رغم مرور قرابة السنة على بدأ الاحتجاجات في مدن الريف المغربي إلا أن مطالب ساكنة الريف المختلفة التي انطلقت بالتنمية إلى إطلاق سراح المعتقلين مرورا بمكافحة الفساد ظلت حبيسة حناجرهم، لم تصل أذان المسؤولين بعد، ولم تبلغ أسوار مكاتبهم، بدليل عدم الاستجابة لها إلى الأن، ما جعل أمل سكان الريف في تجاوب السلطات الحاكمة مع مطالبهم يبدأ في النفاذ، متذكرين تجاربهم السابقة مع المخزن.
من التنمية إلى إطلاق سراح المعتقلين
في الثامن والعشرين من شهر أكتوبر 2016، بدأت احتجاجات في مدينة الحسيمة بالريف المغربي بعد أن صادرت السلطات المحلية كميات كبيرة من السمك الذي اشتراه الشاب محسن فكري، وألقت بها في شاحنة لجمع القمامة، غير أن الشاب قفز إلى داخل الشاحنة لمحاولة جمع السمك المصادر، إلّا أن أحدهم شغل محرك الشاحنة، فاشتغلت آلة الشفط التي ابتلعت الشاب وسحقت عظامه حتى الموت.
وقد توالت احتجاجات ساكنة الحسيمة بشكل عفوي منذ وفاة بائع السمك محسن فكري، واتسعت رقعتها لتستقطب فئات جديدة باستمرار بالنظر إلى طابعها السلمي والاحتقان الاجتماعي بالمنطقة، وبدأ المحتجون في الحسيمة والمدن المجاورة بالمطالبة بمطالب ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية لا تختلف عن باقي مطالب الشعب المغربي المرتبطة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
في مجال الصحة يطالب المحتجون بإنشاء مستشفى إقليمي جديد، وإصلاح البنية الصحية بالمدينة، وتوفير التخصصات والعلاجات والأدوية للمواطنين بالمدينة والقرى التابعة لها
ومن أبرز المطالب الملحة للجهة، الإسراع بالكشف عن مآل التحقيق في ملف وفاة محسن فكري وتقديم جميع المتورطين في وفته للعدالة والذهاب بالتحقيقات إلى أبعد مدى، ويطالب المحتجون أيضا بالكشف عن حقيقة وفاة خمسة أشخاص داخل أحد بنوك المدينة بعد خروج المغاربة في مدن مختلفة بينها الحسيمة يوم 20 فبراير/شباط 2011 إبان موجة الربيع العربي، حيث تم اكتشاف الجثث المتفحمة داخل البنك في ظروف غامضة، في حين يطرح المحتجون علامات استفهام كثيرة عن سبب الوفاة وعن أداء الأجهزة الأمنية المختصة في القضية.
وفي مجال الصحة يطالب المحتجون بإنشاء مستشفى إقليمي جديد، وإصلاح البنية الصحية بالمدينة، وتوفير التخصصات والعلاجات والأدوية للمواطنين بالمدينة والقرى التابعة لها. وفي مجال التعليم، يطالب ساكنة الريف بناء مدارس جديدة، وبناء جامعة متكاملة التخصصات ومعاهد عليا بالمنطقة. ولدى المحتجين أيضا مطالب متنوعة بينها تعزيز البنية الثقافية بالمدينة، وإتمام أشغال إنشاء متحف الريف، وإحداث مراكز ثقافية، إلى جانب الحفاظ على الثروة الغابوية والمائية بالمنطقة، وإنشاء ملاعب رياضية يستفيد منها أبناء المدينة.
تشبث ساكنة الريف بإطلاق سراح المعتقلين قبل أي حوار مع السلطات
اقتصاديا، يطالب المحتجون بوقف ما يسمونها سياسة حرمان الحسيمة ومنطقة الريف من مشاريع إنتاجية أساسية، ومحاربة الفساد وخاصة بقطاع الصيد البحري الذي يعد النشاط الاقتصادي الأبرز بالمدينة، بالإضافة إلى وضع ركائز للنهوض الفلاحي بالمنطقة ودعم الفلاحين الصغار. ويدعو المحتجون إلى تعزيز قطاع التشغيل بالمدينة عبر خلق مصانع وتسهيل مسطرة إنشاء مشاريع اقتصادية منتجة تحتضن اليد العاملة النشطة التي تعاني من البطالة، كما يطالبون بربط إقليم الحسيمة بخط السكك الحديدية، وشبكة الطريق السيار، وتوسيع مطار المدينة، وفتح خطوط جوية بين الحسيمة وأوروبا.
إلا أن هذه المطالب ما فتئت أن تغيرّت وتغيرت معها الأولويات مع اعتماد السلطات المغربية النهج الأمني للحدّ من الاحتجاجات، من التنمية إلى الافراج عن معتقلي الحراك الذين يتجاوز عددهم الـ 300 معتقل داخل السجون المغربية من دون شرط أو قيد وإسقاط التهم التي يتم التحقيق فيها معهم، وإلغاء المتابعات في حقهم، فعوض الاستجابة لمطالب المحتجين المشروعة، ردت المملكة باعتقال نشطاء الحراك الشعبي وكذلك الصحفيين.
ما زاد قلق ساكنة الريف على المعتقلين، ما وثقته “هيومن رايتس ووتش” من حالات لممارسة التعذيب والاعترافات القسرية التي تشكل انتهكا لدستور المغرب لسنة 2011
وقامت الشرطة المغربية منذ مايو/ أيار 2017 باعتقال أكثر من 270 شخصاً على خلفية الاحتجاجات بمنطقة الريف، وأُلقي القبض على الكثير من هؤلاء بشكل تعسفي، وبينهم ناشطون سلميون وبعض الصحفيين. ولا تزال الغالبية العظمى منهم قيد الاحتجاز، وصدرت بحق الكثير منهم أحكام بالسجن على خلفية تهم تتعلق بالاحتجاج. ويخضع ما لايقل عن 50 موقوفاً للتحقيق حالياً على ذمة تهم تتعلق بأمن الدولة، بينما يخضع شخص آخر للتحقيق على خلفية تهم تتعلق بالإرهاب. وقد يُحكم على البعض منهم بالسجن المؤبد جراء ذلك، حسب منظمة العفو الدولية.
وما زاد قلق ساكنة الريف على المعتقلين، ما وثقته “هيومن رايتس ووتش” من حالات لممارسة التعذيب والاعترافات القسرية التي تشكل انتهكا لدستور المغرب لسنة 2011، إضافة إلى شهادة منظمة العفو الدولية التي قالت إن ما لا يقل عن 66 شخصاً محتجزاً بسبب الاحتجاجات الجماعية في منطقة الريف شمال المغرب قد أبلغوا عن تعرضهم للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة في الحجز؛ بما في ذلك تعرضهم للضرب والخنق والتجريد من الملابس والتهديد بالاغتصاب وتوجيه الشتائم والإهانات لهم من طرف الشرطة، وذلك من أجل إجبارهم على “الاعتراف” في بعض الأحيان.
المغرب يرفض الإنصات للمحتجين
عوض معالجة مطالب ساكنة الريف والاستجابة لها، ردت السلطات المغربية باعتقال نشطاء الحراك، فضلا عن اعتقال الصحافيين وتطويق مدينة الحسيمة والمدن المجاورة لها واستخدام القنابل المسيلة للدموع لقمع المحتجين، وفي كل مسيرة تشهدها مدن الريف المغربي تجد المئات من قوات مكافحة الشعب تحاصرها للحد من انتشارها وعرقلة تحركاتها وقمعها في أغلب الأحيان.
وتميل الحكومة المركزية في الرباط إلى التركيز على الخيارات الأمنية واعتقال النشطاء في مواجهة الاحتجاجات، نتيجة ضعف اندماج منطقة الريف وعلاقتها الصعبة بالمركز، مما يساهم في تعميق الهوة مع المحتجين ودفعهم إلى مطالب تشكك حتى في السلطات الرمزية في المملكة، وقد تكرست الهوة بفعل ردود الفعل العنيفة من قبل الحكم المركزي “المخزن” في المغرب على انتفاضات واحتجاجات شهدتها منطقة الريف مباشرة إثر استقلال المملكة نهاية الخمسينيات وفي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
عدم استجابة السلطات لمطالب المحتجين ينذر بعواقب وخيمة على المملكة
ونتيجة هذه المقاربة الأمنية وجدت الدولة المغربية نفسها ومن ورائها المخزن في عزلة، حتى من قبل بعض أحزاب الائتلاف الحاكم وأكبر أحزاب المعارضة، حيث دعت أحزاب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والعدالة والتنمية والاستقلال الحكومة بنهج مقاربة تنموية مندمجة في الإقليم بدل المقاربة الأمنية الصرفة، منددة بما خلفه التفعيل المكثف للمقاربة الأمنية من مطاردات ومداهمات للمنازل واعتقالات واسعة طالت حتى القاصرين.
كما نددت اللجنة التحضيرية لدعم الحراك الشعبي بالريف بما وصفته الاختطافات والاعتقالات السياسية التي أقدم عليها النظام المخزني في حق نشطاء الحراك الشعبي السلمي، مؤكدة ضرورة إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين على رأسهم ناصر الزفزافي، ويؤكّد مراقبون أن عدم العفو عن نشطاء الريف يؤكد أن الدولة متشبثة بالقبضة الأمنية ومقاربة العنف والتصعيد، التي انتهجتها منذ بداية الحراك في مدينة الحسيمة شمال البلاد.
تجدّد الاحتجاجات
خُفوت موجة الاحتجاجات بشكل ملحوظ بالحسيمة والمدن المجاورة لها في الفترة الأخيرة، لا يعكس انصياع ساكنة الريف ولا تخليهم عن مطالبهم، فإمكانية تفاقم الاضطرابات في المنطقة خاصة بعد صدور أحكام وصلت إلى حد السجن 20 سنة بحق بعض معتقلي الحراك. وأعلنت المحكمة الابتدائية في الحسيمة الثلاثاء الماضي الأحكام الصادرة بحق تسعة ناشطين في حركة الريف، وأجلت المحاكمة بالنسبة إلى 23 ناشطاً آخرين إلى وقت لاحق. وأدين بعض الناشطين بحرق مبنى للشرطة نهاية آذار (مارس) 2017 في بلدة إيموزين المجاورة للحسيمة والتي شهدت أيضاً تظاهرات احتجاج.
منذ انطلاق الحراك، راهنت السلطات المغربية، في كثير من الأحيان على عامل الوقت لتقهقر حراك الريف وتراجع تمدّده إلا أنها فشلت في رهانها
وأمام تواصل عدم اكتراث السلطات بمطالبهم المشروعة، لم تعد عائلات المعتقلين تنتظر العفو الملكي عن أبنائهم، لا سيما بعد مرور ثلاث مناسبات وطنية دون أن يغادروا السجن باستثناء الناشطة سيليا، كما بدأ شعور الغضب والغليان الذي ينتاب ساكنة الريف يزداد، خاصة وأن السلطة لا تريد التنازل ولا تسعى لإجاد حل يرضي الجميع. حتى أن البعض اكّد أن إطلاق سراح المعتقلين والاستجابة لملفهم الحقوقي، وحتى محاسبة المسؤولين المتورطين في الانتهاكات التي طالت المحتجين في زنازين الاعتقال أو خارجها، والتي راح ضحيتها عماد العتابي لن تضع حدا للحراك.
ومنذ انطلاق الحراك، راهنت السلطات المغربية، في كثير من الأحيان على عامل الوقت لتقهقر حراك الريف وتراجع تمدّده إلا أنها فشلت في رهانها، فالحراك باقي ويتمدّد داخل مدن المملكة وخارجه فالمسيرات والوقفات الاحتجاجية وصلت سفارات المملكة وبعثاتها الديبلوماسية في مدن أوروبية عدّة.