انقطعت عن مشاهدة مسلسلات رمضان والأعمال الدرامية المصرية بشكل عام، منذ عام 2012، دون سبب رئيسي دفعني لذلك أكثر من الانشغال، وبناءً عليه فأنا أزعم أنه ومنذ ذلك التاريخ وحتى مشاهدتي لأعمال رمضان الحالي، لم تتغير ماكينات الدراما المصرية عن الأعوام السابقة، سوى في الاحترافية في “نحت” الأعمال الأجنبية، لدرجة أني شاهدت مقطع على الفيسبوك، لمسلسل مصري هذا العام، تم نحت الحوار بين الممثلين، حتى حركات الأيدي والانفعالات والتأثيرات لدى الممثلين، فبعد أربعة أعوام لم يتغير شيء من ناحية جودة المنتج المقدم للمشاهد، حتى المنتج العنيف، لم يخرج عن كونه بلطجيًا، وحارة قاهرية قديمة و”إيفيهات” تشبيح، مع الأخذ في الاعتبار التغيرات السياسية التي تنعكس دائمًا على الواقع الفني – إن جاز التعبير -، فمربط فرسهما واحد، خصوصًا في الوقت الذي يتزامن فيه، مصادرة الدولة كل ما لا يخضع لها بشكلٍ أو بآخر.
ويمكن القول، بأن ما أضيف هذا العام هو اعتماد الرواية الأمنية وصبها في عقول المشاهد صبًا، من خلال إظهار ضباط الشرطة الأشاوس مدافعين عن الإرهاب من الجماعات المسلحة، ويعملون بأحدث التقنيات الاستخباراتية، ويجندون هذا ويعاقبون ذاك، من أجل عيون “الوطن”، هذا ما تغير.
الأسطورة الواقعية
وعلى كل حال، ينتابني شعور بالرغبة في شكر صناع مسلسل الأسطورة، هذا العمل الذي جعلني أحزن لموت تاجر سلاح وزعيم ومحرك للبلطجية في إطار تصفية حسابات بينه وبين تاجر سلاح آخر وزعيم بلطجية منافس، وهم ذاتهم من جعلوني أحس بلحظة انتشاء لمقتل تاجر السلاح الغادر.
ولكن هذا العمل يخبرك كغيره بأن الدولة بكامل أركانها ستطئك بأقدامها إذا كنت لا تملك سوى اجتهادك، لحظات الصدق هذه تقتلني في الدراما المصرية، حيث تصوير الواقع أو سمه كما شئت، لكن يا عزيزي أيضًا – كما قال العمل – هناك ضابط الشرطة المرتشي الخائن لزوجته وهناك رجل الدولة الكبير الذي يحرك دولة البلطجية في البلاد، ويقوم بتصفية من يفشل في مهامه، وغيرها وغيرها.
مشاهد كثيرة، تتقاطع جميعها فلا تظهر سوى مصر وواقعها الأليم، وواقع الشعب الذي وقف ليشاهد إهانة امرأة في المسلسل ولم يدافع عنها، هو ذاك الشعب االذي سلّم البنات للبلطجية واعتدى عليهم في التظاهرات، هم هؤلاء المواطنون الشرفاء، حيث آفة حارتنا، الخوف والرعب من الكبير ذي الصوت العالي وحامل السلاح، أيًا كان حمله في مواجهة من أو بحمله يجني على من، وأنك لن تحيا إلا إذا كنت “ناصر الأسطورة” وليس ناصر طالب القانون، تلك هي القاعدة باختصار شديد، وهو ما قاله صناع العمل في ثنايا الحلقات وما بين سطور سيناريو وحوار العمل.
لا أخفيكم سرًا، جُذبت للعمل، وأصبحت أنتظر حلقاته، متلهفًا لمعرفة التالي، الخطوة القادمة، من القاتل في حلقة الغد، ومن المقتول أيضًا؟
شاهدت مقاطع مصورة ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، عن تأثر الناس بموت الأسطورة في حلقات العمل الأولى، وللأسف فوجئت بردود فعل غاية في السخافة والانحدار الثقافي، حينما يكتب أحدهم أن المشاهدين للمسلسل على المقهى، أخذوا بعضهم بالأحضان في مشهد براءة البطل، فهذا هو السخف الخالص العبث بالعبث الواقعي الذي نعيشه الآن، وما سينتج عن هذا الهراء الدرامي، برأيي لن يكون أقل مما أنتجه عبده موته على مجتمعنا المصري.
أريد أن أستمر في طرح الأسئلة قليلًا، حتى نصل إلى لُب هذه العلاقة، بين الأعمال الدرامية والمجتمعات، وهنا يجب طرح سؤال جديد، هل السبب في ذلك هو السُبكي فقط؟ هو عبده موته ورفاقه؟
الحقيقة، أنهم لا يتحملون سبب هذا الانحدار الثقافي وحدهم، وهذا ليس دفاعًا عنهم أو عما يقدمونه، لكن إذا كان ذلك هو جودة المعروض وهذا ما يقدمونه فأين دور من يُنعتون بالمثقفين؟
ثورتنا المنكوبة
عششت بعقلي فكرة لا أمل من تكرارها ومناقشتها في جميع جلساتي، أن سبب نكبة ثورتنا، أننا تركنا الشعب فريسة لما يقدمه رجال نظام مبارك لهم، تركناهم فريسة للميس الحديدي وتوفيق عكاشة وعادل إمام، يملأون عقولهم بما يشاءون، وانشغلنا نحن بمعاركنا السياسة، لم نلمس عقل الشعب، ولم نجعل انحيازه، لم نهتم به أصلًا، حتى لحظتنا هذه وفي صراعاتنا السياسية آخر ما نفكر فيه هو الشعب.
كم عمل سينمائي أو درامي أُنتج لصالح ثورة يناير ولفكرتها ولدعمها، اكتفينا بأغانينا النخبوية عن الحرية، أي حرية؟ ومن يفهم هذا المصطلح أصلًا؟ أغلقنا على أنفسنا نوافذ مبادراتنا الثقافية، وأصبحت محاضرة هذا المثقف أو ذاك السياسي لا يحضرها سوى القليل، لأننا بعدنا عن هذا الشعب الذي خرجنا من أجله وضحينا من أجله، ابتعدنا عنهم بمصطلحاتنا الرنانة، واقتربوا هم من منهم، بـ “الهجايص” بما يفهمونه.
اللوم علينا قبل غيرنا، لم نكرس جهدًا لإنجاز عملٍ ضخم ليناير، مسلسل رمضاني عظيم، فيلم سينمائي كبير، بينما الآخرين، ينتجون سنويًا عشرات الأفلام والمسلسلات لتشويه صورتنا وتحسين صورتهم، صورة الضابط الذي يقبل الطفل ويهدئ من روع زوجة “الإرهابي”، صورة أن الناجح الذي تحبه الناس هو البلطجي العطوف.
وفي النهاية، أصبحنا أمام قواعد جديدة للحياة في مصر، أضحت القواعد مختلفة، وقوانين حياتنا اليومية هم من وضعوها لنا.