تشهد المنطقة العربية منذ بدء تفجر الانتفاضات الشعبية في مطلع العام 2011 وحتى اللحظة حراكًا فكريًا مرادفًا للحراك الشعبي في الشارع ويتمحور حول دور الدين والحركات الدينية في المجتمعات والدساتير ومؤسسات الدولة.
ولعل ما يحدث حاليًا في الوطن العربي من تباينات بين أتباع الحركات الدينية والحركات العلمانية لدليل على هذه الحيوية الفكرية في أوطانٍ تحاول بعد خلع حكامها السابقين بناء ذاتها، لكن النقطة المركزية التي يتمحور الاهتمام السياسي والإعلامي العربي الآن حولها هي مسألة الديمقراطية كعملية إجرائية ترتبط بآليات انتخابية أو بمؤسسات دستورية دون الانتباه إلى أن أساس العطب في الجسم العربي في الفكر أولًا وقبل أن يكون في طبائع نظم الحكم أو كيفية المشاركة الشعبية في الحياة العامة.
والحديث عن الفكر لا يعني فقط النُخَب المثقفة في المجتمع بل شاملٌ لما يسود الأمة من تراث فكري ومعتقدات وعادات وتقاليد ومفاهيم لأمور الدين والدنيا وشكلت بمجملها الواقع الثقافي العربي الراهن.
فهناك انقسامٌ في المجتمعات العربية والإسلامية بين تيارين أو منهجين فكريين، أحدهما يدعو لمقولة العلمانية والآخر إلى الأخذ بالمنهج الإسلامي، وكل من أصحاب المدرستين يحاول الربط بين منهجه وسمات إيجابية أخرى حدثت أو تحدث في المجتمع، بينما لا علاقة لها في الأصل بالمنهج الفكري نفسه.
فالتيار العلماني يعتبر معارك التحرر القومي ضد الاستعمار في القرن العشرين وكذلك معارك العدالة الاجتماعية وكأنها منجزات للتيار الفكري العلماني، بينما نجد على الطرف الآخر من يعتبر مثلًا ظاهرة المقاومة حاليًا انتصارًا للمنهج الفكري الإسلامي.
أعتقد أن في الحالتين ظلمًا للحقيقة، فقضايا التحرر والهُوية القومية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاحتلال ومحاربة الظلم أينما كان وكيفما كان كلها قضايا إنسانية عامة لا ترتبط بمنهج فكري محدد، فلا الدين يتعارض مع هذه القضايا ولا الابتعاد عنه يعني تخليًا عنها، وهناك أمثلة عديدة عن مجتمعات كافحت من أجل هذه القضايا لكن اختلفت دوافعها الفكرية ونظرتها لدور الدين في الحياة.
الاختلاف على الجانب الفكري ظاهرة صحية إذا حصلت في مجتمعاتٍ تصون التعددية الفكرية والسياسية وتسمح بالتداول السلمي للسلطة وباحترام وجود ودور الرأي الآخر
إن أساس الخلاف بين التيارين العلماني والإسلامي فكريٌ محض ولا يجوز إلحاق القضايا السياسية بطبيعة هذا الخلاف، فالهُوية الوطنية أو القومية مثلًا أصبحت ضحيةً لهذا الخلاف بين التيارين في المنطقة العربية بينما لا تتناقض إطلاقًا الهُوية الثقافية للشعوب مع معتقداتها الدينية، كذلك هو أسلوب المقاومة ضد المحتل أو المستعمر حيث هو وسيلة تحرر استخدمتها في أممٍ عديدة قوى مختلفة الألوان والمناهج الفكرية.
إن العكس هو المفروض أن يحدث بين التيارين الإسلامي والعلماني، أي أن يبقى الاختلاف قائمًا في المسألة الفكرية وأن يتم البحث عن المشترك من القضايا الوطنية والاجتماعية، فالاحتلال الإسرائيلي مثلًا لم يميز ولا يزال بين التيارين في الأراضي المحتلة إذ إن المستهدَف هو الفلسطيني إن كان من هذا الدين أو ذاك أو إن كان علمانيًا أو إسلاميًا، الأمر نفسه ينطبق على القضايا الاجتماعية حيث لا دين أو لون فكري للفقر أو للظلم الاجتماعي.
أما الاختلاف على الجانب الفكري فهو ظاهرة صحية إذا حصلت في مجتمعاتٍ تصون التعددية الفكرية والسياسية وتسمح بالتداول السلمي للسلطة وباحترام وجود ودور الرأي الآخر، وهي مواصفات وشروط لمجتمعات تعتمد الحياة السياسية الديمقراطية وتكون مرجعيتها القوانين والدساتير المجمَع بين كل الأطراف على الالتزام بها.
فلا ينقلب طرَفٌ على الآخرين وحقوقهم أو على الدستور ذاته لمجرد الوصول إلى الحكم، هكذا حال التجربة التركية الآن وكما هي ظاهرة الأحزاب الدينية في المجتمعات الأوروبية العلمانية، حيث يتم تداول السلطة عن طريق الانتخاب بغضِ النظر عن طبيعة الأحزاب السياسية وهوياتها الدينية أو العلمانية.
لقد ظهرت في القرن العشرين الأنظمة العلمانية اللادينية وهي التي ارتبطت بالفلسفة الماركسية – اللينينية والتي اعتبرت أن الدين أفيون الشعوب وكانت ذات سمة ديكتاتورية في الحكم وفاصلة للدين عن المجتمع وليس عن الدولة فقط، بينما نجد أن التجربة العلمانية الغربية الفاصلة للدين عن الدولة وغير الرافضة للدين المسيحي ارتبطت بأنظمة حكم ذات نمطٍ ديمقراطي في الداخل وتوجهٍ استعماري للشعوب الأخرى وعلى أساس مصالح اقتصادية فرضتها الثورة الصناعية في أوروبا وحاجتها لأسواق ولمصادر خام.
وهكذا كانت العلمانية موضع رفض وإدانة في المجتمعات العربية والإسلامية بحكم ما كان سائدًا لها من نماذج في المعسكرين الشيوعي والرأسمالي.
الموضوعية تفرض عدم وضع الجماعات الإسلامية كلها في سلةٍ واحدة فكرًا وممارسة وكذلك بالنسبة للقوى العلمانية، وبالتالي عدم استخدام التعميم في التعامل مع أي حالة
ليس هناك نموذجًا تطبيقيًا واحدًا لمصطلح العلمانية بل حتى في الدائرة الغربية الديمقراطية نجد اختلافًا في المفهوم والتطبيق بين العلمانية الأوروبية والعلمانية الأمريكية، العلمانية الأمريكية لا تفصل الدين عن الدولة كليًا، كما هو الحال مثلًا في فرنسا وتجارب أوروبية أخرى العلمانية الأمريكية تشجع على الإيمان الديني ولا تحاربه وتقوم المؤسسات الحكومية بدعم المراكز والمؤسسات الدينية وبعضها إسلامي وتتم الصلاة في مؤسسات حكومية وتشريعية بشكلٍ مشابه تمامًا لما يحصل في كثيرٍ من البلدان العربية والإسلامية، وحقوق الناس في ممارسة شعائرهم الدينية بما في ذلك مسائل الشكل واللباس مصونةٌ بحكم القانون الأمريكي، وهذا أمرٌ لا توفره مثلًا التجربة العلمانية الفرنسية أو حتى التركية.
فالعلمانية في التجربة الأمريكية لضمان حقوق كل الطوائف والأديان ولمنع هيمنة إحداها على الأخرى وبينما تم استخدام العلمانية في تجارب عالمية أخرى للحدِ من دور رجال الدين في المجتمع كما في التجارب الأوروبية أو للحدِ من دور الدين عمومًا في حياة الناس كما كانت عليه التجارب الشيوعية، بالمحصلة، ليس هناك علمانية عالمية واحدة لقبولها أو رفضها، فالعلمانية أيضًا أصبحت مدارس مختلفة.
لذلك، هناك حاجةٌ للتوافق المبدئي بين مختلف الاتجاهات الفكرية العربية على ضرورة الفرز والتمييز بين الجماعات التي تعمل تحت لواء أي نظرية فكرية، فليس هناك مفهومًا واحدًا لهذه النظريات حتى داخل المعتقدين بها بشكل عام، ثم ليس هناك برنامجًا سياسيًا أو تطبيقيًا واحدًا حتى بين الجماعات والحركات التي تتفق على مفهوم واحد.
هذا الأمر ينطبق على الجماعات العلمانية والإسلامية كما على أتباع النظريات الشيوعية والرأسمالية والمحافظين والليبراليين في العالم كله، كذلك صحت هذه الخلاصة على التجارب القومية العربية، ومنها “الناصرية” و”البعث” وغيرهما! حيث غابت عن هذه التجارب وحدة المفاهيم الفكرية والحركية.
إذ إن الموضوعية تفرض عدم وضع الجماعات الإسلامية كلها في سلةٍ واحدة فكرًا وممارسة وكذلك بالنسبة للقوى العلمانية، وبالتالي عدم استخدام التعميم في التعامل مع أي حالة.
ففي التيار الديني الإسلامي اتجاهاتٌ تؤكد على خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام وعلى الانسجام بين الديمقراطية والفكر الإسلامي وعلى رفض استخدام العنف في الدعوة ووسائل التغيير بل تحرم استخدام العنف في ذلك، وهي قوى تريد تغيير المجتمع أولًا بينما تريد قوى إسلامية أخرى الوصول إلى السلطة أولًا أو تحبذ استخدام العنف أو ترى تناقضًا بين الدين والديمقراطية.
المجتمع العربي بحاجة إلى إصلاحات فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وهذه الإصلاحات لا تتناقض مع القيم الدينية ولا تتعارض مع المفاهيم الإنسانية المعاصرة
كذلك من الضروري أيضًا التفريق بين دعاة العلمانية وعدم وضعهم جميعًا في خانةٍ واحدة، فهناك علمانيون يؤكدون على دور الدين في المجتمع ويدعون للمجتمع المدني ولحقوق المواطنة للجميع دون ابتعادٍ عن القيم الدينية.
إن الإسلام حسب اجتهادي دين وضوابط مجتمع ولا يجب الفصل بين الدين والمجتمع ولكن يتوجب الفصل بين الدين ومؤسسات الدولة، إذ المعروف أنَ أساليب الحكم ومفاهيم الدولة قد اختلفت إسلاميًا من حقبة لأخرى حتى في سياقها التاريخي منذ بدء الدعوة ثم في فترة الخلفاء الراشدين ثم ما جرى بعد ذلك من حكمٍ عائلي متوارث تحت مظلة الخلافة الإسلامية وصراعات بين حقبة وأخرى، واختلاف في المفاهيم وصيغ الحكم ومرجعياته.
إن المنطقة العربية مهد كل الرسالات السماوية والأنبياء ومواقع الحج الديني، وبالتالي فإن تغييب أو تهميش دور الدين فيها هو مسألة مستحيلة عمليًا، أيضًا، فإن العلمانية وحدها ليست الحل لمشاكل المجتمع العربي.
ولقد شهدت بعض البلاد العربية والإسلامية تجارب لأنظمة حكم علمانية لكن بمعزل عن الديمقراطية السياسية في الحكم وعن العدالة في المجتمع فلم تفلح هذه التجارب في حل مشاكل دولها ولم تحل مشكلة غياب الديمقراطية ولم تحل مشكلة الأقليات ولم تحل المشاكل الاقتصادية ولم تحل مشكلة الحكم بالوراثة أوالقوة العسكرية ولم تحقق التقدم والعدالة الاجتماعية لشعوبها.
إن المجتمع العربي بحاجة إلى إصلاحات فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وهذه الإصلاحات لا تتناقض مع القيم الدينية ولا تتعارض مع المفاهيم الإنسانية المعاصرة وفي ذلك مسؤولية مشتركة لقوى علمانية ودينية تختلف فكريًا لكنها قد تشترك في برنامج نهضوي جديد تحتاجه الأمة العربيه كلها.