لا يعد السخرية من المرضى أمرًا مقبولًا اجتماعيًا، لا سيما إن كانت موجهة لذوي الاحتياجات الخاصة، أو لمن كانت عنده علة ظاهرة في مظهره الخارجي، لتكون وصمة العار المجتمعية ملاحقة لمن تسول له نفسه أن يستهزأ بهم علنًا، فوصل الأمر مجتمعيًا إلى تشجيع المرضى على التحدث عن إعاقتهم أو مرضهم أكثر من ذي قبل، كوسيلة لتحفيزهم على تخطي المرض وكوسيلة لتشجيع كل من يخشى من التحدث عنه علنًا، نرى ذلك بشدة مع مرض السرطان، حتى أصبحت شعارات تشجيع مرضى السرطان مطبوعة على الملابس والكتب والإعلانات، ولكن ماذا عن المرضى النفسيين؟
هل سبق أن وصفت أحدهم بالمضطرب نفسيًا، إن لم تفعل، فمن المؤكد أنك سمعت أحدهم من قبل ينعت فلانًا بأنه ذو انفصام في الشخصية، أو يسخر من فلانًا آخر ضاحكًا بأن الكل أصيب بالـ “OCD” أو اضطراب الوسواس القهري مؤخرًا، ماذا عن المصطلح العام الذي يفسر به أغلبنا كل من اختلف في طريقة تعامله معنا، في كون المرء “مريضًا نفسيًا”، من المرجح أن الكثير منا يقوم بفعل ذلك بدون التفكير في الموضوع مرة ثانية.
“اضطراب ثنائي القطب، انفصام في الشخصية، الوسواس القهري الفوبيا أو “رهاب شيء معين” وغيرها من المصطلحات هي بمثابة أسماء مستعارة لكل ما لا يعرفه المرء عن الأمراض النفسية، إلا أنه مازال يجدها حجة مقبولة للغاية لوصف كل ما هو غير مألوف أو طبيعي لسلوكيات الناس معه خلال حياته اليومية، ذلك لأنه ليس على دراية بها، هذا ليس اتهامًا لأشخاص بعينهم، بل كلنا نفعل ذلك تقريبًا لأننا ببساطة لا نفهم تلك الحالات من الأمراض العقلية أو النفسية، ونحاول في النهاية اختيار الحل الأسهل، وهو وصفهم بالمرضى النفسيين فحسب.
“السخرية تقتل أكثر من المرض”
ربما لا يقتل المرض صاحبه، ولكن ربما تقتله السخرية من مرضه، أو ربما يفعل مصطلح “وصمة العار” “Stigma” به الأفاعيل، حيث يرتبط مصطلح “وصمة العار” بالجهل، واستحكام مبدأ الحكم المسبق على الأشخاص قبل التطرق إلى المعرفة، بالإضافة إلى تبلور كل ذلك بالعنصرية، وينتهي الأمر بنتيجة عكسية تمامًا لا يتوقعها أغلبنا، ألا وهو الوصول إلى مراحل متقدمة ما بين المريض النفسي وبين المجتمع الذي يوصمه بالعار أو يوصفه بالجنون قد تصل إلى إيذائهم من قبل المريض، أو إيذاء المريض لنفسه.
كلما تعمقنا في الفروق بين الأمراض النفسية تعرفنا أكثر على تفاصيل عنها، والعلامات الدالة عليها، والأسباب المؤدية لها، لنكوّن في النهاية وجهة نظر واعية تجاه المريض النفسي، بدون أحكام مسبقة أو تمييز عنصري، و بدون اتباع سلوك عنيف أو هجومي تجاهه، إليك جولة سريعة في الفروقات ما بين أكثر الأمراض النفسية المثيرة للحيرة والالتباس والتي نشاهد أمثلتها في حياتنا اليومية.
القلق المرضي “Anxiety”
القلق صفة في أغلب الناس، وربما هي المحرك الأساسي لبعض ردود الأفعال التي تبدو مبالغ فيها في بعض الأحيان، إلا أنه عند بعض الناس يزيد عن حده، ويتحول من مجرد قلق، إلى قلق مرضي، وهو عبارة عن سلوك مضطرب، يؤدى إلى نمط مختل من السلوكيات والأفكار والمشاعر المضطربة، ليتصرف المرء نتيجة لذلك بطريقة غير سليمة في إدراكه للأمور من حوله.
لا يمكن لنا وصف شخص لا يحب بعض الهوايات التي نحبها نحن بأنه مصاب بالقلق المرضي، أو خلط ذلك بالفوبيا أو “رهاب الأشياء”، ولا يمكننا الخلط بين الشخص السابق وشخص يخشى الخروج من غرفته لأنه يهاب مقابلة الناس، وذلك لأن القلق المضطرب يختلف كثيرًا عن القلق العادي، فهو يحرم المرء من النوم بشكل طبيعي، بل ويحرمه أيضًا من الاستيقاظ بشكل طبيعي، فيستيقظ المرء المصاب بالقلق المضطرب فجأة نتيجة لعدم اتزان ضربات قلبه كما هي في الوضع الطبيعي.
يعد الخوف غير المبرر أحد سمات القلق المضطرب، فيصحبه الخوف من الحشرات، أو الخوف من أشياء بعينها لا يخاف منها أغلب الناس في العادة، كما يصاحبه عسر الهضم المزمن، وإرهاق في العضلات، بالإضافة إلى تجنب كون كل من يصاب باضطراب القلق المرضي أن يتواجدوا في المناسبات الاجتماعية أو يكونوا محط أنظار من حولهم.
ليس كل من كان قلقًا يعد مصاب باضطراب القلق المرضي، حيث تقول الدراسات بأن أغلبنا يعاني من القلق المرضي في فترات معينة من حياتنا، ونرى ذلك بشدة في حالات الـ “OCD”، أو اضطراب الوسواس القهري؛
اضطراب الوسواس القهري OCD
هو عبارة عن ردود أفعال معينة تجاه شيء معين من الممكن أن تكون لفظية أو حركية إلا أنها ملازمة للشخص دومًا ولا يستطيع التخلص منها أو تغييرها، فتصبح لا تقاوم وتتحول إلى شكل “قهري”.
نخلط دائمًا بين كل من يهتم بالنظافة بطريقة مبالغ فيها، أو من يهتموا بتنظيم أغراضهم بشكل مستمر وبين المصابين بالوسواس القهري، فالوسواس القهري هو مستوى متقدم من اضطراب القلق المرضي، حيث يقوم الشخص المصاب الوسواس القهري بتكرار أفعاله بشكل دوري ومستمر ليقلل من حدة شعوره بالقلق المستمر إن لم يقوم بفعل تلك الأفعال المكررة.
قد تكون تلك الأفعال بسيطة للغاية، وهي غسل اليدين باستمرار خوفًا من وجود البكتيريا عليها، ربما يبدو الأمر سخيفًا للوهلة الأولى، أو ربما يبدو أنه ليس شيئًا صعبًا، إلا أنه لا يمكن لشخص أن يقوم بعمله بشكل طبيعي إن أراد أن يغسل يديه كل 15 دقيقة، ليس هذا فحسب، بل يشعر المصاب بالوسواس القهري بأنه إن لم يفعل ذلك الفعل المتكرر، سيتاذى بشدة وقد يصل تفكيره به إلى نوبة من الهلع.
نوبات الهلع “Panic attacks”
مواقف متكررة من الخوف والقلق والفزع، والتي تأتي فجأة بدون إنذار، وتسمى بالنوبة لأنها قد تسبب ألم في الصدر، وتسارع في ضربات القلب تؤدي إلى صعوبة في التنفس، والتي تبدو في النهاية كأزمة قلبية وتؤلم الصدر بشدة، إلا أنها ليست أزمة قلبية في النهاية، ويظل المصاب في دوامة لا تنتهي من خوفه من تعرضه لنوبة هلع جديدة.
الفوبيا “مرض الرهاب”
هي حالة متقدمة جدًا من اضطرابات القلق وتأتي في المرحلة التي تتبع نوبات الهلع، حيث يرهب المرء شيئًا معين، أو نشاط معين أو حالة أو شعور معين، يبدو في غالبية الأمر خوف غير مبرر، إلا أنه يعني الكثير لمصاب الفوبيا يؤدي به في النهاية “سلوك تجاهلي” بحيث يتجاهل المصاب بالفوبيا تلك المواقف ويتجنب كل ما يمكن أن يجعله منخرطًا فيها بأي شكل من الأشكال ليبني قراراته على هذا الأساس، والتي تكون من أمثلتها رهاب المرتفعات أو الجسور، كما تتضمن الرهاب المجتمعي والذي يخشى فيه المصاب بالفوبيا من التعاملات اليومية مع من حوله من أشخاص.
تتعدد الأمراض النفسية في درجات خطورتها ودرجات تعقيداتها، إلا أن الأمراض السابقة هي أمثلة حية نشاهدها تقريبًا يوميًا، ونخلط فيما بينها ونقوم بالسخرية من أصحابها بسبب عدم دراية كاملة بها، بل ونقوم أحيانًا بتكذيبهم بسبب عدم تصديقنا إلي تأثير المرض النفسي على المريض عضويًا، ذلك لعدم كون المرض النفسي في مكانة المرض العضوي بالنسبة للثقافة العامة، أو لعدم تصديقنا حتى الآن أن المرض النفسي قد يكون أخطر من المرض العضوي أحيانًا!