ترجع جذور العلاقات الاستراتيجية بين واشنطن والرياض إلى العام 1943، عندما لبى الأميران السعوديان خالد وفيصل دعوة الرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت. جاءت تلك الدعوة الأمريكية أثناء معارك الحرب العالمية الثانية التي كانت تشارف على الانتهاء وكانت في الأساس بغرض رسم العلاقات الأمريكية في منطقة الشرق. وفي العالم 1945 وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، استطاع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في “ذكرى عيد الحب” وعلى متن المدمرة الأمريكية “يو أس أس كوينسي” أن يوقع اتفاقيات شراكة بين البلدين، تقدم فيها الولايات المتحدة الأمريكية خدماتها في قطاعي أمن وتسليح المملكة، مقابل حصول الولايات المتحدة الأمريكية على امتيازات التنقيب عن النفط في المملكة، ليصبح لديها حقوق حصرية للتنقيب عن النفط واستخراجه ومعالجته وشحنه في أي مكان في المملكة العربية السعودية.
وفي ذلك الاجتماع أهدى روزفلت طائرة للملك عبد العزيز آل سعود من طراز “دي سي 3” لتكون أول طائرة للمملكة مقدمة من الرئيس الأمريكي كعربون صداقة استراتيجية بين الرياض وواشنطن.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يغادر فيها الملك عبد العزيز آل سعود أرض المملكة متجها إلى قناة السويس ليجتمع بالرئيس الأمريكي، روزفلت. يرى توماس ليبمان، مؤلف كتاب “في دهاليز السراب: الشراكة الأمريكية-السعودية الهشة” (Inside The Mirage: America’s Fragile Partnership with Saudi Arabia) أن الملك ما خرج من أجل التوقيع على تلك الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية، وإنما خرج بداية من أجل القضية الفلسطينية وما سيحدث لها عند انتهاء الانتداب البريطاني!
وبعد سنوات قليلة أُعلن قيام دولة الكيان الصهيوني واعترف الرئيس الأمريكي هاري ترومان بدولة الكيان فور إعلان تأسيسها، ورفض الملك السعودي آنذاك مطالبات بعض الرؤساء العرب سحب امتيازات التنقيب من الولايات المتحدة احتجاجا على دعمها لقيام الدولة الصهيونية على الأرضي الفلسطينية وتعلل الملك آنذاك بأن الكلام سهل والغضب أسهل ولكنه يرى بأنه بالنفط فقط يستطيع أن يبنى بلده التي تكبر أوروبا الغربية ولا يوجد فيها بنية تحتية ولا طرق ولا جسور، والنفط هو السبيل الوحيد لبناء تلك الدولة والأمريكان هم مهندسو تلك النهضة، ولذا فلم يسحب أي من تلك الامتيازات.
كان الاستثناء الوحيد في تاريخ العلاقات الأمريكية السعودية بالتعبير عن الغضب الفعلي والرفض الحقيقي لسياساتها المتغطرسة، هو حظر الملك فيصل للنفط إبان حرب 1973م، وكان ذلك هو الخيار السياسي الوحيد الذي ارتآه الملك فيصل لعقاب الولايات المتحدة وردعها عن الاستمرار في دعم دولة الكيان.
لا شك أن الشريكين الاستراتيجيين قد اتفقا في محطات كثيرة، فدعموا المجاهدين الأفغان ضد قوات الاتحاد السوفيتي ودعمت المملكة حرب الخليج الأولى والثانية وشهدت فترة الثمانينيات والتسعينيات علاقة استراتيجية في التعاون المشترك لم يسبق لها مثيل على مدار العلاقات البينية بين البلدين.
جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتكون نقطة فارقة في تاريخ تلك العلاقة الاستراتيجية، إذ كان العدد الأكبر من منفذي الهجمات سعوديي الجنسية، وهو ما أثار حفيظة الجمهور الأمريكي، الذي أنحى باللائمة على السعودية ونظام حكمها الداعم للإسلام السياسي المتطرف، وازداد الطين بلة عندما أهملت الولايات المتحدة المبادرة العربية (2002) لتطبيع العلاقات بين العرب ودولة الكيان، والتي قدمها ولي العهد السعودي آنذاك الملك عبد الله، وانحاز جورج بوش تماما لشارون، ويذكر توماس ليبمان أن حدة غضب الملك عبد الله قد خفت فقط عندما أعلن جورج بوش دعمه لقيام دولة فلسطينية مستقلة وقبل بعد ذلك دعوات بوش الابن والأب بزيارة الولايات المتحدة! ودعوة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن للملكة واستقباله استقبال الفاتحين، سيظل ذلك الاستقبال الملكي المبهرج لرئيس دمر بلدين إسلاميين محفوراً في ذاكرة كل من عاصره!
جاء أوباما الرئيس الأمريكي الرابع والأربعون لتشهد العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، تراجعاً ملحوظاً رغم أن أوباما كان أول رئيس أمريكي يسجل أكبر عدد من الزيارات للمملكة مقارنة بمن سبقوه على كرسي البيت الأبيض.
وبحسب ما نشره جيفري جولدبرج في مقاله الشهير “مذهب أوباما” في مجلة أتلانتك الأمريكية، كانت تلك العلاقات الاستراتيجية لا تروق لأوباما على عكس ما كان يظن البعض، فأوباما يرى أن المملكة وكذا معظم دول الخليج هي مجتمعات شمولية تٌعلي من شأن القبيلة والعائلة وتنظر بمنظار ضيق لمصالحها ومصالح عشائرها فقط.
كما كتب جولدبرج أيضاً أن أوباما يرى أن المملكة ودول الخليج يستفيدون من قوة الولايات المتحدة الناعمة والباطشة دون أن يكلفهم ذلك شيئاً!! وشبههم بمن يرغبون في الصعود على متن القطار الأمريكي المريح والسريع مجانًا!! ووصل الأمر به إلى أن يصف المملكة بأنها ليست حليفًا حقيقيًا يمكن أن يُعتمد عليه، بل يرى، بحسب ما أورد جولدبرج في مقاله، أن “ما يسمى بالحليف” هو كيان أناني لم يعد يقدم للولايات المتحدة أي شيء سوى تمويل بعض وحدات التفكير والتخطيط الاستراتيجي “Think Tanks” التي تمارس ضغوطاً على صناع القرار الأمريكي فقط لمصلحة الأسر الحاكمة في الخليج وليس أكثر.
رأي مارتن إندك، السفير الأمريكي السابق، أن شهر العسل الأمريكي-السعودي كان قد انتهى حتى في عهد الرئيس بوش وقبل قدوم أوباما، وذلك لمعارضة الملك عبد الله، على حد زعم إندك، لسياسات إدارة بوش الابن واحتلالها للعراق، ودعمها للحكومة الشيعية في العراق، وتماهي تلك الإدارة الكامل مع المشروع الصهيوني. زادت إدارة أوباما على ذلك التذمر السعودي بتراخيها في القضاء على الأسد، ومن ثم تقاربها المفاجئ مع النظام الإيراني، ولكن الحقيقية أنه كان قد نُقل على لسان الأمير بندر بن سلطان أثناء عمله كمدير لجهاز الاستخبارات السعودية أن المملكة لن تُقدم على أي تغيير جذري في علاقاتها مع واشنطن بسبب الصراع في سوريا أو التقارب الأمريكي-الإيراني.
والحقيقة أيضاً أن شهر العسل المصفى في العلاقات السعودية الأمريكية تحول إلى شهر عسل أسود فقط بعد تخلي واشنطن عن القادة والزعماء العرب في موجات الربيع العربي وخاصة في تونس ومصر، فقد كان التخلي الأمريكي عن الرئيس المصري المخلوع، محمد حسني مبارك، سبباً حقيقياً في الغضب الإماراتي والسعودي من الإدارة الأمريكية.
إذ ترى المملكة بشكل لا مبرر له أن صعود ديمقراطية سنية في الجوار سيهدد عرش النظام الملكي العائلي في الخليج، وهو ما دفعها للعمل بكل ما أوتيت من قوة لتمنع أي تغير ديمقراطي حقيقي في دول الربيع العربي، دفعها ذلك لتتصدر القيادة في المنطقة العربية مستفيدة من السياسة الأوبامية المتراجعة والمتقهقرة.
عبر عن تلك السياسة السعودية وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في لقائه مع مذيعة السي إن إن، كرستان أمانبور، حيث صرح مستنكراً سؤالها الذي يرى أنه يجب أن توجهه للإدارة الأمريكية التي ترفض القيام بأي عمل جرئ في مواجهة التحديات في منطقة الشرق الأوسط وقال بأن السعودية تقوم بالدور الذي تراجعت عنه الولايات المتحدة، فإدارة أوباما لا تريد أن تتدخل عسكرياً في المنطقة، وفي ذات الوقت تريد من أصدقائها وحلفائها أن يلعبوا دوراً أكبر في مواجهة تحديات الإرهاب الصاعدة، ولذلك دخلت المملكة حرباً في اليمن وتقود تحالفاً دوليا إسلامياً في مواجهة التمدد الإيراني والتوسع الداعشي المتطرف.
هل حقاً أراد أوباما من السعودية أن تقود تحالفاً في مواجهة الإرهاب؟ وهل حقاً أراد أن تقود الولايات المتحدة المنطقة من الخلف وأن تفسح المجال لحلفائها في المنطقة للعب دور أكبر في مواجهة الإرهاب وقضايا التطرف في الشرق؟
ما الذي حدث ليدفع الإدارة الأمريكية وبعد 15 عاماً مرت على أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، لتكتشف “ماما أمريكا” بإدارة أوباما فجأة أن السعودية هي المسؤولة عن ذلك العمل الإرهابي الذي دمر أفغانستان والعراق وغير وجه العالم؟
يقال أن التهديد السعودي بتصفية أصول سعودية في الولايات المتحدة تقدر بمئات المليارات من الدولارات إذا ما أقر الكونغرس الأمريكي مشروع قانون من شأنه أن يسمح للمحاكم الأميركية بأن تُسائل ممثلي الحكومة السعودية عن مسئولية بلادهم عن هجمات 11 سبتمبر قد أربك الإدارة الأوبامية، إذ إن السعودية لو نفذت تهديدها سيكون ذلك بمثابة زلزال اقتصادي لن يهز الولايات المتحدة وحدها بل سيهز اقتصاد العالم أجمع.
ولذلك يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما سعت للضغط بقوة على الكونغرس لمنع تمرير مشروع القانون، وانطلق أوباما نفسه في زيارته الخامسة للمملكة في ظل هذه الأجواء من التوتر، لطمأنة النظام السعودي، ولكن حدث أن الملك سلمان وعلى غير عادته، لم يقم باستقباله بنفسه في المطار، بل أرسل نيابة عنه الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز، أمير منطقة الرياض، ووزير الخارجية عادل الجبير، في حين أن الملك كان قد قام بنفسه باستقبال كافة زعماء دول الخليج المشاركين في القمة.
لا شك أن العلاقة الاستراتيجية بين البلدين تشهد توتراً غير مسبوق ويرى العديد من المراقبين أن قد تصل إلى قطيعة وشيكة خاصة بعد أن وجدت الولايات المتحدة ضالتها في شرطي المنطقة القادم من بلاد فارس، ولكن الديناميكيات الجيوسياسية في الشرق أبداً لا يمكن التعامل معها بسياسات مطلقة، وبتغيرات دراماتيكية، ولذلك ستحرص كل الأطراف على أن تبقي على علاقاتها البينية لأنها لا تزال تحتاج بعضها البعض، ويبقى أن ذلك لا ينفي أن تلك العلاقات قد تتعرض لهزات وزلازل بحسب التطورات الميدانية التي ستقررها شعوب المنطقة التي لا يمكن أن يتم تجاوزها في الرؤى المستقبلية بعد كل هذه التضحيات.