تلك الدولة العربية الصغيرة في المساحة ذات التأثير والنفوذ المتزايد، والتي تقع في شرق شبه الجزيرة العربية جنوبي غرب آسيا المطلة على الخليج العربي، لم يكن يُتوقع أن تتصاعد الخلافات مع جيرانها الخليجيين إلى الحد الذي بات مجرمًا فيه إبداء التعاطف معها على مواقع التواصل الاجتماعي.
قررت الدول الحدودية مع قطر مؤخرًا فتح أبواب الصراع مع جارتهم ليصل إلى سقف غير مسبوق، حيث تمتلك دولة قطر حدودًا برية مشتركة من الجنوب مع المملكة العربية السعودية، وبحرية مع دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين.
الثلاث دول يخوضون صراعًا صفريًا مع الإمارة الصغيرة قطر، بعد أزمة التصريحات المنسوبة لأمير قطر على لسان وكالة الأنباء الرسمية يوم الأربعاء 24 من مايو، والتي رجحت تحقيقات أخيرة لعناصر من الـFBI اختراقها بالفعل على يد قراصنة روس.
إلا أن تلك الواقعة كانت شرارة انطلاق قصف إعلامي حاد من وسائل الإعلام التابعة للسعودية والإمارات، لتأتي واقعة اختراق البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي يوسف العتيبة وتصب على الزيت نارًا، إذ نشر موقع إنترسبت الأمريكي في الـ3 من يونيو مجموعة رسائل مسربة من البريد الإلكتروني تفيد تجييش العتيبة بتكليف من الإمارات لحملات علاقات عامة لتشويه دولة قطر ووصمها بالإرهاب في الولايات المتحدة.
فتح النار على الدوحة
في الـ5 من يونيو أعلنت كل من السعودية والإمارات والبحرين ومن ثم مصر قطع العلاقات مع قطر وسحب البعثات الدبلوماسية، وإمهال سفراء قطر مدة لمغادرة البلاد، في إجراء تصعيدي عنيف أمام الدوحة، التي كانت تتباحث مع وسطاء لتهدئة العاصفة الخليجية.
إجراء سحب السفراء لم يكن جديدًا، فقد تم في العام 2014 على خلفية الخلاف في المواقف الخليجية بشأن الأحداث في مصر، لكن سرعان ما توصلت الدوحة سريعًا إلى اتفاق مصالحة خليجية يقضي بعودة السفراء مرة أخرى.
لكن هذه المرة إجراء سحب السفراء تبعه مجموعة من القرارات شديدة القسوة لا تتخذ إلا في حالات أشبه بـ”إعلان الحرب”، تضمنت قرارات تلك الدول مجموعة من الإجراءات الشاملة التي توقف جميع التعاملات مع قطر أو العبور من وإلى أراضيها، إلى جانب خطوات تتعلق بمواطني ورعايا الدول التي اتخذت القرار على النحو التالي:
ـ منع دخول أو عبور المواطنين القطريين إلى أراضي تلك الدول، وإمهال المقيمين والزائرين منهم مدة 14 يومًا للمغادرة.
ـ منع الرعايا من السفر إلى دولة قطر أو الإقامة فيها أو المرور عبرها.
ـ إغلاق جميع المنافذ البحرية والجوية خلال 24 ساعة أمام الحركة القادمة والمغادرة إلى قطر.
ـ منع العبور لوسائل النقل القطرية كافة القادمة والمغادرة.
ـ اتخاذ الإجراءات القانونية والتفاهم مع الدول الصديقة والشركات الدولية بخصوص عبورهم بالأجواء والمياه الإقليمية لتلك الدول من وإلى قطر وذلك لأسباب تتعلق بالأمن الوطني.
تلا ذلك محاولت حثيثة من دبلوماسيي تلك الدول لإقناع دول أخرى بالانضمام إلى هذه القرارات، وهو ما نجح مع الأردن الذي خفض تمثيله الدبلوماسي وسحب ترخيص قناة الجزيرة الفضائية، وهو نفس الإجراء الذي اتخذته مجموعة دول صغيرة بضغط سعودي – إماراتي.
الأمير القطري تميم بن حمد
سقف مرتفع للتفاوض
تروج في الأروقة الخليجية مجموعة من الشروط التي تفرضها المجموعة الخليجية ضد قطر وسط أنباء عن فشل مساعي الوساطات الكويتية العُمانية، في مقدمتها ما أعلنه وزير الخارجية السعودية من باريس عن ضرورة وقف قطر دعمها لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وجماعة الإخوان المسلمين، فضلًا عن طرد أعضاء حركة حماس من الأراضي القطرية، وتجميد حسابات بنكية لبعض الأشخاص.
بالإضافة إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران على الفور، وكذلك وقف بث قناة الجزيرة، وإيقاف دعم وسائل إعلامية أخرى تراها هذه الدول مناهضة لسياساتها في المنطقة.
هذه المرة إجراء سحب السفراء تبعه مجموعة من القرارات شديدة القسوة لا تتخذ إلا في حالات أشبه بـ”إعلان الحرب”
ومع ذلك تتردد مزاعم خليجية داخلية أن هذه الشروط ليست صحيحة، ولكن هذا نوع من رفع السقف لابتزاز الدوحة وإجبارها على الخضوع ضمن أي اتفاق تسوية مستقبلي، وبعيدًا عن هذه الأجواء التي تسود فيها قلة المعلومات الواردة من الدولاب الخليجي، تبقى الحالة العامة أن قطر تواجه حالة من المقاطعة بإجراءات تصعيدية تم تهديد الدوحة بها مسبقًا من دوائر خليجية إبان أزمة 2014، لكن هذه المرة دخلت حيز التنفيذ مع وجود مؤشرات على احتمالية احتدام الأمر واللجوء إلى ما هو أبعد من ذلك.
أما على الصعيد الحالي فيمكن تقييم الإجراءات المتخذة ضد قطر من جانب اقتصادي وسياسي واستراتيجي، ولبحث ما إذا كانت هذه الإجراءات العقابية الخليجية على قطر سوف تؤتي أكلها بالفعل، أم أن للدوحة خيارات أخرى، يجب الحديث عن محددات الصراع والتصعيد بين الجانبين، والأوراق التي يلعب بها كل طرف لعبة “عض الأصابع” هذه.
جذور الأزمة
بالعودة إلى جذور الأزمة الخليجية الحالية ومحددات الصراع بها، كان لنا حديث مع الباحث السياسي محمد حسني الذي أكد أنه بالنسبة للجانب الإماراتي هناك أكثر من جانب أهمهم العملية المضادة للسعودية التي تقودها أبوظبي في جنوب اليمن، إذ اتخذت قطر الجانب السعودي، وكان من الممكن أن يتحول هذا الأمر لتحالف قطري سعودي ضد الإمارات في اليمن، إذ يمكن تفسير تحرك الإمارات الآن مع السعودية ضد قطر بأنه إجراء استباقي لتحالف عكسي قد يكون ضدها، وبالفعل تحقق الهدف بالحملة على قطر، والتي كانت إحدى عقوباتها تعليق السعودية لمشاركة قطر في التحالف العربي، وبالتالي ستضطر السعودية لخوض مسألة توفيق أوضاع مع الحيز الذي استقطعته الإمارات على هامش القضية الجنوبية في اليمن.
المسألة الثانية هي ليبيا، إذ يشير حسني إلى أن الأمر لا يمكن فصله عن ضربة الطيران المصري لمواقع أنصار الشريعة في مدينة سرت الليبية، والعملية التي تجري حاليًا للسيطرة على الجنوب الليبي.
بحيث يمكن قراءتها بأنها عملية موجهة ضد قطر بالأساس، لأن التدخل القطري في ليبيا يتم عبر السودان، فإذا حدث الفصل بين الجنوب الليبي إلى غاية جغبوب يحدث بذلك حاجز أمام التدخل القطري.
وهنا يجدر الإشارة إلى أن السعودية لا تتوغل في سياستها داخل ليبيا، وبقيت على حذر وتوازت مقارنة بالإماراتيين والمصريين، فبالتالي كان مطلوبًا أولًا عملية ضد قطر نفسها، ما لم يتم السيطرة على الجنوب الليبي بل ومساومتها على هذا الأمر، وثانيًا بدعم سعودي بل وبقيادة سعودية بحيث يكون ترجمة هذه القضية الحد من النفوذ القطري في ليبيا بقيادة سعودية.
قطر حاولت أن تفصل بين تحالف الإمارات والسعودية، بالتهدئة مع السعودية مقابل التصعيد مع الإمارات إلا أنها فشلت في ذلك
أما على الصعيد الخليجي الداخلي فيربط حسني الأحداث الحالية بقمة الرياض الأخيرة، والحديث عن صفقة القرن التي يجب إخضاع قطر قبلها بمباركة أمريكية، بمعنى أن السعودية دفعت ثمن قيادتها للمنطقة والمقصود هنا الخليج تحديدًا والشرق الأوسط عمومًا بدلًا من السياسة التوافقية بين دول المنطقة، ومن ثم من خلال القيادة السعودية وسيادة القرار السعودي، والدعم المطلق له يصطف الجميع خلفها بحربها ضد إيران.
ويضيف حسني في حديثه لنون بوست: “مع ملاحظة أن الأدوار القطرية كافة كانت من قبيل توزيع الأدوار بينها وبين السعودية، إذ لم تكن تتعمد قطر في بعض الملفات الإضرار بالسياسة السعودية، وعلى رأس ذلك ملف حركة حماس وكذلك الملف الإيراني الذي ربما يمكن اعتبار الدور القطري في هذه الملفات مفيدًا، إلا أن الإدارة السعودية الحالية ترفض طريقة الإدارة القديمة”.
أما بالنسبة لقطر فيعتقد أنها تريد الحفاظ على مشروعها واستقلالية سياستها أمام السعودية، خاصة أنه يتردد أن قطر على علاقة بجناح داخل الإدارة السعودية يرفض طريقة السياسات الحالية في المنطقة.
وعن الاختيارات التي تواجهها قطر للخروج من الأزمة يرى حسني أنه:
– أولًا: سياسيًا يمكن الاعتماد على تكتل الدول الصغيرة الخليجية في الوقوف معها، ثم حدوث تسوية سياسية في مجلس التعاون، ويجدر الإشارة هنا إلى أنه ثمة تخوف خليجي عام من تغول الدول الخليجية الكبيرة على الصغيرة منذ غزو العراق للكويت، وعليه ربما تكون هناك فرصة لهذا الحل.
– ثانيًا: بدرجة صعوبة أكبر يمكن أن تتجه قطر إلى خارج الخليج، وهذا الأمر في وجهة نظر الباحث محمد حسني ليس معناه التحالف مع إيران كخيار انتحاري، وإنما ضم تركيا وإيران إلى تحالف واحد، والمضي قدمًا في تفعيل خطوط غاز مشتركة بين قطر والعراق وتركيا ومنه لأوروبا، وكذلك يمكن أن يزداد التنسيق بين قطر وإيران على مستوى ملف حماس.
ويشار أيضًا هنا إلى أن قطر حاولت أن تفصل بين تحالف الإمارات والسعودية، بالتهدئة مع السعودية مقابل التصعيد مع الإمارات إلا أنها فشلت في ذلك.
حسني: السعودية دفعت ثمن قيادتها للمنطقة والمقصود هنا الخليج تحديدًا والشرق الأوسط عمومًا بدلًا من السياسة التوافقية بين دول المنطقة
الإجراءات العقابية بين التهوين والتهويل
لا يمكن النظر إلى هذه الإجراءات بعين التهوين أبدًا، فقطر الآن في موقف سياسي لا تحسد عليه، إذ يحاول المحور السعودي الإماراتي وضع ظهرها إلى الحائط، عبر الضغط الإقليمي وإدخال محور دولي بقيادة ترامب على الخط لمزيد من الضغط على الدولة القطرية التي تحتضن أكبر القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط.
في حين لا يمكن وصف ما يحدث بـ”الحصار” نظرًا لأن مسألة فرض الحصار على دولة له أبعاد أخرى ومستويات مغايرة، كما يشير محلل الشؤون الدولية والاستراتيجية أنس القصاص في حديثه الخاص مع نون بوست عن الأزمة الخليجية الأخيرة.
يشير القصاص إلى أن الترويج الإعلامي للحصار أمر مغلوط اصطلاحًا، لأن الحصار له تعريفات في القانون الدولي، وليست بتلك البساطة المطروحة، إذ إن الوصف الأدق لما يحدث هو الأزمة الإقليمية لأطراف غير متكافئة، وهو صراع تناظري على أكثر من مستوى.
فوجود أطراف متحالفة ضد قطر تتخذ موقفًا موحدًا بناءً على تفاهمات قوية ومشتركة تم بناؤها وتكريسها ومراكمتها في غضون شهور على الأقل يجعل منهم جبهة قوية في مواجهة طرف آخر يبدو أنه كان على علم بما سيحدث وفق تصريحات القصاص.
وبالتالي يمكن القول إن قطر تعاملت مع معطيات كانت لديها، وفق إمكانياتها كطرف يملك الدولار باحتياطيات ضخمة، ويملك الغاز كثاني أكبر دولة تمتلك احتياطي للغاز في العالم، بالإضافة إلى عدم إمكانية حصارها كونها دولة بحرية غير حبيسة تفطنت مؤخرًا فيما يبدو إلى ما يُحاك في الداخل الخليجي لها، فأنشأت عدة مواني بحرية مؤخرًا، بأسطول بحري قوي.
ويشير هنا الباحث أنس القصاص إلى كارت مهم في يد قطر، وهو وجود أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة “قاعدة العديد الجوية”، وهي قاعدة مركزية فاعلة للولايات المتحدة في المنطقة غير راكدة، إذ تسير طائرات عدة في هذه الفترة خلال الحرب على داعش.
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى ما يمكن تسميته بخطاب حسن النوايا الذي أرسل من البنتاغون إلى قطر في خضم هذه الأزمة، فحواه شكر للدوحة على دورها في محاربة الإرهاب، وأن الجيش الأمريكي لا يعتزم تعديل موقفه من قطر ردًا على الخلاف الدبلوماسي الحالي، بجانب تصريحات وزير الخارجية الأمريكي عن الأزمة والتي دعا فيها إلى رأب الصدع.
بالنسبة لقطر فيعتقد أنها تريد الحفاظ على مشروعها واستقلالية سياستها أمام السعودية، خاصة أنه يتردد أن قطر على علاقة بجناح داخل الإدارة السعودية يرفض طريقة السياسات الحالية في المنطقة
يرى هنا القصاص أن تصريحات تليرسون ليست لحفظ ماء الوجه كما يردد البعض، ولها أهمية في الأزمة الحالية، خاصة أن قطر دولة جغرافية صغيرة، لكن هيكل قوتها متعدِ لهذه المسألة، طبقًا لتناقضات البيئة الدولية الحالية التي باتت لا تعطي الجغرافيا كل شيء في علاقات القوة، وهو ما يجعل كل طرف من أطراف الأزمة قادرًا على إيلام وإيجاع الآخر، وليس هناك من هو محصن ضد الآخر.
نظام الحكم في قطر سيكون مستهدفًا في الخطوة القادمة
في حال صمدت قطر في هذه الموجة الأولى من التصعيد يتوقع الباحث أنس القصاص في حديثه لنون بوست أن الخطوة القادمة ربما تستهدف نظام الحكم في الدوحة، إذ ربما تلجأ السعودية والإمارات إلى هندسة النظام السياسي في قطر في حال فشل هذه العقوبات في ردع قطر.
إذ يرى القصاص أن بنية النظام السياسي في قطر الحداثية والمعولمة قد تساعد على ذلك، وهو ما تحاول أن تلمح إليه وسائل إعلام سعودية وإماراتية مؤخرًا بالحديث عن جبهات معارضة للأسرة الحاكمة في قطر.
ولكن في المقابل يمكن لقطر أن تتحرك في خطوات أسرع لمنع حدوث مزيد من الارتدادات لهذه العاصفة الخليجية، إذ يرى القصاص أن محاولة كسب الكويت إلى صف الدوحة ستعجل بمنع خطوات تصعيدية كثيرة، ولكن في نفس الوقت ستؤدي إلى كتابة شهادة وفاة مجلس التعاون الخليجي “المنهار” في وجهة نظره عمليًا على خلفية هذه التوترات.
فالكويت تتخذ حتى الآن موقفًا متحفظًا من الإجراءات الخليجية ضد قطر، ولا تتوافق مع السياسة الإماراتية بشكل كبير، وبالتالي فإن الاستحواذ على الكويت في هذه الأزمة سيكون كميلاد “خليج جديد” بحسب وصف القصاص، ناهيك عن موقف سلطنة عُمان المتأسس ضد السياسات السعودية من هذا النوع منذ زمن بعيد، وهو أمر ليس وليد الأزمة.
أنس القصاص: الترويج الإعلامي للحصار أمر مغلوط اصطلاحًا، لأن الحصار له تعريفات في القانون الدولي
فرص آنية داخل المنظومة الدولية
يرى القصاص أن ثمة فرص آنية في المنظومة الدولية سوف تمثل متنفسًا لقطر، وذكر على سبيل المثال الانتخابات البريطانية المنتظرة، وفي حال فوز حزل العمال يرى أن مجريات الأمور ربما تتغير، نظرًا لسياسة الحزب المنفتحة بخصوص قضايا الشرق الأوسط، إذ يصف القصاص هذا الأمر في حال حدوثه بالربح الأكبر لقطر في هذه المعمعة، التي تعد أكبر مستثمر خليجي في بريطانيا.
ويشار أيضًا إلى أن هناك محاولات لجر الحكومة البريطانية إلى مستنقع الإسلاموفوبيا والتطرف بعد التفجيرات الأخيرة، وهو ما يجعل خطاب حكومة تيريزا ماي متسامحًا مع نزاعات مكافحة الإرهاب المتطرفة وغيرها من الإجراءات التي تعاقب قطر باسمها في الأساس، إذ يتماهي مع التوجهات الترامبية اليمينية التي تقود المنظومة الدولية حاليًا نحو مزيد من التطرف.
فيما يرى القصاص فرصة أخرى ولكنها بعيدة من وجهة نظره، تتحدث عن تحالف تركي – إيراني تكون قطر الضلع الثالث فيه، ولكن يحتاج إلى تفاهمات عميقة مع الولايات المتحدة، إذ إنه قد يتسبب في مزيد من العقبات في وجه قطر.
الوساطة إلى أين؟
الصراع الآن بحسب رؤية القصاص يريد أن يعود بقطر إلى ما قبل العام 1995، أو على النقيض تهزم قطر هذا التحالف بنجاح أي تسوية، أمام هذه السياسة الاستئصالية التي ظهرت في التصعيدات الأخيرة، التي يسميها بمرحلة “عض الأصابع” والتي يصعب فيها التراجع بين الأطراف الحالية التي تصر على وجود طرف رابح وآخر خاسر.
في حين لن تعود العلاقات إلى سابق عهدها، ولن تعود مرحلة شد الحبال والتخدير بعد هذا التصعيد الأخير.
البدائل العسكرية القطرية
وعما تردد مؤخرًا بشأن القاعدة العسكرية الأمريكية في قطر، وإمكانية نقلها أو لجوء قطر إلى قوى أوروبية أخرى وبالتحديد بريطانيا يستبعد الباحث أنس القصاص هذه المسألة على الإطلاق.
ويشير إلى أن الوجود البريطاني في المنطقة حقيقة خاصة في سلطنة عُمان التي يوجد بها إحدى أكبر القواعد الاستخباراتية البريطانية في المنطقة وكذلك في عدة قواعد بالعراق، ولكن فكرة إحلال بريطانيا مكان الولايات المتحدة الأمريكية خاضعة لمعايير أخرى وليست بالسياق المطروح.
لأن هذا الأمر قائم على الحوار الأمريكي البريطاني “عبر الأطلسي” والذي يتم بخصوص الشؤون الدولية ككل، وهو السبيل الوحيد لأي تغيير في القواعد العسكرية، ولا سبيل لأي تصادم أو استبدال.
ويجدر الإشارة هنا إلى أن الإدارة الأمريكية في الوقت نفسه منقسمة تجاه قطر والحالة الخليجية بشكل عام، إذ تتخذ المجموعات اليمينية المتطرفة جبهة معادية لقطر، في المقابل تتخذ المؤسسات الأمريكية كالبنتاغون وجهة نظر أكثر عقلانية تجاه قطر، وهو ما يُشير إليه حديث وزير الخارجية القطري مؤخرًا بنفس المعاني تقريبًا.
إلا أن القصاص يرى أن النظام الأمريكي الحالي نفسه يواجه أزمة شرعية داخلية، ويدخل حروبًا طاحنة مع المؤسسات الحاكمة، وبشكل أو بآخر ينعكس هذا الأمر على الأزمة القطرية الخليجية.
المحور الاقتصادي للعقوبات
الحلف الخليجي ضد قطر قرر قطع التجارة البحرية معها أيضًا، إذ أعاقت السعودية، البلد الوحيد الذي يقع على الحدود مع قطر، النقل البري عبر هذه الحدود.
وقد ألغت عدة شركات طيران إقليمية مثل طيران الإمارات والخليج البحرينية وفلاي دبي وطيران الاتحاد في أبوظبي الرحلات إلى قطر، في حين ألغت الخطوط الجوية القطرية رحلاتها إلى السعودية، وبالمثل، أصبح المجال الجوي لدول مجلس التعاون الخليجي غير مسموح به للرحلات القطرية.
ويذكر مركز ستراتفور الاستراتيجي والأمني المعني بقطاع الاستخبارات في هذا الصدد أن إغلاق الحدود البرية ووقف الحركة الجوية والبحرية يهدف إلى ممارسة ضغوطٍ اقتصادية على قطر، حيث يتم شحن ما بين 40 و50% من واردات الدوحة الغذائية، بما في ذلك معظم منتجات الألبان الطازجة والخضار والفواكه والحبوب المصنعة، برًا من السعودية.
وبحسب المركز عند النظر في الواردات الإجمالية، لن يكون للحصار تأثير كبير على قطر، التي لا تحصل سوى على 8.8% من السلع المستوردة (بما في ذلك مواد البناء) من الإمارات، و4.3% فقط من السعودية.
ولكن من جهة أخرى من شأن الحظر على السفر جوًا أن يثير المزيد من المشاكل على الخطوط الجوية القطرية المتعثرة، والتي فقدت على الفور حقها في خدمة 19 وجهة في البلدان التي أصدرت الحظر.
القصاص: لن تعود العلاقات إلى سابق عهدها، ولن تعود مرحلة شد الحبال والتخدير بعد هذا التصعيد الأخير
وللتعليق على العقوبات الاقتصادية كان لنون بوست حديث مع المحلل الاقتصادي محمد هاشم عن الإجراءات الأخيرة المتخذة ضد قطر، إذ أكد هاشم أن هذا لا يمكن أن يُطلق عليه حصارًا اقتصاديًا، وفرّق هاشم في ذلك بين الحصار الدولي الذي فرض على دول مثل إيران وسوريا والسودان وهذه الأزمة المختلفة تمامًا مع قطر، إذ إن قطر غير ممنوعة من الاستيراد أو التصدير أو تعاني من أي مشاكل في مسألة تحويل الأموال، وكل ما تمر به قطر مجرد “حظر استيراد وتصدير” مع مجموعة دول.
قلل محمد هاشم في حديثه مع نون بوست من أهمية هذه المقاطعة الاقتصادية أو تأثيرها على قطر، إذ أكد أن الميزان التجاري بين الإمارات وقطر لم يسجل أي معاملة عام 2016، مما يشير إلى وجود شبه قطيعة تجارية سابقة.
أما على الصعيد السعودي فتستورد قطر منها بقيمة 1.5 مليار دولار تقريبًا مواد غذائية ثانوية وليست أساسية، في مقابل تصدير بقيمة 300 مليون دولار، وفي نفس الوقت فإن قطر لديها العديد من البدائل لهذه السلع غير الأساسية.
حجم التبادل التجاري بين قطر من جانب والسعودية والإمارات من جانب آخر (ستراتفور)
وبالنسبة للمقاطعة المصرية تصدر مصر إلى قطر بقيمة 248 مليون دولار وتستورد من قطر بقيمة 1.5 مليار دولار غاز، وفي حال قررت مصر الاستغناء عن الغاز القطري فإنها ستضطر إلى البحث عن بدائل أخرى أبعد كالجزائر، ويشير هاشم إلى أنه سيزيد من التكلفة على الدولة المصرية بقيمة 250 مليون دولار للشحن.
وذكر هاشم في معرض حديثه عن محاولات المقاطعة التامة أن الإمارات هددت أصحاب شركات النقل الملاحي، بعدم نقل أي بضائع إلى قطر على متن أي سفينة شحن، وإلا لن يتمكنوا من استخدام المواني الإماراتية.
أما بالحديث عن الحل فيذكر هاشم أن السيولة النقدية العالية التي تتمتع بها قطر تمكنها من تجاوز مثل هذه العقبات بإنشاء خطوط ملاحية مباشرة إن أرادت ذلك، وفي حال تحولت السفن القطرية إلى مواني أخرى سواء في العراق أو إيران للتزود بالوقود بعد الحظر الإماراتي، فإنه يرى أن الخسائر الفادحة ستصيب الإمارات وليس قطر، وعلى مستوى آخر يمكن اللجوء إلى منظومة دعم شحن قوية تشجع الشركات للقدوم إلى قطر، أو الاعتماد على منظومة شحن جوي وهو ما تستخدمه قطر بالفعل في شحن الفواكه والخضراوات، وكل هذا توفره القدرات المالية للدوحة.
محمد هاشم: السيولة النقدية العالية التي تتمتع بها قطر تمكنها من تجاوز مثل هذه العقبات
وفيما يتعلق بمسألة الطيران يرى هاشم في حديثه لنون بوست أن الأزمة التي تواجه قطر في تكلفة تشغيل مطار حمد يمكن أن تقل بصورة كبيرة في خضم المعركة الحالية، لأنها مرتفعة بصورة كبيرة مقارنة بالمطارات الأخرى.
ويعتقد هاشم أن حل اللجوء إلى مطارات دول أخرى سيكون أكثر عملية وأقل تكلفة سواء كان مطار تركيا بالنسبة لرحلات أوروبا، أو إثيوبيا فيما يخص إفريقيا، وكوالالمبور فيما يخص آسيا، وهو ما سيفيد جميع هذه المطارات اقتصاديًا.
ومن ثم يمكن حصر الضرر الوحيد الحالي من الأزمة في البورصة بحسب حديث هاشم، إذ إنها خاضعة للإشاعات والاستثمار الأجنبي بشكل أكبر، علمًا أن البورصة لا تضيف للناتج القومي أي شيء، وهو ما معناه أن الاقتصاد القطري يستطيع أن يقف بشكل مباشر في وجه تلك الأزمة دون تأثير، بل إن بعض الدول المقاطعة لها هي من ستتأثر إذ قررت قطر وقف إمدادها بالغاز كالإمارات على سبيل المثال.