ترجمة وتحرير نون بوست
في مرحلة معينة من الصراع السوري، بدى أن الفوضى التي تشهدها البلاد قد مرت إلى مرحلة جديدة، خاصة بعد الخسارة التي حققها تنظيم الدولة نتيجة تقدم قوات بشار الأسد المدعومة من قبل حزب الله وروسيا على إثر استعادة السيطرة على حلب. كما أنه من علامات الانفراج، يمكن الحديث عن تراجع المتطرفين في شرق البلاد، أمام تقدم الولايات المتحدة وحلفاؤها نحو الرقة ومحاصرتهم في “عاصمتهم”.
في المقابل، غيرت الأحداث الأخيرة جميع النظريات وقلبتها رأسا على عقب. وكان ذلك يوم الثلاثاء الماضي، على إثر الهجوم القاتل الذي استهدف منطقة خان شيخون، وهو الحدث الذي سلط الأضواء الدولية من جديد على الحرب السورية. وقد أسفر هذا الهجوم الكيميائي الذي استهدف آخر معقل للمعارضة، حوالي 70 قتيلا و200 جريح.
إثر تشريح ثلاثة ضحايا للهجوم الكيميائي، قالت السلطات التركية، يوم الخميس الماضي، إن “هؤلاء الضحايا قد توفوا على إثر إصابتهم بغاز السارين”
في هذا الصدد، على إثر تشريح ثلاثة ضحايا للهجوم الكيميائي، قالت السلطات التركية، يوم الخميس الماضي، إن “هؤلاء الضحايا قد توفوا على إثر إصابتهم بغاز السارين”. كما أشارت وزارة الصحة التركية إلى أنها سترسل عينات من النتائج التي تحصلت عليها إلى منظمة الصحة العالمية.
على العموم، فإن هذا الهجوم يأتي على إثر اعتراف البيت الأبيض على لسان حاكمه الجديد أن وجود بشار لم يعد يزعجه، كما أن الإطاحة به لم يعد أولوية. وقد كان هذا الإعلان بمثابة القطيعة مع العقيدة والمواقف التي اتخذها الرئيس السابق باراك أوباما؛ الذي كان يطالب بإقالة الأسد مهما كلفه الثمن. كما أنه من دون شك، وعلى إثر تأكيد استعمال أسلحة كيميائية، سيكون هذا الهجوم الأسوأ والأبشع من نوعه من بين الهجمات التي استهدفت الأراضي السورية، بعد مجزرة الغوطة سنة 2013.
من جانب آخر، مثّل هذا الهجوم نقطة تحول بالنسبة لترامب، الذي أطلق صواريخ من فئة توماهوك، ردا “بطريقته” على هذه المأساة. وفي ظل هذه التحولات، أصبحت سوريا مرة أخرى، مسرح مواجهة بين القوى العالمية. وقد تزايدت حدة التوترات على إثر تراشق الرسائل العدائية بين الغرب وروسيا، في خضم حرب الأدلة المتضاربة التي وصلت إلى المجلس العام للأمم المتحدة.
والجدير بالذكر أنه بعد مجزرة الغوطة، التي كانت حصيلتها تقدر بحوالي 1400 ضحية على إثر استعمال الأسلحة الكيميائية؛ تعهدت الحكومة السورية بالتخلص من الترسانة الكيميائية التي تمتلكها، مع موفى سنة 2014. لكن الهجوم الأخير قد أطلق صافرات الإنذار وجعل الشكوك تتولد من جديد حول ما إذا تخلص الأسد فعلا من ترسانته الكيميائية أم لا زال يحتفظ بها، كما هو متوقع. وفي مناسبات سابقة، توصلت الأمم المتحدة إلى أن الأسد استعمل فعلا أسلحة كيميائية في ثلاث هجمات ضد السكان السوريين، في سنتي 2014 و2015.
ما هي مصادر الترسانة الكيميائية السورية؟
صرح المحلل الرئيسي في المعهد الملكي الكانو، فيليكس أرتياغا، لصحيفة الإسبانيول أن “الاتحاد السوفيتي السابق وضع أسس الصناعة الكيميائية في سوريا؛ من خلال تمكين البلاد وتزويدها بالطاقة والقدرات اللازمة لصناعة ترسانتها الخاصة من الأسلحة الكيميائية”.
من جهتها، بحثت وكالة الاستخبارات المركزية في هذا الموضوع، وتحدثت عنه في تقرير يعود إلى سنة 1983، ولم ترفع عنه السرية إلا خلال الفترة الأخيرة. وقد صنف هذا التقرير سوريا من أحد “أكبر المستفيدين من المساعدات السوفيتية في الأسلحة الكيميائية”.
في الإجمال، تمكن النظام السوري بفضل هذا الدعم من إنشاء 41 مرفقا في 23 موقعا مختلفا على الأراضي السورية؛ وهو ما يسمح له بإنتاج أسلحة كيميائية. وبهذا المعطى، يبدو من الواضح أن نهاية الاتحاد السوفيتي لم تضع حدا للصناعة العسكرية الكيميائية، التي لاقت نوعا من الدعم في بعض الدول الأوروبية خلال عقود من الزمن. وقد أكد هذه المعلومة الأخيرة مدير وكالة المخابرات المركزية، ويليام وبستر، في سنة 1989، في شهادة أمام مجلس الشيوخ. وقد جاء في هذه الشهادة أن “شركات أوروبا الغربية كان لها دور فعال في تزويد الجهات المعنية بالمواد الكيميائية والمعدات اللازمة”.
أكد وزير الاقتصاد الألماني، في أيلول/ سبتمبر سنة 2013، أنه “خلال الفترة الممتدة بين 2002 و2006، وافقت الحكومة الألمانية على تصدير أكثر من 100 طن من المواد الكيميائية ذات الاستخدام المزدوج، إلى سوريا
من جانب آخر، أكد وزير الاقتصاد الألماني، في أيلول/ سبتمبر سنة 2013، أنه “خلال الفترة الممتدة بين 2002 و2006، وافقت الحكومة الألمانية على تصدير أكثر من 100 طن من المواد الكيميائية ذات الاستخدام المزدوج، إلى سوريا. وكان من بين هذه المواد الكيميائية غاز السارين”. وردا على هذه التصريحات، قالت ميركل في حوار لها مع الإذاعة الألمانية “إي أر دي” إن “جميع المواد التي تم تصديرها، خضعت لاستعمال مدني، وذلك بحسب المعلومات المتوفرة لدي”.
في نفس السياق، ومرورا إلى المملكة المتحدة، بيّن فينس كيبل، وزير الأعمال البريطاني السابق، أنه “تمت الموافقة على تراخيص تصدير المواد الكيميائية”، في بلاده، ومن الممكن أن “هذه المواد قد استعملت في تصنيع غاز السارين بين سنتي 2004 و2010”.
هل لا زالت سوريا تخزن أسلحة كيميائية؟
في سنة 2013، وبعد مجزرة الغوطة، رسمت إدارة باراك أوباما الخطوط الحمراء للصراع السوري، التي لا يجب تخطيها. وقد جاء التحذير الأمريكي بعد أن كشفت بالأدلة عن استعمال صواريخ أرض أرض محملة بغاز السارين الخطير. وقد تسببت هذه الحادثة في وفاة “مدنيين، بما في ذلك الأطفال، على نطاق واسع نسبيا”.
تحملت روسيا، بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، مسؤولية التخلص من كافة الأسلحة الكيميائية التي هي بحوزة نظام بشار الأسد
في الأثناء، تحملت روسيا، بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، مسؤولية التخلص من كافة الأسلحة الكيميائية التي هي بحوزة نظام بشار الأسد. ثم أطلقت عملية تفكيك وإزالة الأسلحة والمواد السامة، بمراقبة من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. وانطلاقا من ميناء اللاذقية السوري، تم تحويل حاويات المواد الكيميائية إلى مرافق مختلفة لمعالجتها.
عموما، لم تكن عملية تخليص سوريا من المواد الكيميائية بالأمر السهل. ويعود ذلك إلى أن النظام السوري كان يسيطر خلال سنتي 2013 و2014، على جزء صغير فقط من أراضي البلاد، التي كان جزء كبير منها تحت سيطرة جماعات متطرفة على غرار تنظيم الدولة، وتنظيم القاعدة. وقد استمرت عملية نقل الأسلحة الكيميائية إلى غاية سنة 2014، نظرا لصعوبة وخطورة نقل حاويات المواد السامة، بسبب الصراعات العالقة في المنطقة.
حسب تقرير للمحلّليْن خوان دومينغو ورينيه بيتا، التابعين للمركز الإسباني للدراسات الاستراتيجية، فإن “عملية تدمير الأسلحة الكيميائية السورية، معقدة للغاية، خاصة في هذا الوقت الذي تبدو فيه هذه المهمة ملحة للغاية، ضمن هذا البلد المغمور في الصراع المسلح الذي طال أمده”. ومن جانبه، يشير المحلل في معهد الكانو، أرتياغا، إلى أن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية قد أقرت بأنه ليس لسوريا الآن القدرة على تصنيع أسلحة كيميائية”. ويحذر المحلل في هذا الصدد، من أن الهجوم الأخير في إدلب يمكن أن يكون دليلا على “وجود مصانع أسلحة سرية في سوريا، أو أسلحة أو ذخائر مخبأة في أراضيها”.
كشف فريق دولي من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة، في آب/ أغسطس الماضي، أن الحكومة السورية قد استخدمت الأسلحة الكيميائية في هجومين على الأقل في سنتي 2014 و2015
في الواقع، سبق وأن كشف فريق دولي من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة، في آب/ أغسطس الماضي، أن الحكومة السورية قد استخدمت الأسلحة الكيميائية في هجومين على الأقل في سنتي 2014 و2015. وعلاوة على ذلك، فإن الأدلة المتوفرة تضع احتمال استعمال الأسلحة الكيميائية في مرات أخرى. كما عانت الأراضي السورية أيضا من هجوم بواسطة غاز الخردل على يد تنظيم الدولة.
بالإضافة إلى ذلك، توصلت الأبحاث إلى أن نظام الأسد استعمل في هجوم إدلب سنة 2015، مفاعلات كيميائية. وفي الفترة الأخيرة، أدانت المنظمة غير الحكومية “هيومن رايتس ووتش”، الهجمات الكيميائية التي قادها النظام السوري خلال الأشهر الأخيرة من سنة 2016.
في الوقت نفسه، كشف مسؤول سام في سفارة الجمهورية العربية السورية في إسبانيا، لصحيفة الإسبانيول أن “النظام السوري أعلم منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أنه قد استورد مؤخرا مواد سامة، ونقلها إلى إدلب قبل أسابيع، لاستخدامها في وقت لاحق وهو ما حدث مؤخرا”.
في الإجمال، تملك سوريا مراكز إنتاج وتخزين للمواد الكيميائية في حمص وحلب، التي ضلت لعدة سنوات تحت سيطرة تنظيم الدولة. في المقابل، لم تتمكن الجماعة المتطرفة من التعرف على دور هذه المرافق أو المواد المودعة هناك. ووفقا للمحلل جيمس مارتن، فإنه توجد مرافق في دمشق واللاذقية. كما أنه قبل 12 يوما من كارثة خان شيخون، كشفت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أنه في ضواحي إدلب لا تزال هناك ثلاث منشآت لم تدمر بعد.
هل يمكن تحديد الجهة المسؤولة عن تنفيذ الهجوم الأخير؟
وفقا لمحلل في معهد الكانو، أرتياغا، فإن تحديد المكان الذي أطلقت منه الأسلحة الكيميائية، هي الطريقة التي تمكن من التأكد من الجهة المسؤولة عن الهجوم. وعموما، فإنه إن كان إطلاق هذه الأسلحة من الجو، فإن الجهة المسؤولة عن الهجوم، هي “إما الجيش السوري أو الجيش الروسي”. وبالنسبة للمحلل، فإن مثل هذه التصرفات من جانب النظام السوري، ستضع روسيا في موقف حرج على طاولة المفاوضات.
في نفس السياق، أكد المحلل أن هجوم هذا الأسبوع لا يخدم أية طرف من الأطراف المشاركة في الصراع. كما يعتبر أن “تركيز مرافق لتصنيع غاز الخردل أو غاز السارين تحتاج إلى مرافق وإجراءات، ليست في متناول المعارضة السورية في الوقت الحالي. وردا على سؤال ما إذا كان هجوم هذا الأسبوع مشابها لهجوم سنة 2013؛ وضح أرتياغا أن “الأدلة الحالية ليست مماثلة للتي تم العثور عليها على إثر هجوم الغوطة”. أما من جهتها، فإن الاستخبارات الأمريكية على يقين بأن هذا الهجوم الأخير من توقيع النظام السوري.
المصدر: الإسبانيول