتمور بمحافظة قبلي إلى أهمية فرز التمور والفصل بين الشماريخ والثمار المتساقطة (البث) المعدة للتسويق عن مخلفات الجني (الصيص، الثمار المصابة)، وتتم تعبئة التمور بعناية داخل صناديق مصنوعة من البلاستيك الغذائي وتصنيفها حسب مقاييس الجودة.
تحتل تونس حسب المنظمة العالمية للتغذية والزراعة، المرتبة الأولى عالميًا في قائمة البلدان المصدرة للتمور باعتبار العائدات المالية للتصدير، حيث بلغت صادرات تونس من التمور في 2015 حوالي 100 ألف طن، بعائدات تناهز 460 مليون دينار (حوالي 230 مليون دولار)، مقابل 87 ألف طن بقيمة 382 مليون دينار (حوالي 191 مليون دولار) خلال موسم 2014.
تصدر تونس تمورها إلى حوالي 70 سوقًا عالمية واستأثرت السوق المغربية وحدها بنحو 24.5 ألف طن مقابل 21 ألف طن موسم 2014.
في مستهل حديثه أشار علي إلى نقص المياه الذي تعاني منه واحات الجنوب التونسي وقال “النخيل حديث الغراسة يجب أن يروى كل 2 – 3 أيام في التربة الرملية وكل 4 – 5 أيام في التربة الطينية، وبعد تكون الجذور يروى مرتين أسبوعيًا في التربة الرملية ومرة في التربة الطينية وهذا غير متاح.
يسكت قليلاً ثم يتابع “نعاني الجفاف هنا، الأمطار لا تنزل إلا مرة في السنة إن نزلت، مياه الري قليلة والواحة تبقى أكثر من شهر دون مياه وفي فصل الصيف عند ارتفاع الحرار تطول فترة الري أكثر حتى يقل الإنتاج وتنعدم جودته”، وأكد علي أنه رغم كل المصاعب فإنه يفتخر بواحته فهي “مسكنه ومكان عمله ومصدر الترفيه الوحيد لديه”.
ورغم الجهود المبذولة لتعبئة الموارد المائية وتوفيرها بكميات كافية لري الواحات يظل إحداث مزيد من الآبار المطلب الأساسي لأغلب فلاحي الجنوب لما يسببه نقص المياه من عطش للواحات وضعف في مردودية الإنتاجية.
وطالب علي بضرورة مراجعة معاليم استهلاك مياه الري “التي تثقل كاهل الفلاحين وتسبب ديونًا لعدد كبير منهم”، معتبرًا من جهة أخرى أن “مشكل النز يمثل خطرًا بيئيًا يهدد واحات الجهة ويقلص من إنتاجيتها .
ويعمل فلاحو نفزاوة والجريد على التخلص من مشكلة النز عن طريق إنشاء شبكات الصرف التحتية أو المفتوحة (النشعيات أو الخنادق )، وطريقة الصرف الأكثر شيوعًا في الواحات.
ويمثل حفر الخنادق من أكثر طرق الصرف شيوعًا في الواحات ويتراوح عمق هذه الخنادق بين 1.5 و2 متر تبعد عن بعضها البعض بين 150 إلى 200 متر، وتعتبر هذه الطريقة كافية لصرف مياه الري الزائدة في أغلب الحالات.