ترجمة وتحرير نون بوست
هذا هو الفصل الأخير من التحقيق الرائد الذي قام به الصحفي روي غوتمان، الحاصل على جائزة بوليتزر، والذي سلط فيه الضوء على الدور المحوري الذي لعبه بشار الأسد في خلق ما يسمى بتنظيم الدولة، وبالتالي، يدل هذا على تواطؤ هذا الديكتاتور مع الفظائع التي يقوم بها تنظيم الدولة بالتوافق مع تخطيطه لشن هجمات إرهابية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا.
لذلك فإنه على الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الحقائق خاصة عندما يتحدث بتفاخر عن التعامل مع روسيا والأسد لدحر تنظيم الدولة.
وكما رأينا في الفصلين السابقين، حاول الأسد في البداية تقديم نفسه أمام القادة الغربيين على أنه ضحية ثورة يقودها مجموعة من الإرهابيين، وعندما فشل في ذلك أطلق سراح المسجونين الذين قاتلوا ضد القوات الأمريكية في العراق، ومن ثم شن هجمات زائفة على منشآت حكومية ونسبها للإرهابيين، وبعيدًا عن دحر تنظيم الدولة، قام الأسد بغض الطرف عن إنشائه لدولة داخل دولة أخرى واتخاذه للرقة عاصمة لها، وبعد ذلك، ترك مهمة محاربة المتطرفين للولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول.
في ربيع سنة 2012، عبَر المئات من المتشددين الإسلاميين القادمين من العراق إلى شرق سوريا وعلى مرأى من أنظمة الأسد الأمنية واسعة النطاق، وبمجرد وصولهم تلقت المخابرات السورية تعليمتين، الأولى كانت مكتوبة وذُكر فيها أسماء وتفاصيل عن الجهاديين بالإضافة إلى تعليمات تفضي إلى ضرورة “اعتقالهم وتصفيتهم”.
في أكتوبر 2015، شهدت سوريا أبرز العمليات التي تدل على التواطؤ الواضح بين الطرفين، حيث قام تنظيم الدولة بهجوم ساحق وجهًا لوجه مع المعارضة المتحصنة في مدرسة للأطفال في شمال حلب، باستخدام الدبابات والمدافع الثقيلة والسيارات المفخخة
ولكن هذه كانت مجرد تعليمات زائفة، فعلى الرغم من تعميم التعليمات بقتلهم إلا أن النظام أرسل رُسُلاً رسميين لنقل رسالة معاكسة تمامًا للتي سبقتها.
وصرح محمود نصر، وهو مسؤول سابق في المخابرات بشمال سوريا والذي انشق عنهم في أكتوبر/ تشرين الأول 2012 قائلاً: “لقد جاؤوا من مقر القيادة، وقاموا بعقد اجتماع شمل كل مكاتب الاستخبارات وأعطونا التعليمات بعدم الاقتراب منهم أو حتى بلمسهم”.
كما قال نصر إن الجهاديين كانوا في البداية يصلون في مجموعات تتكون من ثلاثة أشخاص وأحيانًا خمسة إلى أن أصبحوا بالمئات “كل شخص منهم أصبح يجلب أصدقاءه معه”، وانظم غالبية القادمين إلى جبهة النصرة، وهي مجموعة أعلنت على الملأ انتماءها إلى تنظيم القاعدة في أبريل/ نيسان 20،13 ولكنها انقسمت فيما بعد إلى مجموعتين، النصرة وتنظيم الدولة، أما بقية الجهاديين فقد انظموا إلى أحرار الشام، وهي مجموعة إسلامية ثالثة ولكنها أكثر اعتدالاً على ما يبدو.
سلطت هذه التعليمات المتناقضة والمتضاربة الضوء على العلاقة المشبوهة بين نظام الأسد وتنظيم الدولة، ويَدّعي بشار الأسد الآن أن جميع الأطراف الذين يعارضون سياسته الداخلية هم إرهابيون عازمون على تدمير الدولة السورية، ودائمًا ما يناشد المجتمع الدولي ليساعدهم على مكافحة الإرهاب، ولكن في الحقيقة النظام هو الذي يسهل عملية تكوين وتوسع هذه المجموعات الإرهابية في سوريا.
وغداة التحقيقات التي استمرت عامين، تم كشف اللثام عن صورة أكثر تعقيدًا للنظام، حيث قام بتصعيد العمليات الإرهابية بالتعاون مع تنظيم الدولة، وفي الوقت نفسه كان يدّعي بأنه يحاربه وهو ما أسفر عن خسائر فادحة.
في هذا السياق، قال مسعود برزاني، رئيس إقليم كردستان العراق في مقابلة أجراها مع صحيفة ديلي بيست: “أحيانًا يكونون متحالفين وأحيانًا أخرى يصبحون أعداءً، فهم يتعاونون مع بعضهم البعض في بعض الأمور ومن ثم يتقاتلون، لماذا ذلك؟ الله وحده يعلم السبب”.
ركز التنظيم على الجانب المادي لاستقطاب المقاتلين الأجانب وتجنيدهم، من خلال عرض راتب مغر ووعود بأنه هناك زوجة في انتظارهم
ولكن ما هو جلي، هو أن نظام الأسد تربطه علاقة وطيدة مع تنظيم الدولة ومنذ فترة طويلة، ويعود تاريخ هذه العلاقة إلى الحرب في العراق، عندما سمحت سوريا للآلاف من المتطوعين للذهاب ومحاربة الاحتلال الأمريكي، ولكن بمجرد رجوعهم سُجن منهم ما يقارب الألف جهادي ولم يتم الإفراج عنهم إلا سنة 2011، عندما قام السوريين بانتفاضة وطنية ضد النظام، وأغلبية الذين أطلق سراحهم أصبحوا اليوم قادة في تنظيم الدولة.
كل هذا كان بغية تمهيد الطريق للجهاديين للقيام بعمليات إرهابية، وبالتالي سنحت الفرصة أمام النظام ليظهر نفسه على أنه يقاتل هذه الجماعات ببسالة.
وعقب وصولهم سنة 2012، غض النظام الطرف عن استيلاء المتطرفين على القواعد الحكومية، كما سمح لهم أيضًا بالسفر ذهابًا وإيابًا من سوريا إلى العراق بكل أريحية، ولم يقم باتخاذ أي إجراء في شأن نقل تنظيم الدولة للأسلحة إلى العراق، وهو ما أدى إلى غزو التنظيم للموصل في حزيران/ يونيو 2014.
أما اليوم، فإن النظام السوري يُسقط براميل متفجرة وقذائف على البلدات التي يتموقع فيها تنظيم الدولة، لكن الخسائر لا يتكبدها إلا المدنيون، وفي معظم الأحيان، كان خط المواجهة بين القوتين يتسم بالهدوء.
وأفادت كارين فون هيبل، وهي مسؤولة سابقة في وزارة الخارجية الأمريكية والتي عملت على القضية السورية لمدة ست سنوات وذلك إلى حد نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، بأن “النظام تجاهل تنظيم الدولة تماما، وسيكون من الصعب جدًا إيجاد قرائن تدل على مواجهة النظام للتنظيم، وحتى الهجمات القليلة التي شنها كانت دائمًا ما تستهدف المدنيين عوضًا عن مقاتلي التنظيم”.
ودائمًا ما تستخدم فون هيبل التي تترأس حاليًا المعهد الملكي للخدمات المتحدة،عبارة الدولة الإسلامية في العراق والشام بدلاً عن تنظيم الدولة.
إن التنظيم مليء بالألغاز المحيرة، ومن بين هذه الألغاز، كيف كان التنظيم يتخلص من كميات السلاح المهولة التي يحكم قبضتها عليها؟
لكن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري كان أكثر جرأة وصرّح في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 بأن الرئيس السوري بشار الأسد هو الذي أوجد تنظيم الدولة وذلك من خلال إطلاق سراح 1500 من الجهاديين المسجونين، وذلك بالتوافق مع رئيس مجلس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، الذي أفرج بدوره عما يقارب الألف سجين، وكما صرح كيري عقب الهجمات الإرهابية التي استهدفت باريس إن الأسد يريد أن يقول من خلال كل ما يفعله “إما أنا أو الإرهاب”.
في أذار/ مارس، حاصر النظام السوري تنظيم الدولة بمساعدة من قبل قوات القصف الجوي الروسي وميليشيات حزب الله اللبناني، وهو ما أفرز عن استعادة مدينة تدمر الأثرية.
لكن رغم ذلك توجد العديد من الأدلة التي تثبت ضلوع النظام في تسهيل استيلاء المتطرفين على الأراضي التي كانت تسيطر عليها قوات المعارضة. وحمّل المسؤولون العراقيون، أين يحتل تنظيم الدولة وشركاؤه السنة ثلث البلاد، بشار الأسد مسؤولية صعود تنظيم الدولة.
وصرح سعيد الجياشي، الذي كان عضوًا في مجلس الأمن القومي قائلاً: “لقد مهد الأسد الطريق للإرهابيين الدوليين ليعبروا من سوريا إلى العراق لمحاربة الاحتلال الأمريكي”، مشيرًا بذلك إلى فترة العشر سنوات التي اتسمت بتوافد المتطوعين الجهاديين الأجانب إلى العراق لمحاربة القوات الأمريكية، كما أضاف الجياشي أن الأسد يعتمد الآن نفس الأساليب لجلب الإرهابيين إلى سوريا، وأنا على اعتقاد تام بأنه هناك نوع من التنسيق الرفيع الطراز”.
اتُخذت أول خطوة لإنشاء تنظيم الدولة في أكتوبر/ تشرين الأول 2015 عندما قام أبو بكر البغدادي، الذي كان في ذلك الوقت رئيس تنظيم القاعدة في العراق، بإرسال أبو محمد الجولاني، أحد القادة المتشددين، لتشكيل جبهة النصرة، الفرع السوري لتنظيم القاعدة.
ثلثي مقاتلي التنظيم من جنسيات أجنبية
وفي ربيع سنة 2012، توافد الجهاديين إلى سوريا، وقال نبيل دينال، وهو أحد المنشقين عن الحكومة منذ يونيو 2012: “إن النظام كان على دراية كاملة بقدومهم، وبأنهم يتحركون في الريف ويتنقلون بين القرى، ولكن، رغم ذلك، لم يتم استهدافهم”.
كما قال نصر، وهو مسؤول سابق في المخابرات “كنا أحيانًا نُعلم القيادات العليا بأسماء البعض منهم، ولكننا لم نتلق أي أوامر بتتبعهم، كما لم يتم مدنا بأي بيانات إضافية عنهم”.
لاحظ زعماء القبائل في المناطق الحدودية عودة المقاتلين إلى سوريا، ووفقًا لسلمان الشيخ الرئيس السابق لمركز بروكينجز في قطر والذي دائمًا ما يقدم أسماء بعض الشخصيات السورية البارزة التي يُشتبه في تورطهم في التآمر على مستقبل البلاد، “لقد رأوا هؤلاء المقاتلين يمرون من أمام بيوتهم بين سنتي 2003 و2005، واليوم أيضًا وبأم أعينهم يرونهم عائدين وكيف يتم استقبالهم بترحاب، ولكن لم يتم مواجهتهم من قبل الحكومة”.
في أواخر سنة 2012، عندما صنفت الولايات المتحدة جبهة النصرة كمنظمة إرهابية تحولت هذه المجموعة إلى قوة قتالية فعالة مناهضة للنظام.
في نيسان/ أبريل 2013، أعلن البغدادي إنشاءه تنظيم الدولة في كل من العراق وسوريا لكن الجولاني الذي أنشأ الدعم المحلي الشعبي لمحاربة تنظيم الدولة رفض إغلاق النصرة وبالتالي أصبحت المجموعتين غريمتاه.
ومن ثم عزز البغدادي قواه في شرق وشمال سوريا. وفي آيار/ مايو من نفس السنة، نجح في افتكاك مدينة الرقة من قوات النصرة وبدأ في الاستيلاء على بلدات أخرى في شمال سوريا، استطاع التنظيم التوسع بسرعة وذلك من خلال فتح أبوابه للمتطوعين من الجماعات الإسلامية الأقل تطرفًا وتجنيده لمتطوعين من الخارج.
إن المواجهات بين تنظيم الدولة والجيش السوري قليلة، هذا إن لم نقل بأنها لم توجد أصلاً، ولكنها كانت تستهدف قواعد رئيسة خارج الرقة، وحتى إثر تنصيب العلم الأسود على مكاتب المسؤولين الحكوميين السوريين السابقين، وجعلها العاصمة الفعلية لتنظيم الدولة، والادعاء بأن تلك الأراضي أصبحت تابعة لهم، لم تستهدف الطائرات السورية تلك المواقع.
أما في الرقة، فقد عمل تنظيم الدولة على أساس أنها دولة داخل دولة أخرى، كما اعتمد نسخة متطرفة من الشريعة الإسلامية، ونظموا عمليات إعدام علنية، واضطهدوا السكان المسيحيين حتى لاذوا بالفرار، ولكن الأكثر شؤمًا، هو إرسالهم لرجال مسلحين لتمديد جماعاتهم المتمركزة في مناطق أخرى في سوريا، كما كانوا يتنقلون بكل أريحية بين سوريا والعراق، والجيش السوري يشاهد فقط.
وعندما تأكد النظام من إحكام قبضته على شمال سوريا أعلن هجومًا عسكريًا ضد المعارضة المدعومة من الغرب والذي وصفها بأنها عملية “طمس للقذارة”، حيث قام النظام بمراقبة الحدود والمعابر الرئيسية التي يتم تزويد المتمردين من خلالها بالأسلحة، التي توفرها لهم الدول الغربية والخليجية، بالإضافة إلى ذلك، استولى على نقاط التفتيش التابعة لهم وخطف صحفيين غربيين وسوريين واحتجزهم من أجل الحصول على فدية، كما اغتال النظام قادة المعارضة، ولا زال البعض منهم مختطفًا إلى الآن، وقد ينتهي بهم المطاف معدمين في الأماكن العامة وأمام الملأ.
عندما انضم أبو خليل إلى تنظيم الدولة في أواخر ربيع 2013، كان يأمل بأن يقوم التنظيم، من خلال الأسلحة والأموال والقوى البشرية التي يمتلكها من تقوية نفوذ الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة لمحاربة حكومة بشار الأسد.
مر حارس الأمن في جامعة حلب، والذي يبلغ من العمر 26 سنة، بشهر تدريب واحد فقط ومن ثم ارتدى حزامًا ناسفًا محملاً بمادة “تي إن تي” المتفجرة وشارك في معارك الاستيلاء على القواعد الحكومية السورية، لكنه امتنع عن مبايعة أو الولاء مدى الحياة لكل من الأمير المحلي والبغدادي.
وقال المقاتل السابق الذي طلب عدم الكشف عن هويته ومناداته فقط باسم “أبو خليل”: “لقد أمضيت معهم ستة أشهر، لكنني لم أفهم عنهم شيئًا البتة، لم أفهم أهدافهم ومطالبهم السياسية، أما بالنسبة للبغدادي، لم تكن لي به معرفة شخصية فكيف يريدني أن أبايعه؟”.
في كانون الأول/ ديسمبر سنة 2014، أجرينا مقابلة صحفية مع أبو خليل في أحد منازل أصدقائنا في مدينة الريحانية، بجنوب تركيا، كان أبو خليل مندهشًا من قدرة تنظيم الدولة خلال فترة وجيزة وفي منتهى السهولة على الاستيلاء على العديد من المدن في سوريا وتحويلها إلى قواعد تابعة له، وصرح أبو خليل قائلاً “في بعض الأحيان كنت أحس أن الجيش السوري لا يظهر أي مقاومة بل يسارع للانسحاب والتخلي عن مواقعه دون قتال، هل كانوا خائفين من القاعدة لأن القاعدة تمتلك أحزمة ناسفة؟ أم كان ذلك نتيجة للتعاون بينهم وبين النظام؟ لم أقدر على فهم ماهية الموضوع إلى الآن، وهذا هو السؤال الأهم من كل شيء في الوقت الراهن”.
ووفقا للمعطيات التي أوردها أبو خليل، فإن ثلثي مقاتلي التنظيم من جنسيات أجنبية، حيث قاتل أبو خليل جنبًا إلى جنب مع قائد تونسي في التنظيم بالإضافة إلى مقاتلين من الشيشان وإسبانيا وألمانيا وتركيا والأردن والعراق ومنطقة الخليج وشمال إفريقيا، والجدير بالذكر أن المعسكر التدريبي الذي كان يتلقى فيه أبو خليل تعليمه وأساسيات القتال كان يُدرّس باللغة الإنجليزية مع وجود ترجمة للعربية.
وفي السياق ذاته، قال أبو خليل “إذا صادف أن رأى عناصر التنظيم شخصًا يدخن أو لا يطيل لحيته، يٌتهم بالكفر ويُهدد بقطع رأسه”، كما أشار أبو خليل إلى أن القائد الذي كان يقاتل تحت إمرته والذي انشق عن جبهة النصرة، قد أمرهم بقطع كل الاتصالات مع جبهة النصرة التي وصفها بمجموعة “المتمردين”.
“إن النظام كان على دراية كاملة بقدومهم، وبأنهم يتحركون في الريف ويتنقلون بين القرى، ولكن، رغم ذلك، لم يتم استهدافهم”
ركز التنظيم على الجانب المادي لاستقطاب المقاتلين الأجانب وتجنيدهم، من خلال عرض راتب مغر ووعود بأنه هناك زوجة في انتظارهم، وعلق أبو خليل على هذا الموضوع قائلاً: “أي مقاتل أجنبي ينضم للتنظيم سيتزوج مباشرة، كما يُقدم لهم القادة في التنظيم المال الكافي والدعم وذلك لكسب ثقتهم”، ونوه أبو خليل لحقيقة أن التنظيم كان يقدم مهرًا عالي القيمة لكل الفتيات السوريات اللاتي يتزوجهن العناصر الجديدة، وتتراوح قيمة المهر بين 1000 دولار و4000 دولار كحد أقصى، في المقابل، حُرم المقاتلون السوريون ضمن التنظيم من هذه الامتيازات وهو ما دفعهم لمغادرته، وكان أبو خليل أحدهم، حيث ترك التنظيم في أيلول/ سبتمبر 2013.
إن التنظيم مليء بالألغاز المحيرة، ومن بين هذه الألغاز، كيف كان التنظيم يتخلص من كميات السلاح المهولة التي يحكم قبضتها عليها؟ وفي هذا الصدد قال أبو خليل “كنا نستولي على كميات ضخمة من الأسلحة من القواعد العسكرية ولكن لم نكن نرى أيًا منها ضمن القاعدة، وعلمت فيما بعد أن معظم الأسلحة كانت ترسل للعراق”.
أبرز الأمثلة على تورط نظام الأسد مع تنظيم الدولة ودعم توسعه من خلال القوة العسكرية، تتجلى من خلال وقائع تمركز قوات التنظيم في مدينة الباب في الشمال الشرقي لمدينة حلب، والتي سيطرت عليها في أيلول/ سبتمبر 2013.
وفي الإطار ذاته، أفاد أحد مقاتلي لواء التوحيد في الجيش السوري، عصام النايف الذي يقطن حاليًا في مدينة نسيب في الجنوب التركي، “كان الجيش الحر يملك 500 مقاتل في المنطقة وله التعزيزات اللازمة في مدينة الباب”. ومن الوقائع الغريبة التي حصلت خلال تقدم التنظيم للسيطرة على المدينة، ففي حين كان الجيش الحر ينتظر التعزيزات القادمة من المقاومة المتمركزة في مدينة منبج القريبة، قام تنظيم الدولة بإرسال كتيبة من المقاتلين من إحدى القواعد العسكرية الحكومية في غرب كويرس.
ووضح النايف ملابسات العملية قائلاً: “لقد تلقينا مكالمة لاسلكية من قبل النظام، يأمر من خلالها قوات السلاح الجوي بقصف قوات التعزيز القادمة من مدينة منبج”، نتيجة لهذه الأوامر، قتل خمسة وعشرين مقاتل من المعارضة، في حين تقدمت قوات التنظيم دون أي حواجز أو عقبات، واضطر مقاتلو المعارضة لأن يتخلوا عن مدينة الباب (مؤخرًا، تمكنت القوات الكردية السورية بالتعاون مع القوات الجوية الأمريكية، بالإطاحة بالتنظيم في مدينة منبج).
في أواخر سنة 2013، أصبح العديد من المقاتلين السوريين في تنظيم الدولة مقتنعين بأن التنظيم على علاقة بحكومة الأسد ويتعاون معها، ومن الأدلة الدامغة على تورط التنظيم مع نظام الأسد، شريط فيديو مطول نُشر على موقع اليوتيوب في آذار/ مارس سنة 2014، نَقل اعترافات المقاتل السابق في صفوف التنظيم، رياض عيد، الذي كان من ساكني مدينة مارع في محافظة حلب، بيّن عيد من خلال شريط الفيديو التعاون بين الطرفين ضد المعارضة، حيث لم يحرك التنظيم ساكنًا بينما كان يشاهد قوات نظام الأسد تستولي على المدن التي تتمركز فيها المعارضة الواحدة تلو الأخرى.
وفي السياق نفسه، وانطلاقًا من رواية رياض عيد الذي تحصن بالفرار والتواري عن الأنظار، فإنه لطالما حث زملاءه في التنظيم للتصدي لقوات النظام وكان الرد دائمًا “لا لا يا شيخ، هناك ما يكفي من المجاهدين لمحاربتهم، جبهة النصرة موجودة وهم على أهبة الاستعداد للقتال ولا حاجة لنا لكي نتدخل”.
في أواخر شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2013، وبينما كانت مدينة السفيرة التابعة لمحافظة حلب، على وشك الوقوع تحت سيطرة جيش النظام، كان مقاتلو تنظيم الدولة الذين بلغ عددهم 500 مقاتل في المنطقة آنذاك، يراقبون من بعيد ولا يقدمون على أي تحرك في مواجهة قوات الأسد وهذا على حد تعبير رياض عيد، ولم يتوقف التنظيم عند حدود مشاهدة تقدم القوات النظامية بل دعمها من خلال تصديه للواء التوحيد الذي أرسلته الجبهة الإسلامية السورية ليعزز صفوف المقاومة في مدينة السفيرة.
وقال عيد “عندما سَألت عن سبب منعنا لدخول التعزيزات، أجابوني أنه يحظر علينا ولا يحق لنا اللجوء لمساعدة من عند “المرتدين”.
كان جون كيري أكثر جرأة وصرّح في نوفمبر 2015 بأن الرئيس السوري بشار الأسد هو الذي أوجد تنظيم الدولة وذلك من خلال إطلاق سراح 1500 من الجهاديين المسجونين
وطبقًا لتقرير منظمة أطباء بلا حدود، فقد اضطر ما يقارب 130 ألف نسمة من المواطنين للهروب من المدينة إثر سيطرة قوات نظام الأسد عليها، والجدير بالذكر أن سيطرة القوات النظامية أعطى امتيازًا لبشار الأسد من خلال تمكينه من السيطرة على مصانع الأسلحة هناك، وعلى امتداد سنة 2014، قامت القوات النظامية باستغلال هذه المصانع لتنفيذ هجمات دامية على حلب عن طريق البراميل المتفجرة.
ووفقًا للمعلومات التي أفادنا بها مسؤول المخابرات السوري السابق، نصر، فإن معظم مدن محافظة الحسكة في الشمال الشرقي لسوريا، قد سقطت تباعًا تحت هيمنة تنظيم الدولة في المدة الممتدة بين شهري شباط/ فبراير وآذار/ مارس من سنة 2014، وذلك على إثر دخول كتيبة تضم 300 سيارة حربية قادمة من مدينة الشدادي دون أن تتعرض لأدنى مضايقة من قبل القوات الجوية التابعة للأسد.
وبالاعتماد على الوقائع، فإن المواجهات المباشرة بين قوات تنظيم الدولة وقوات الأسد كانت نادرة للغاية، ففي تموز/ يوليو سنة 2014، قامت القوات الجوية التابعة للأسد بقصف بعض المنشآت التابعة لتنظيم الدولة وفي المقابل، وبعد شهر من الهجوم الأنف ذكره، اجتاحت قوات تنظيم الدولة آخر القواعد العسكرية التي تسيطر عليها حكومة الأسد خارج مدينة الرقة وأعدمت المئات من الجنود التابعين للنظام.
إن بعض الأدلة التي استغلت للكشف عن حقيقة تواطؤ الطرفين في ساحة المعركة كانت تعتمد على ظرفية المواجهات وتستند بالأساس على فشل قوات الأسد في التصدي للتوسع الميداني الذي حققته جبهة النصرة وتنظيم الدولة في وقت لاحق، وخلافًا لهذه الأدلة، ارتكز البعض الآخر على الأدلة الصادرة عن المخابرات.
خلال مقابلة صحفية في أنقرة، ذكر مسؤول تركي رفيع المستوى، أن أجهزة الراديو اللاسلكية التابعة للقوات التركية قد قاطعت محادثة بين قائد عسكري سوري وعناصر تابعة لتنظيم الدولة، كَشفت من خلالها التعاون بين الجهتين، حيث قام قائد سوري بتحذير قوات التنظيم وإعلامهم بضرورة إجلاء المنطقة التي يتمركزون فيها قبل السادسة صباحًا من اليوم الموالي لأن القصف الجوي لتلك المنطقة سينطلق في تلك الساعة، وفي واقعة أخرى، تم تسجيل محادثة بين الطرفين، حيث كان أحد القادة الكبار التابعين لنظام الأسد يثمن الجهود الكبيرة للتنظيم ووعد بتقديم جائزة تقديرًا منهم لتعاون التنظيم معهم.
أبرز الأمثلة على تورط نظام الأسد مع تنظيم الدولة ودعم توسعه من خلال القوة العسكرية، تتجلى من خلال وقائع تمركز قوات التنظيم في مدينة الباب في الشمال الشرقي لمدينة حلب، والتي سيطرت عليها في سبتمبر 2013
ومن هذا المنطلق، بين المسؤول التركي أن قوات النظام لم تقم أبدا بقصف مناطق يسيطر عليها تنظيم الدولة، فالاستراتيجية الحربية لنظام الأسد تعتمد على قصف المناطق إما قبل دخول التنظيم إليها أو بعد التأكد من خروجه منها، وفي مطلع العام الماضي، أعرب رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داوود أوغلو، عن شكوكه فيما يخص العلاقة بين التنظيم ونظام الأسد، حيث قال: “هناك علاقات مشبوهة وراء الكواليس بين التنظيم ونظام الأسد”، وأثبتت الوقائع في ساحة المعركة صحة تصريحاته.
ووفقًا لمراقبين مناهضين لنظام الأسد، فإنه خلال قصف القوات النظامية لمدينة الرقة في تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2014، تعمدت القوات غض الطرف عن كل المواقع البارزة لتنظيم الدولة، وفي المقابل وجهت مدافعها باتجاه المدنيين متسببة في مقتل العشرات منهم، وقد لوحظ أنه خلال الهجمات التي شنها تنظيم الدولة على القواعد العسكرية التابعة للنظام والقيام بإعدام القوات التي وقعت في الأسر، كانت الاستجابة من قبل المقاتلين التابعين للنظام لهذه الهجمات بطيئة جدًا وكانت الهجمات المضادة غير فعالة البتة.
هذا المشهد يتكرر في كل مدينة يسيطر التنظيم على جزء منها، ففي مدينة الباب في شمال سوريا، التي يتحصن فيها تنظيم الدولة، نفذت الطائرات الحربية الأمريكية قصفا استهدف المقر المركزي للتنظيم وذلك تحديدا يوم 28 كانون الأول/ ديسمبر سنة 2014، ومن المؤسف أن الغارة لم تسفر عن ضحايا إلا من جانب المدنيين المحتجزين هناك والذين قتلوا عن غير قصد، وعلى عكس لحالات الموت التي راح ضحيتها مدنيون، فإن قوات السلاح الجوي التابعة لنظام الأسد قصفت أجزاءً من المدينة دون إلحاق أي ضرر يذكر في صفوف تنظيم الدولة وفقًا لشاهدات ساكني المدينة، بينما واصلت القوات الجوية النظامية قصف المدنيين العزل في مدينة الباب.
في آيار/ مايو سنة 2015، هاجم تنظيم الدولة مدينة تدمر الأثرية، والمنطقة برمتها، والمثير للغرابة هو أن الجيش النظامي استبق الأحداث، وقام بإخلاء كل قواعده العسكرية مبقيًا على عدد قليل من قواته للدفاع عن المدينة متعمدًا ترك مخازن الأسلحة دون حماية لتقع تحت قبضة التنظيم، تعتبر هذه الحادثة من أبرز الأدلة التي تثبت التواطؤ والتعاون الوثيق بين الطرفين.
في ربيع سنة 2015، وفي محاولة بائسة من قبل القوات النظامية لتعويض خسائرها في شمال سوريا، توجهت عناصر من قوات النظام لمواجهة المتطرفين في المنطقة على أمل أن تغير من موازين القوى على أرض المعركة. وفي الوقت الذي كانت المعارضة تسيطر على كامل محافظة إدلب، بينما استولى تنظيم الدولة على منطقة تدمر، عجزت القوات النظامية التي قد أثبطت عزيمتها، عن استرجاع أي من المنطقتين.
“أحيانًا يكونون متحالفين وأحيانًا أخرى يصبحون أعداءً، فهم يتعاونون مع بعضهم البعض في بعض الأمور ومن ثم يتقاتلون، لماذا ذلك؟ الله وحده يعلم السبب”
مسعود برزاني
في يوم 28 أيار/ مايو، نُظم لقاء بين ممثلين عن تنظيم الدولة وآخرين من جانب نظام الأسد في منشأة مركزية لإنتاج الغاز في مدينة الشدادي في شرق سوريا، تم على إثره انسحاب قوات تنظيم الدولة من الرقة ومناطق أخرى خاضعة لسيطرتها في اتجاه مدينة مارع الواقعة في شمال مدينة حلب والتي تقع ضمن طريق حساس جدًا يربط بين سوريا وتركيا، والذي يمثل معبرًا للمعونات والإمدادات الأساسية.
وفي إطار هذا التعاون، قصفت طائرات النظام مواقع عديدة للمقاومة ممهدة الطريق بذلك أمام تنظيم الدولة للاستيلاء عليها والتمركز فيها، وتمكن التنظيم بفضل العملية المشتركة من السيطرة على ثلث مدينة مارع قبل أن تصل التعزيزات من قبل المقاومة وتسترد ما افتكه التنظيم.
أكد مسؤول أمريكي في وزارة الدفاع، الذي امتنع عن ذكر اسمه لدواع أمنية، أنه هناك العديد من الأدلة التي تثبت التعاون بين الطرفين، كما قال: “لقد لاحظنا وجود دعم جوي من قبل نظام الأسد لعناصر التنظيم، لا بد أنه هناك اتفاق مسبق بين الطرفين حول ذلك، لقد حدث ذلك أكثر من مرة”.
في حزيران/ يونيو سنة 2015، كان هجوم تنظيم الدولة على مدينة مارع بدعم من قوات نظام الأسد، ضربة فاقت كل التوقعات، حيث أرسل تنظيم الدولة، كتيبة تضم 60 سيارة حربية إلى شمال سوريا ضمن طريق تبعد ستة أميال من المعبر الفعلي للمنطقة باتجاه المنطقة الحدودية لمدينة مارع.
في المقابل، توجهت قوات المعارضة من المناطق المحيطة إلى مدينة مارع ومنعت عناصر تنظيم الدولة من قطع الطريق الرابط بين المدينة وتركيا والمعبر الوحيد لدخول الإمدادات الإنسانية والعسكرية التي ترسل لمدينة حلب المحاصرة.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، شهدت سوريا أبرز العمليات التي تدل على التواطؤ الواضح بين الطرفين، حيث قام تنظيم الدولة بهجوم ساحق وجهًا لوجه مع المعارضة المتحصنة في مدرسة للأطفال في شمال حلب، باستخدام الدبابات والمدافع الثقيلة والسيارات المفخخة، وهذا حسب تصريحات الناطق باسم كتيبة الصفوة، وفي الأثناء قامت القوات الجوية التابعة للأسد بقصف المدرسة بينما قامت عناصر أخرى من التنظيم بقطع سبل الفرار أمام عناصر المعارضة، وبعد قتال مستميت وخسارة ما لا يقل عن 70 مقاتلاً، قامت المعارضة بتسليم موقعها للتنظيم الذي سلمه بدوره لنظام الأسد.
عبَر المئات من المتشددين الإسلاميين القادمين من العراق إلى شرق سوريا وعلى مرأى من أنظمة الأسد الأمنية واسعة النطاق، وبمجرد وصولهم تلقت المخابرات السورية تعليمتين، الأولى كانت مكتوبة وذُكر فيها أسماء وتفاصيل عن الجهاديين بالإضافة إلى تعليمات تفضي إلى ضرورة “اعتقالهم وتصفيتهم”
في شباط/ فبراير الماضي، جمعت المعارضة أدلة مصورة على أن النظام والتنظيم بينهم اتفاق مسبق على عدم الاعتداء على مصالح بعضهم البعض، حيث تم إرسال طائرات دون طيار على طول الجبهة بين نظام الأسد وتنظيم الدولة، والتي تمتد على طول 35 ميلاً، وثبت أنه لا توجد أي حواجز أو تحصينات على جانبي الجبهة أو علامات تدل على نشوب مواجهات بينهما. وفي هذا الصدد، قال المستشار القانوني للمعارضة السورية، أسامة أبو زيد: “هناك عدد محدود من المقاتلين على الخط الأمامي للجبهة، ولكن عددهم قليل جدًا على اعتبار أن هناك حرب بين الطرفين”، ووضح أبو زيد أن تنظيم الدولة واصل هجوماته ضد قوات المعارضة من خلال السيارات المفخخة، ولكنها لم تستهدف ولو لمرة واحدة القوات النظامية أو حتى التحالف الكردي الأمريكي، كما نوه إلى حقيقة أن التنظيم لم يصوب رصاصة واحدة باتجاه قوات النظام، فيما قامت هذه الأخيرة بدعم من القوات الجوية الروسية بالقضاء على المعارضة في مدينتي نبل والزهراء.
وقد نبه محللون من مغبة استمرار هذا التعاون والتكاتف بين قوات النظام والتنظيم الذي قد يدوم إلى الأبد، وفي المقابل، تعمل كلتا الجبهتين بشكل متوازٍ، وعلى حد تعبير الدبلوماسي السابق، بسام بربندي القاطن حاليًا بمدينة واشنطن، فإن السبب واضح جدًا، حيث قال: “كلا الطرفين يعيان جيدًا أن بقاء أحدهما يعتمد على نهاية الطرف الآخر، ولكن قبل الوصول إلى تلك المرحلة في الحرب بينهما عليهما القضاء على المعارضة أولاً، لذلك يعملان بشكل وثيق مع بعضهما البعض”.
المصدر: ديلي بيست