تنطلق اليوم النسخة الـ70 من مهرجان كان للأفلام Festival de Cannes بالساحل الأزوري الفرنسي، بمشاركة وجوه سينمائية بارزة وأعمال سيحدث عرضها لغطًا متوقعًا، بل يبدو أن هذه الدورة ستحدث جدلاً في كل تفاصيلها.
فمنذ إعلان المعلقة الرسمية للمهرجان، تعالت أصوات الناشطات النسويات احتجاجًا على التعديلات التي أحدثها مصممو المعلقة على صورة النجمة الإيطالية التونسية كلاوديا كاردينالي لتلطيف خصرها وساقيها، حيث اعتبرن المعلقة عودة إلى الممارسة الاستغلالية لجسد المرأة وتحديد شروط فيسيولوجية لقبولها.
ورغم تدخل أيقونة الستينيات وتأكيدها على أنها لا تجد في المعلقة انتهاكًا لجسدها بقدر ما تراه تعبيرة فنية عن فكرة التحرر والسرور، فإن التعليقات لم تنقطع، ويبدو أن اختيار أيقونة إغراء أخرى لتقديم حفليْ الافتتاح والختام لن يساعد كثيرًا في تجاوز الحادثة، فالنسخة الـ70 للمهرجان السينمائي الأشهر في العالم، ستكون في ضيافة الإيطالية الحسناء مونيكا بيلوتشي وهذا وحده كفيل بإسالة حبر كثير.
المسابقة الرسمية
ضمت المسابقة الرسمية وجوهًا سينمائية بارزة، سبق لبعضها التتويج في المهرجان، ويتقدم هذه الأسماء، النمساوي مايكل هانِكه Mickael Haneke صاحب السعفة الذهبية سنة 2012 عن فيلم “حب” Amour والعديد من الأفلام المتوجة الأخرى.
تتميز أفلام هانكه فضلاً عن نسقها البطيء المستفز، بأطروحاتها المثيرة للجدل، وبنهاياتها الغادرة، ومن المؤكد أننا سنشهد كل ذلك في عمله الجديد “نهاية سعيدة” Happy End الذي توحي عناصره بكل شيء عدا النهاية السعيدة.
تخيلوا فيلمًا من إخراج هانكه، وبطولة الفرنسية المرشحة للأوسكار العام الماضي، إيزابيل هوباغ Isabelle Huppert (أدت دورًا مثيرًا للجدل في فيلمه أستاذة البيانو La pianiste)، ويتحدث عن حياة عائلة في مخيم اللاجئين بمنطقة كاليه Calais بالشمال الفرنسي، وحتى المعلقة الرسمية للفيلم، تظهر ما يشبه طريقًا غارقًا في الماء، فهي أقرب إلى تجسيد “النهاية” من تجسيد “السعادة”.
أما أبرز الوجوه النسائية، فهي المخرجة الأمريكية صوفيا كوبولا صاحبة رائعة “ضائع في الترجمة” Lost in Translation، حيث تعود إلى المهرجان مستعينة بثلاثي نسائي مميز: نيكول كيدمان Nicole Kidman وآل فاننغ Elle Fanning وممثلتها المفضلة كيرستن دونست Kirsten Dunst، أما فيلم “المفتونة” أو “المخدوعة” The beguiled فيعود بنا إلى عالم الجنوب الأمريكي خلال الحرب الأهلية، حيث تأوي فتيات مدرسة داخلية جنديًا جريحًا من جيش العدو (كولن فاريل Colin Farrell)، مما خلق صراعات درامية داخل المبيت.
مخرجو المسابقة الرسمية في غالبهم يتميزون بانشغالهم بالواقع الاجتماعي والسياسي، ولا يتوانون عن طرح الأسئلة الأكثر جدلاً، وعرض الصور الأكثر استفزازًا، مما يجعل مسابقة هذا العام مميزة حقًا
وتضم القائمة وجوهًا بارزة أخرى مثل الألماني التركي فتيح أكين بفيلم “من العدم” Aus dem Nichts، والأمريكي تود هاينس Todd Haynes صاحب فيلم كارول Carol هذه المرة بفيلم ووندرسترك Wonderstruck، واليوناني المثير للجدل يورقص لنتيموس Yorgos Lanthimos صاحب فيلم الكركند The lobster، وهذه المرة بفيلم لا يقل إثارةً وغموضًا بعنوان “قتل أيل مقدس” The killing of a sacred deer، وصاحب ليفايتان Leviatan الروسي أندري زفياقنتساف Andrey Zvyagintsev، والفرنسي ميشال آزانافيسيوس Michel Hazanavicius صاحب فيلم “الفنان” The Artist الشهير بعمله الجديد “المهيب” Le redoutable.
مخرجو المسابقة الرسمية في غالبهم يتميزون بانشغالهم بالواقع الاجتماعي والسياسي، ولا يتوانون عن طرح الأسئلة الأكثر جدلاً، وعرض الصور الأكثر استفزازًا، مما يجعل مسابقة هذا العام مميزة حقًا.
وقبل انطلاق المسابقة، طرحت أولى المواضيع الساخنة بالفعل، ويتعلق الأمر بفيلمين في المسابقة من توزيع شركة ناتفليكس Netflix الأمريكية لخدمة الفيديو عند الطلب VOD، حيث رفضت الشركة طلب القائمين على المهرجان بتمكين الجمهور الفرنسي من مشاهدة الفيلمين في قاعات السينما، ويعود رفض الشركة إلى القوانين التي تعطي أولوية لقاعات السينما لبث الأعمال السينمائية قبل الوسائل الاتصالية الأخرى.
ووجد القائمون على المهرجان أنفسهم في مأزق تجاه فيلم “قصص آل ماييروفيتس” The Meyerowitz stories وفيلم “أوكجا” Okja، حيث تم قبولهما في المسابقة الرسمية بينما لن يعرضا في قاعات السينما، مما دفعهم إلى إضافة بند جديد في شروط قبول الأعمال لمنع ذلك في قادم الدورات.
سنشهد حتمًا صراعات كثيرة من هذا النوع بين الموزعين الكلاسيكيين الكبار، والموزعين الافتراضيين الجدد (Netflix وAmazon خصوصًا) سواء في أوروبا أو أمريكا، سيتحدد من خلاله في قادم السنوات، مصير السينما كفن وصناعة، في عالم لم يعد فيه الاستهلاك السينمائي يخضع لتلك الطقوس الاحتفالية الكلاسيكية (نوع من الترفيه خارج المنزل، بداية علاقة حب جميلة، متعة الانفعال الجماعي، إلخ) وإنما عملية فردية تتم داخل الغرف المغلقة.
تركيبة لجنة التحكيم لهذه المسابقة لا تخلو من إثارة، خصوصًا أن رئيسها ليس إلا المخرج الإسباني الشهير بيدرو آلمودوفار
وعلاوة على الأعمال المرشحة، فتركيبة لجنة التحكيم لهذه المسابقة لا تخلو من إثارة، خصوصًا أن رئيسها ليس إلا المخرج الإسباني الشهير بيدرو آلمودوفار Pedro Almodovar الذي شارك في السنة الماضية بعمله الأخير خولييتا Julietta، كما تضم اللجنة الممثل الأمريكي ويل سميث Will Smith، والمخرج الكوري تشان ووك بارك Chan Wook PARK (صاحب فيلم OldBoy الشهير)، والمخرجة الألمانية ماغن آده Maren Ade صاحبة فيلم Toni Erdmann، والمخرج الإيطالي باولو سورنتينو Paolo Sorrentino الذي انتهى به الأمر إلى التليفزيون وإخراج مسلسل البابا الصغير The young pope.
إن التنوع الكبير في لجنة التحكيم وفي طبيعة الأعمال المشاركة في المسابقة الرسمية يعقد التكهنات كثيرًا، ويجعل المسافة الفاصلة بيننا وبين الثامن والعشرين من أيار تاريخ حفل الاختتام، مثيرة جدًا.
المسابقات الأخرى والأقسام الموازية
إضافة إلى المسابقة الرسمية، يضم المهرجان مسابقات موازية أخرى، أهمها مسابقة “نظرة ما” Un certain regard التي تحاول أن تحتفي أكثر بالمواهب الشابة وبالأعمال الأكثر جرأة وهذا ما يجعلها في الغالب مثيرة للاهتمام ويمنح الانتماء للقائمة فرصة أكبر للظفر بجائزة القمرة الذهبية Caméro d’Or التي تسلم لأفضل عمل أول لمخرج.
وتشارك في هذه المسابقة المخرجة التونسية المتألقة كوثر بن هنية صاحبة التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج السينمائي الأخير، وذلك بفيلمها الجديد “على كف عفريت” Beauty and the dogs، وسيعرض الفيلم التونسيُ الفرنسي إضافة إلى سبعة عشر فيلمًا آخر في المسابقة أمام لجنة تحكيم تترأسها الممثلة الأمريكية أوما ثورمان Uma Thurman والممثل الفرنسي رضا كاتب والمخرج المصري محمد دياب صاحب فيلم اشتباك.
وبعيدًا عن المسابقات الرسمية، يضم المهرجان العديد من الأقسام الموازية الأخرى، أهمها أسبوعا المخرجين Quinzaine des réalisateurs الذي يعقد بالتوازي مع المهرجان منذ أحداث مايو 1968 الشهيرة، وتعرض خلاله الوثائقيات والأفلام القصيرة والطويلة، وأسبوع النقد السينمائي Semaine de la critique وهي أقدم الأقسام الموازية للمهرجان.
يقدم المخرج البولندي رومان بولانسكي آخر أعماله بعنوان “من وحي قصة واقعية” D’après une histoire vraie، مستعيدًا عبره شغفه بالإثارة، هاربًا من قضية مواقعة قاصر التي تطارده هناك في الولايات المتحدة
كما يعرض المهرجان أفلامًا أخرى خارج المسابقات والأقسام الموازية، إذ يفتتحُ كان اليوم، فيلم أشباح إسماعيل Les fantomes d’Ismaël للمخرج الفرنسي آغنو ديبليشان Arnaud Desplechin الفائز السنة الماضية على القيصر الذهبي لأفضل إخراج في حفلة القياصرة (البديل الفرنسي لحفل الأسكارات)، ويتميز الفيلم بالكاستينغ المثير فهو من بطولة ماتيو آلماغيك Mathieu Almaric (قناع الغوص والفراشة) والفرنسية المتألقة ماغيون كوتياغ Marion Cotillard والرائعة شارلوت غينسبورغ Charlotte Ginsbourg.
ويقدم المخرج البولندي رومان بولانسكي آخر أعماله بعنوان “من وحي قصة واقعية” D’après une histoire vraie، مستعيدًا عبره شغفه بالإثارة، هاربًا من قضية مواقعة قاصر التي تطارده هناك في الولايات المتحدة، وتلعب المتألقة إيفا غرين Eva Green دور البطولة في هذا الفيلم المنتظر.
أما أجمل هذه المواعيد، فهو عودة السينمائية البلجيكية الكبيرة آنييس فاغدا Agnès Varda إحدى رموز الموجة الجديدة الفرنسية، إذ تقدم فيلمًا وثائقيًا بعنوان وجوه قرى Visages Villages.
أخيرًا، يعرض المخرج المكسيكي ألخندرو إنيارتو Alejandro Inarritu مغامرته السينمائية الجديدة رفقة صديقه السينماتوغرافي المجنون إيمانويل لوبسكي Emmanuel Lubezki، المسمى لحم ورمل Carne y arena، وهو فيلم افتراضي قصير، أي منتج لأجهزة الحقيقة الافتراضية Virtual reality.
تبدو إذًا دورة هذا العام مكتملة الأركان، تضم في طياتها كل البهارات المنتظرة من المهرجان الفرنسي العريق، ولم تبق إلا إشارة البدء، ومن ثم انتظار بداية العروض العالمية لهذه الأعمال التي تعتبر زبدة السينما.