يؤكد المؤلف في هذا الكتاب، أن العالم كله اليوم يبحث عن”الخلاص الكلي” من مشاكله التي تعددت وتعقدت في كل مجالات الحياة: مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، انعكست على الأفراد والأمم، وطالت بيئتنا التي نعيش فيها، وهددت كوكبنا بالفناء، وهذه المشكلات التي تشعبت وتداخلت أسبابها، لا ينفع في حلها مناهج جزئية ولا فلسفات أرضية.
فالحلول الصحيحة والمريحة لمشكلات أبناء آدم، يتعذر أن تأتي بها القومية العنصرية أو الطبقية أو الحزبية أو الطائفية أو الإقليمية أو اللاهوتية المتعصبة أو الليبرالية، أو الجدلية المادية والصراع الطبقي والحتميات التاريخية، أو أي طرح حصري أو أحادي ذاتي التكوين، ولا يمكن أن تأتي به الديموقراطية والعولمة.
والوضع العالمي الراهن، لا يمكن أن يقبل إلا حلولاً وبدائلاً قادرة على تقديم نفسها علميًا وعالميًا، بحيث لا يكون طرف يفرض، وطرف عليه أن يتقبل ويستجيب، وفي الوقت نفسه تكون قادرة على استيعاب وتجاوز فلسفات الأرض ومناهجها كافة.
وليس هناك مصدر غير القرآن الكريم المحفوظ، المكنون، الهادي يستطيع أن يحقق هذين البعدين – معًا – أعني عالمية الحلول والبدائل والمعالجات وشمولية المنهج المعرفي، وقدراته الهائلة على التصديق والهيمنة والاستيعاب والتجاوز، وبالتالي تقديم الحلول الشاملة لمشاكل البشرية (ص 80-81).
مشكلات في طريق العودة للقرآن
ولكن، أمة القرآن لم تعد أمة القرآن، كما نرى حالها، فقد فقدنا صلتنا الصحيحة بالقرآن ومن ثم انطبق علينا قول الله تعالى {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} (الجمعة:5).
فحين ندرس أحوال المسلمين – والكلام للمؤلف -، ندرك أن الذين حملوا القرآن ثم لم يحملوه إلا “بالطريقة الحمارية” – أي حملوه على ظهورهم لا في قلوبهم وعقولهم ونفوسهم – لن يكون مصيرهم أحسن من مصائر أولئك الذين حملوا التوراة، بل سوف يكون أسوأ بكثير! (ص 50)، فهؤلاء لا يمكنهم أن يطرحوا حلولاً لمشاكلهم، ناهيك عن أن يطرحوا حلولاً لمشاكل البشرية جمعاء.
بعض أسباب الانفصام الحالي بين القرآن وحملته
– تراجع علاقتهم باللغة العربية عامة فضلاً عن لسان القرآن خاصة.
– سيادة اللهجات العامية في أجهزة الإعلام والتعليم والصحافة، وبين القيادات السياسية والدينية.
– إخراج اللغة العربية من دائرة اللغات العلمية وعدها غير صالحة كلغة علوم.
– تكاسل الناس عن قراءة القرآن المجيد، فبعد ما كانت كل شرائح المجتمع لا تنسى نصيبها من القرآن، وكان أول ما يبدأ الأبناء تعلمه عند بلوغ سن التمييز القرآن وتجويده ورسمه وكتابته وحفظه، صار الأمر إلى الضد ونسيت الأمة قرآنها، وهجر المسلمون القرآن، بفضل شيوع الأفكار العلمانية التي تؤكد أن القرآن كتاب ديني أخروي تعبدي لا علاقة له بالدنيا، وسيادة الجمود في أساليب تعليمه.
نقطة البداية
يؤكد المؤلف، أن تجاوز “الأمة القطب” ثم العالم من بعدها الأزمات الفكرية والثقافية والصراعات والتناقضات الطائفية والأممية التي تأخذ بخناق البشرية اليوم، يستلزم أن تكون نقطة البداية في التوصل لهذه الحلول الشاملة التي تنطلق من منهجية القرآن المعرفية، محاولة فهم الحالة الراهنة لأمتنا وللعالم – كله – من حولها.
ثم ابتغاء القرآن المجيد، والعروج إلى عليائه من جديد، والتعامل معه من ذات المنطلقات التي كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتعامل معه بها بحسبانه كلام الله – تبارك وتعالى – المطلق والمصدق والمهيمن والحاكم على ما عداه، وبحسبانه الخطاب العالمي النازل بالشريعة السمحاء التي نفت ورفعت عن الناس الحرج، وأحلت لهم الطيبات، وحرمت عليهم الخبائث، ووضعت عنهم الإصر والأغلال التي كانت عليهم، فكانت رحمة للعالمين.
في هذه العودة الصادقة المخلصة التامة إلى القرآن المكنون، يمكن أن تبدأ مسيرتنا الكبرى، وانطلاقتنا الشاملة للخروج مما نحن فيه، ولتأسيس”البديل الحضاري الإسلامي العالمي” القائم على الهدى والحق والقيم العليا: التوحيد والتزكية والعمران (ص 58-59).
رجوع للقرآن، لا توظيفه
وهذه العودة للقرآن ليست “توظيفًا للدين” ولكن”رجوعًا إليه” لكونه المرجعية التي يجب الرجوع إليها لمعالجة المشكلات المعاصرة التي تحتاج إلى تجنيد طاقات الشعوب، ووضعها على صعيد واحد، وتحقيق التعاون بينها.
فالتوظيف يعني استدعاءه لأداء وظيفة أو دور يظن أصحاب “القرار السياسي” أن الدين يستطيع أن يؤديه، فيستدعى بقدر ما يؤدي ذلك الدور، ثم يعاد إلى الأرفف العالية ليستقر عليها حتى حين، وذلك عندما تظهر حاجة أخرى، فهذا ليس رجوعًا حقيقيًا إلى الدين، أو عودة صادقة أو كاذبة إليه، ولا يصنف في إطار توبة، أو رجوع إلى الحق أو صحوة دينية، فهو وظيفة مؤقتة تنتهي بانقضاء الحاجة إليها (ص 35-36).
شروط العودة الصحيحة للقرآن
يشدد المؤلف – رحمه الله – على أن القرآن هو الأقدر بمنهجيته القائمة على”الجمع بين القراءتين” على حل مشكلات الوجود الإنساني وأزماته الفكرية والحضارية، ويدخل الناس كافة في السلم، ولكن حتى يعطينا القرآن بعضه لا بد أن نعطيه نفوسنا وعقولنا وقلوبنا كلها، ولا بد من تحقيق عدة أمور تمهيدية قبل الولوج إلى رحابه هي:
الأول: تجريد وتنقية معارف وحيه من سائر آثار النسبية البشرية التي أحاطت بمطلقه، وأخضعته لوعيها الذاتي، وحكمت عليه بتاريخانيتها، وحكمت بمحكمة أيديولوجياتها وثقافاتها وأعرافها وتقاليدها وقاموسها اللغوي.
الثاني: الالتزام بالأمانة مع القرآن فكريًا ونفسيًا فلا ندخل إلى عالم القرآن بحثًا عن شواهد لأفكار بنيناها بعيدًا عنه، ومبادئ وضعناها خارجه.
الثالث: الدخول إليه بعد فهم “الأزمة” وإدراك أبعادها – كلها – والإلمام بتعقيداتها، والإيمان بقدرة القرآن المجيد على إيجاد حل مناسب لها، وأن لا مصدر غير القرآن يستطيع أن يقدم العلاج الشافي فيها.
الرابع: إدراك “الخصائص الذاتية” للأمة القطب أو للأمة المنطلق التي يراد لها أن تكون ميدان الإصلاح والتغيير الأول، وقاعدة الانطلاق باتجاه “العالم والعالمية” وهي الأمة المسلمة والعرب في قلبها (ص 81-84).
رد الاعتبار للغة العربية
يؤكد المؤلف أن شرط شروط العودة الصحيحة للقرآن، والاستفادة من هديه في حل مشكلات الإنسانية، لن يكون إلا بعودة اللسان العربي المبين إلى أبناء أمتنا عبر:
– رد الاعتبار إلى اللغة العربية وإعطائها كل ما تستحقه من اهتمام، وتيسير سبل تعلمها وتعليمها بكل ما هو ممكن من الوسائل.
– حسبان إتقانها شرطًا لا تساهل فيه في تولي المسؤوليات العامة والوظائف المختلفة.
– العناية بترجمة مصادر ومراجع العلوم المختلفة من سائر اللغات إلى العربية وتعريب المصطلحات العلمية.
– تعريب التعليم الجامعي بكل أنواعه.
– استخدام الحاسوب وتقنياته استخدامًا يخدم العربية.
– تبني منظمة المؤتمر الإسلامي بكل مؤسساتها الدعوة إلى نشر اللغة العربية في العالم الإسلامي.
– تخصيص الدول العربية البترولية جزءًا من إيرادات النفط في بناء مؤسسات تحت مظلة منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية والأزهر وغيرها لوضع استراتيجية شاملة لتحقيق ما سبق.
خطوة في الطريق نحو بناء وعي قرآني جديد
وفي النهاية، يؤكد المؤلف – رحمه الله – أن بناء وعي قرآني جديد، يبدأ بالعناية بدراسة القرآن، بأشكال ميسرة، تلاحظ في تفاصيلها الأعمار والمستويات والجنس واختلاف البيئات، وما إليها، مع شيء من العناية بتفسير المفردات القرآنية ببعضها، ليكون القرآن نفسه المبين لمعانيه، وتستقر المعاني القرآنية ذاتها في العقول، فتكون أعون على التأمل فيه.
وكذلك، عبر تطوير مدارس “تحفيظ القرآن الكريم” بحيث تصبح مراكزًا لإيجاد إنسان القرآن، ولإحداث التنمية العقلية والذهنية والنفسية بالقرآن، وتعليم الطلاب فيها تاريخ القرآن، والفنون التي ارتبطت به من كتابة وزخرفة، وتجويد، وخطوط بحيث توجد مجموعة من الفنون الأساسية المتميزة بتأثير القرآن في البيئات المسلمة ليس فيها أي مجال للشرك.