“من ابن سائق حافلة باكستاني إلى آخر، مبروك!” هكذا غرّد ساجد جاويد، وزير الأعمال والإبداع البريطاني من أصل باكستاني، على حساب تويتر الخاص به، موجهًا تهانيه إلى صادق خان، الفائز بعمودية لندن أول أمس في انتخابات بريطانيا المحلية، مُشيرًا إلى أصولهما الاجتماعية المشتركة؛ فكلاهما ينحدر من عائلة باكستانية مهاجرة فقيرة، وكلاهما عمل أبوه كسائق للباصات في إنجلترا ليجد ما يكفي قوت يومه، قبل أن ينجحا معًا صعود السلم السياسي في بريطانيا.
لعل الأصول الاجتماعية والعرقية والدينية فقط هي التي تجمع ساجد جاويد وصادق خان، فعدا ذلك تبدو المسافة شاسعة بين الرجلين، فجاويد عضو بحزب المحافظين، وهو يأتي بالأساس من عالم المال والأعمال، حيث عمل سابقًا كمدير إداري لبنك “دويتشه بانك” الألماني أحد أكبر بنوك العالم وأهمها في أوروبا، قبل أن يصبح عضوًا بالبرلمان عام 2010، ثم وزيرًا في حكومة ديفيد كاميرون بوزارات مختلفة كالثقاقة ثم المالية وصولًا لحقيبة الأعمال والإبداع، وهي حكومة تُشرف بطبيعة توجهها اليميني على برنامج تقشف اقتصادي، ومحاولة لتقليص القطاع العام، وتُعتبر أقل شعبية بين المسلمين نظرًا لتمسكها بالتراث البريطاني المسيحي على غرار معظم محافظي أوروبا.
على الناحية الأخرى يقع صادق خان، والذي انصبت دراسته على حقوق الإنسان قبل أن يعمل بشركة محاماة متخصصة في قضايا من هذا النوع، ويصبح هو الآخر عضوًا بالبرلمان عام 2005 عن حزب العمال الأكثر ميلًا ليسار الوسط، والأكثر اهتمامًا بملفات المساواة والفقراء والأقليات وغيرها، والفرق بين توجه الرجلين ينعكس بالطبع في علاقة كل منهما بخلفيته الإسلامية، فبينما يعتبر جاويد نفسه صاحب “تراث مُسلم” ولا يعتنق دينًا معينًا بالضرورة على حد قوله، ملتزمًا بـ”مسيحية بريطانيا” كتراث أساسي لبلاده، فإن صادق خان أكثر ارتباطًا بثقافته الإسلامية والتي يتحدث علنًا في العادة عن انتمائه لها، وأكثر تركيزًا على تعددية لندن وبريطانيا الثقافية والدينية والعرقية، وهو الموقف المُعتاد لحزب العمال الأبعد عن فكرة “بريطانيا المسيحية.”
يبدو كلاهما حاليًا من المرشحين لخلافة رئيسي حزبيهما في موقعه، وهو ما يعني مستقبلًا قدرتهما على المنافسة على منصب رئيس الوزراء، وصادق خان بالتحديد هو الأكثر حظًا في هذا الصدد، أولًا نتيجة لأهمية منصبه الجديد على رأس مدينة لندن، والذي يُعد ثاني أهم منصب تنفيذي في بريطانيا بعد رئيس الوزراء، وثانيًا لأن رئيس حزب العمال الحالي جيريمي كوربِن يعاني من هجمة شديدة منذ وصوله لرئاسة الحزب نتيجة انتمائه لليسار الراديكالي، وهي هجمة تتضمن خان نفسه والمنتمي للتيار الوسطي، والذي وجّه الانتقادات لرئيس حزبه في أول يوم له كعُمدة لندن.
حزب العمال بين التقليديين والراديكاليين
جيريمي كوربِن: زعيم حزب العمال الحالي
لم تكن تلك أول مرة يهاجم فيه خان كوربِن، والذي تلقى حزبه هزيمة كبيرة في إسكتلندا بحلول حزب إسكتلندا الوطني في المركز الأول والمحافظين في المركز الثاني وتراجع العمال للمركز الثالث، وهي ضربة قوية بالنظر لشعبية حزب العمال المفترضة بين الإسكتلنديين الأبعد في توجهاتهم عن الإنجليز المحافظين أكثر، بيد أن ليبراليي ويساريي إسكتلندا احتشدوا على ما يبدو خلف نيكولا سترجون وحزبها الإسكتلندي لتعزيز موقعه، وهو الحزب الذي أشرف سابقًا على مشروع استفتاء الاستقلال العام الماضي وخسر فيه لصالح الراغبين في البقاء داخل بريطانيا.
يعاني حزب العمال أزمة كبيرة، فالتحولات التاريخية في إسكتلندا تعني أن القطاعات الليبرالية هناك خرجت عن القواعد الشعبية التي يمكنه الاعتماد عليها في الانتخابات، كما أن التوجه اليميني الواضح للإنجليز، والممثل في الأغلبية التي حصل عليها المحافظون، بل وظهور حزب استقلال بريطانيا الأكثر تطرفًا بأجندته المُعادية للمهاجرين، يزيد الطين بلة، وهو ما يترك في الغالب معظم قطاعات المهاجرين والشرائح المنحازة لليسار كقاعدة وحيدة للحزب، مما يفسر جنوح أعضاء الحزب لاختيار جيريمي كوربِن الراغب في دفع الحزب نحو اليسار أكثر، على العكس من رغبة القيادات التقليدية الممثلة في أعضاء البرلمان من حزب العمال.
حرب ضروس هذه الأيام تجري بين الجناحين، وهي حرب فتحت فيها الجبهة التقليدية بالحزب النار على كوربِن حين واتتها الفرصة منذ أسابيع بعد أن قام كِن ليفينغستون، وهو عُمدة لندن بين عامي 2000 و2008، والشخص الأكثر راديكالية ربما في تاريخ الحزب مؤخرًا والذي تم تعليق عضويته في وقت سابق، بالحديث في إحدى البرامج عن دعم هتلر للصهيونية في أوائل الثلاثينيات باعتبارها حلًا لطرد اليهود، وهي تصريحات اعتبرها البعض مُعادية للسامية، ليشنوا حملة قوية على كوربِن والمقرب من ليفينغستون، وهي أزمة استجاب لها كوربِن بتعليق عضوية ليفينغستون بنفسه مجددًا.
كوربِن في مسيرة سابقة للتضامن مع غزة
“لا يجب أن يكون لحزبنا تلك الصورة المُعادية لليهود،” هكذا علّق صادق خان في وقت سابق على سياسات كوربِن، والذي يميل للتعبير عن دعمه علنًا لمجموعات المقاومة المعروفة في العالم العربي مثل حماس وحزب الله، على غرار كثيرين في صفوف اليسار الراديكالي في بريطانيا والمناصرين للقضية الفلسطينية، غير أن صادق خان كما يبدو ليس معجبًا بذلك التوجه، والجبهة التقليدية للحزب تجد فيه بعد فوزه بعمودية لندن كنزًا للدفع قدمًا نحو ترشيحه كرئيس أكثر وسطية للحزب مكان كوربِن عام 2020 أو حتى قبل ذلك، وهو أمر مُعتاد في السياسة البريطانية، فعُمدة لندن الحالي عن حزب المحافظين بوريس جونسون مرشح هو الآخر لقيادة حزب المحافظين بعد رحيل ديفيد كاميرون.
لم تكن مفاجأة حين غاب كوربِن أمس عن مراسم تنصيب صادق خان كعُمدة لندن، والتي بررها بحضور مراسم تنصيب عُمدة بريستول الذي نجح في إزاحة محافظ آخر، وهي حُجة ليست كافية نظرًا لأهمية لندن وانشغال الرأي العام بفوز صادق خان كأول عُمدة مسلم للمدينة ولأي عاصمة غربية على الإطلاق، بل وبأكبر عدد من الأصوات يحصل عليه شخص في معركة انتخابية بريطانية، إذ تجاوز عدد المصوتين له 1.3 مليون لندني، بيد أن انتماءات خان للتقليديين وتصريحاته ضد كوربِن تجعل الأخير أكثر اعتمادًا على أعضاء الحزب وناخبيه بشكل مباشر، وليس على مراكز الثقل القديمة، وهو أمر يتفق بالطبع وأجندته الراديكالية المشابهة لبرني ساندرز في الولايات المتحدة، ولكن يجعله أكثر ضعفًا في السيطرة على الحزب ككُل.
حزب المحافطين بين جونسون وجاويد
بوريسن جونسون بعد إعلانه دعم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
على الناحية الأخرى من الطيف السياسي يقع حزب المحافظين الأكثر تماسكًا والأوفر حظًا في الانتخابات الأخيرة، لكن صراعًا آخر بين جناحين فيه يتبلور على الأرجح، فعُمدة لندن المنتهية ولايته بوريس جونسون قد أحدث المفاجأة الكبرى بإعلانه دعم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو موقف براجماتي ربما لا يعبر بالضرورة عما يؤمن به، إذ أن جونسون يطمح بوضوح للوصول لمنصب رئيس الحزب خلفًا لديفيد كاميرون، وهو يعتبر قيادي أقوى منه وأكثر كاريزمية، ومن ثم لمنصب رئيس الوزراء عام 2020.
في الوقت الحالي تبدو القيادات المؤيدة لموقف كاميرون بالبقاء في الاتحاد الأوروبي (على أن تتفاوض بريطانيا لتوقيع اتفاق جديد مع مؤسسات الاتحاد) ممثلة بالكوادر المسؤولة عن الملف الاقتصادي والمالي، وأبرزها جورج أوزبورن وزير المالية وساجد جاويد بالنظر لخبرته المالية، وكلاهما بالطبع يدرك أكثر من غيره التبعات الاقتصادية والمالية السلبية التي ستعانيها بريطانيا إن خرجت من الاتحاد الأوروبي، والتكاليف الباهظة التي ستتكبدها على المدى القصير بإعادة صياغة علاقاتها ببلدان الاتحاد الأوروبي كطرف يقع خارجه.
لا نعلم حتى الآن لأي مدى ستكون لعبة جونسون السياسية ناجحة في الوصول لرأس الحزب أم لا، وهو أمر سيعتمد جزئيًا على نتائج استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والمنتظرة هذا العام كما تعهدت حكومة ديفيد كاميرون، بيد أن الجناح الأكثر اعتدالًا في الحزب قد يجد في وجه ساجد جاويد ورقة قوية بالنظر لخلفيته الباكستانية والمُسلمة، أولًا لكسب شرائح المسلمين والمهاجرين إلى صفها، خاصة إذا ما وصل صادق خان هو الآخر لرأس حزب العمال، وثانيًا لمحو الصورة السلبية التي خرجت عن الحزب باعتباره استخدم الكارت العنصري واليميني المتطرف في الانتخابات الماضية لاستهداف شخص صادق خان كمُسلم.
ساجد جاويد مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون
ليس كوربِن وحده هو من يعاني إذن، بل ديفيد كاميرون أيضًا يعاني في حزبه، فالحملة قوية الآن ضده وضد مرشح الحزب في انتخابات لندن زاك جولدسميث، والذي صرح علنًا أكثر من مرة عن مخاوفه من صلات صادق خان بالمتطرفين الإسلاميين، وظهوره في مناسبات مع شخصيات تحولت للإرهاب، فقد أشار مرة لمناسبة حضرها خان إلى جوار الداعية الإسلامية سليمان غني عام 2004، وهي مناسبة نظمتها مجموعة “أوقفوا الإرهاب السياسي” التي صنفتها الحكومة كمجموعة متطرفة، لا سيما مع انكشاف وجود القيادي بالقاعدة، أنور العولقي، كأحد داعميها، وأشار أيضًا لحضور خان مؤتمرًا مع ياسر السرّي، المتهم بالإرهاب، وسجيل أبو إبراهيم العضو بتنظيم “المهاجرون” والذي ثبت قيامه بتدريب أحد الضالعين في تفجيرات لندن.
باعتباره مسلمًا وحاضرًا باستمرار في “المشهد الإسلامي” بلندن، على عكس جاويد، كان طبيعيًا أن يظهر خان في مناسبات كتلك ناهيك عن أنه في معظمها كان يظهر كمُناظر لآراء هؤلاء، فسليمان غني على سبيل المثال معارض معروف لسياسات صادق خان الليبرالية اجتماعيًا، إذ كان الأخير قد صوّت بالموافقة على مشروع قانون لزواج المثليين بالبرلمان، غير أن ذلك لم يشفع له طوال حملته الانتخابية، والتي انصبت فيها أبواق حزب المحافظين على التشهير به تمامًا لحشد القطاعات اليمينية، وهي مهمة باءت بالفشل كما اتضح، إذ أن أغلب البريطانيين يستطيعون التفريق في نهاية المطاف بين قلقهم المشروع من المهاجرين وحرصهم على هوية بريطانيا المسيحية، وبين الانزلاق خلف حملات تشويه عنصرية بشكل فاضح.
زعامة إسلامية على رأس بريطانيا؟
صادق خان بالأمس أثناء مراسم تنصيبه عُمدة لندن
في نهاية المطاف، لا يمكننا القول بأن وجود صادق خان وساجد جاويد في موقعيهما، وربما وصولهما لرئاسة حزبيهما ووصول أحدهما لمنصب رئيس الوزراء يومًا ما، دليلًا على أسلمة بريطانيا بأي شكل كما يردد المتحمسين لقراءة أي اسم مسلم لمسؤول بريطاني، وكما يردد أيضًا اليمين البريطاني المتطرف، فظاهرة خان وجاويد ظاهرة بريطانية في المقام الأول، لا سيما وأن الإسلام ليس فقط العامل المشترك بينهما بل وخلفيتهما الباكستانية.
باكستان بالتحديد لها تاريخ ثقافي متشابك مع بريطانيا، فبريطانيا التي أشرفت على تقسيم الهند إلى دولتي الهند وباكستان لخلق وطن للمسلمين انتهى بها الأمر وقد فرّقتهم بين ثلاث دول هي الهند وباكستان وبنغلادش، وهو ما أطاح بالكيان السياسي لمسلمي القارة الهندية بعد أن كانت خلافتهم تحكمها قبل دخول الإنجليز، ويبدو أن إعادة الاندماج في الثقافة الهندية أمر صعب للباكستانيين الآن بشكل يدفعهم أكثر لعبور البحار إلى بريطانيا، لا عبور بضعة أميال إلى الهند، وإن كان تعداد الهند الضخم وفقرها مبررًا، فإنه ليس مؤثرًا بنفس القدر على خيارات مسلمي بنغلادش الذين يتدفقون للهند، وهو أمر للمفارقة يؤكد على التباين التاريخي والثقافي بين البلدين، فبنغلادش التي كانت تابعة لباكستان لم تبتلع ثقافة مسلمي شمال القارة وظلت على صلاتها الثقافية بمحيطها الهندي، في حين نجحت باكستان بذلك جزئيًا، وكيف لا وهي في النهاية من بنات أفكار المجموعات الإسلامية التي رأت التعاون مع الإنجليز كمسيحيين أفضل من الانصياع للهنود كهندوس.
المفارقات الباكستانية حاضرة إذن بقوة في لندن هذه الأيام، في صفوف المحافظين والعمال على السواء، وليس غريبًا إذن أن جاويد وخان يمثلان في حزبيهما التيارات الوسطية البعيدة عن اليسار الراديكالي من ناحية، واليمين العنصري من ناحية، وليس غريبًا أيضًا أن تنهال عليهما الاتهامات من جانب المجموعات الإسلامية المحافظة بأنهما انسلخا عن هويتهما الأصلية ليصلوا لتلك المناصب في بريطانيا، لكن خلفيتهما الإسلامية وملامحهما الهندية تظل مؤثرة في صياغة صورتهما في المسرح السياسي البريطاني، تمامًا كما فعلت يومًا ما أثناء تأسيس باكستان، والذي تم على يد رجل علماني من مسلمي الهند احتاج إلى دروس سريعة في الأوردو قبل أن يلقي بيان تأسيس باكستان!
أما بخصوص المهتمين بالأجندة الإسلامية والعربية، والباحثين عن، والمتحمسين لـ، مسؤولي الغرب القريبين من القضايا العربية والإسلامية، فحري بهم أن يوجهوا أنظارهم بعيدًا عن صادق خان وساجد جاويد، والمنشغلين ببناء قاعدة سياسية بريطانية داخل حزبيهما وفي بريطانيا ككُل، وأن يصبوا تركيزهم وتغطيتهم ودعمهم ربما للشخص الأكثر جدوى في هذا الصدد، وهو للمفارقة منافس صادق خان في حزب العُمال، جيريمي كوربِن، فإن كان ثمة رجل قد يغير بالفعل من دور بريطانيا في تلك الملفات ولو جزئيًا، فهو اليساري الراديكالي جيريمي كوربِن وليس الباكستانيَّيْن ذوي “الخلفية الإسلامية.”