وقف زعيم حزب الشعب الجمهوري السابق، كمال كليجدار أوغلو، داخل مطبخ منزله وهو يلوّح بـ”بصلة” عبر مقطع فيديو دعائي نشره في شهر مايو/ أيار الماضي، خلال خوضه انتخابات رئاسة الجمهورية التركية، كان الهدف من المشهد الذي حظي برواج كبير حينها، توجيه انتقادات حادّة للحكومة بسبب ارتفاع الأسعار، وتحميل منافسه في الانتخابات، الرئيس رجب طيب أردوغان، أزمة غلاء المعيشة ضمن أساليب الدعاية الانتخابية.
المثير أن فريق الدعاية الانتخابية المعاون لكليجدار أوغلو استلهم الواقعة من تصريحات سابقة لأردوغان، عندما قال قبلها بأيام خلال تجمع جماهيري لأنصاره: “أعلم أنكم لن تضحّوا بقائدكم من أجل البصل” الذي كانت أسعاره مرتفعة نسبيًّا حينها، لذا تم توظيف أزمة “البصل” كأحد العناوين المهمة في محاولة إقناع الناخبين بضرورة التغيير، وأن الأفكار التي يحملها مرشح المعارضة في انتخابات الرئاسة أفضل ممّا يتبناه أردوغان، لكن أكثر من 52% من الناخبين اختاروا أردوغان.
رغم متغيرات كثيرة منذ الصيف الماضي، وحتى الفترة المتبقية على الانتخابات البلدية التركية في 31 مارس/ آذار المقبل، فإن الدعاية الانتخابية (21 إلى 30 مارس/ آذار المقبل، حيث تبدأ فترة الصمت الانتخابي) تشكّل المحور الأساسي في المعركة بين الأحزاب المتنافسة في الانتخابات الفاصلة، كونها تحسم مصير أحد أهم مؤسسات صنع القرار في البلاد التي يتم من خلالها تمرير سياسات، ومدّ الجسور مع الناخبين مباشرة، عبر مناصب رؤساء البلديات وأعضاء المجالس المحلية ومخاتير الأحياء، لمدة 5 أعوام كاملة.
ولأن الانتخابات البلدية تحظى بأهمية كبيرة بالنسبة إلى جميع الأحزاب السياسية المشاركة، كونها فرصة لتحسين صورتها شعبيًّا، وقياس جماهيرية الأحزاب التي تراهن على حسم المقاعد البلدية، للاستفادة من صلاحياتها وتعدُّد مجالات عملها، لذا بدأت الأحزاب حملاتها الدعائية غير الرسمية مبكّرًا، من خلال ما هو متاح من أنشطة ترويجية تتحايل على المدة القانونية المحددة لتاريخ انطلاق وانتهاء الحملات الانتخابية، والوسائل المسموح والممنوع استعمالها كضوابط أساسية.
يرتبط انطلاق الحملات الدعائية لمرشحي الانتخابات البلدية المرتقبة بنشر اللجنة العليا للانتخابات القائمة النهائية للمرشحين في الجريدة الرسمية، وبذلك يمكن لمرشحي الرئاسة القيام بالدعاية الانتخابية الرسمية حتى اليوم قبل الأخير من موعد إجراء الانتخابات، لإقناع معظم قاطني المدن والمناطق الريفية والساحلية والطبقات الاجتماعية والأقليات والتجمعات الكردية في الجنوب، بالتصويت لمرشحي الأحزاب التي تخوض المعركة.
في الانتخابات التركية عمومًا، تركّز الأحزاب -كما التحالفات- على الخطاب الدعائي الذي يدغدغ مشاعر النخب من الكتل التصويتية، حسب انتماءاتهم وتوجّهاتهم السياسية، لكن في الانتخابات البلدية على وجه الخصوص، يكون التركيز على التكتيكات التي تهمّ الشريحة الأوسع من الناخبين، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، خاصة الملفات التي تشكّل في مجموعها إطلالة واضحة على الجهود الخدمية والظروف المعيشية، لتأثيرها المباشر على المواقف السياسية التقليدية في بعض الأحيان، بحكم الظروف الضاغطة اقتصاديًّا.
ولأن تحالف الشعب الحاكم -بقيادة حزب العدالة والتنمية- لديه دعم كبير من وسائل الإعلام المحلية بحكم شبكة علاقاته وتقاطعاته، فإن المعارضة تلجأ إلى ما يُسمّى بـ”وسائل الإعلام الجديد”، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي كمنصة إكس التي كانت الملعب الأهم خلال الانتخابات العامة، الرئاسية والتشريعية، في مايو/ أيار الماضي، من خلال حسابات تخاطب فئات وشرائح المجتمع ويتابعها ملايين الأشخاص، إلى جانب ما تيسّر من الإطلالات الإعلامية: المسموعة والمقروءة والمرئية.
كما يجري توظيف اللافتات التقليدية في الشوارع والساحات والميادين، التي تروّج لأفكار وبرامج الأحزاب لجذب الجماهير، وتتضمن الحملات الدعائية الزيارات الميدانية والمؤتمرات والتجمعات الانتخابية، والاستعانة بالإنتاج الفني من أغانٍ وموسيقى وشعارات مسموعة، وغيره.
يحرّض مرشحو الأحزاب السياسية التركية على مخاطبة الناخبين وفق التوزيع الجغرافي، ومدى كثافة العدد وطبيعة المنطقة، والانتماء السياسي لقاطنيها، والولاء الحزبي، من أجل تنفيذ حملات دعائية مؤثرة تعتمد على مفردات بسيطة ووسائل عميقة وتكتيكات متنوعة، تعبّر عن المشكلات والأزمات.
تحالف الشعب
مع الاهتمام الكبير الذي توليه الأحزاب المتنافسة لحسم البلديات الكبرى (إسطنبول، وأنقرة، وإزمير، وأنطاليا، وأضنة، ومرسين)، تختلف حسابات فرق الدعاية التي تدير أنشطة الـ 36 حزبًا، من حيث الحرص الكامل على تعظيم الأصوات، ومدّ الجسور مع الفئات “المترددة” من الناخبين، فيما حرص حزب العدالة والتنمية وشريكه حزب الحركة القومية على إطلاق حملته الانتخابية مبكرًا في حوالي 520 منطقة كبيرة وصغيرة، على مستوى الولايات التركية.
وعلم “نون بوست” أن الحملة الانتخابية الدعائية للحزب ستركّز على ملفات أساسية خلال التحضير الجاري حاليًّا لملف الانتخابات البلدية (التحول الحضري، والحدّ من تداعيات ومخاطر الزالزل، والإسكان، وضبط الأسعار)، مع تعرية برامج أحزاب المعارضة والتشكيك في واقعيتها وإمكانية تطبيقها على أرض الواقع، وكَيْل الاتهامات لرؤساء البلديات الكبرى التي فازت بها المعارضة في الانتخابات الماضية عام 2019، وفشلهم في تحمُّل مسؤولياتهم الخدمية والتنموية فيها.
وسيوظف مرشحو العدالة والتنمية وتحالف الشعب المكتسبات الوطنية في قطاعات البنية التحتية والصناعات الدفاعية والطاقة وتكنولوجيا الفضاء في حملاتهم الدعائية كمكتسبات عامة، تأكيدًا على قدرتهم على تحقيق المطالب الشعبية في البلديات الرئيسية والفرعية، إلى جانب ما تشكّله من تطمينات في الملفات التي تثير الجدل.
وستركّز الحملة الدعائية للتحالف الحاكم على تفكيك التشابكات في أكبر أحزاب المعارضة التركية، وأقدمها الشعب الجمهوري برئاسة أوزغور أوزيل، لا سيما طريقة إدارته من خلال الصلاحيات “غير المباشرة” الممنوحة لقيادات شهيرة في الحزب، لضمان ولائها وعدم تنافسها أو دخولها في صراعات، كرئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، ورئيس بلدية أنقرة منصور يافاش، برمزيتهما في الحزب والمشهد السياسي عمومًا.
كما تستهدف حملة التحالف الحاكم الإيحاء بأن الطريقة التي يدار بها حزب الشعب الجمهوري ستنعكس على قياداته التي تخوض الانتخابات البلدية المقبلة، وبالتالي لن تكون قادرة على تقديم الخدمات المطلوبة منها شعبيًّا، إلى جانب تركيز الحملات الدعائية على قضايا مشتركة تهم السلطة والمعارضة على السواء: الهوية الوطنية، والملفات الاقتصادية والسياسية، والاستثمارات الإقليمية، والتنمية المحلية، والأسعار، والتضخم، ودعم الفئات المحرومة، ورفع مستوى معيشة المواطنين، ومكافحة الفقر والفساد، والتصدي للبطالة، وتخفيض الرسوم الخدمية، وسيادة القانون، وحرية الرأي والتعبير، والصحة، والتعليم، وتمكين المرأة والشباب.
خندق المعارضة
في المقابل، إن أحزاب المعارضة التركية التي تخوض الانتخابات المحلية تعرف أنها تواجه تحالفًا قويًّا (الشعب) بقيادة أردوغان، ومن ثم خطاب معظم قياداتها كان واضحًا: “نعرف من نواجه. خصمنا ليس هينًا”، كما يوظفون الملف الاقتصادي الضاغط على الطبقة الوسطى والفقراء في الحملات الدعائية، كنقطة ضعف في أداء الحزب الحاكم.
تتبنّى الأحزاب الشهيرة في معسكر المعارضة (الشعب الجمهوري، والجيد، والمساواة والديمقراطية الشعبية الكردي، وغيرها كالديمقراطية والتقدم، والمستقبل، والسعادة) استراتيجية تقليدية وإن كانت غير منسّقة، تعتمد على توجيه النقد لسياسات حزب العدالة والتنمية.
حيث تحاول الأحزاب القومية والعلمانية إظهار التبايُن بين توجهات الحزب الحاكم والمبادئ الأساسية للجمهورية التركية المنصوص عليها دستوريًّا، فيما تلجأ الشريحة الأخرى من أحزاب المعارضة التي تتبنّى الأفكار الليبرالية، إلى البحث عن نقاط ضعف في مسيرة وتوجهات الحزب وتحالف الشعب الحاكم.
نجحت الحملات الدعائية خلال الانتخابات العامة الصيف الماضي في التأثير على النتائج التي حققتها التحالفات والأحزاب في الانتخابات التشريعية، من خلال التغيير النسبي في الأوزان داخل البرلمان (الجمعية الوطنية الكبرى) من واقع عدد المقاعد التي حصل عليها كل حزب، ما يكشف عن مدى ما تحقّقه الدعاية على اتجاهات التصويت، خاصة مع كثافة عدد المشاركين في الانتخابات التي وصلت إلى حوالي 54 مليون ناخب (تعادل 87%) من إجمالي 64 مليونًا، ونسبة 53% من أصوات الخارج.
وتحدّث أردوغان عن ذلك صراحة، عندما قال في خطاب أمام اتحاد غرف التجارة والبورصات التركية، في 30 مايو/ أيار 2023، إن “الدعاية الانتخابية للمعارضة لم تلبِّ طموحات شعبنا. كانت خاطئة من البداية. عليهم أن يغيروا خطابهم العنصري الاستفزازي المتشدد. رغم فوزنا بـ 5 سنوات ذهبية، فالعبء ثقيل لزيادة الاستثمارات والإنجازات، واتخاذ كل الخطوات للحدّ من التضخم وحماية المواطنين من ارتفاع هذه الأسعار”.
تضليل ومحظورات
لا تخلو الانتخابات الدعائية التركية من عمليات التضليل وترويج المعلومات غير الدقيقة، عبر العناصر الموالية للأحزاب على مواقع التواصل، خاصة فيما يتعلق بالتلاعب بحجم الحشود المشاركة في المؤتمرات الانتخابية، رغم التشريعات التي تجرّم التغرير بالرأي العام، من خلال نشر المعلومات المغلوطة والأخبار الكاذبة، ومعاقبة المتورطين بالسجن.
وفيما يحقّ للمرشحين “استخدام وسائل الدعاية والإعلان المكتوبة والمرئية في الشوارع وعلى شبكة الإنترنت خلال الفترة المقررة”، يحظَر عليهم عقد مؤتمرات انتخابية وإلقاء خطابات جماهيرية في الطرقات والأبنية العامة وأماكن العبادة والميادين عمومًا، باستثناء تلك التي حددتها لجان الانتخابات المحلية، على ألا يُسمح مطلقًا بتنظيم هذه الفعاليات في الأماكن المفتوحة بعد غروب الشمس بساعتَين وحتى شروقها.
و”يُحظر على البلديات المحلية والهيئات التي تتلقى تمويلًا من الدولة وكل الدوائر والمؤسسات الحكومية أن تنظم مراسم احتفال لافتتاح مشاريع، أو أن يُلقي مسؤولون حكوميون خطابات عامة بهذا الصدد خلال الفترة من بدء الدعاية الانتخابية حتى اليوم التالي للتصويت، كما يُحظر، خلال الفترة ذاتها، على الوزراء والنواب البرلمانيين استخدام السيارات وعربات الخدمات التي توفرها لهم الدولة بغرض الدعاية للأحزاب والكيانات السياسية التي ينتمون إليها”.
في السياق نفسه، “يُحظر على الأطراف المنخرطة في العملية الانتخابية من أحزاب ومرشحين توزيع هدايا على المواطنين، ويستثنى من ذلك المنشورات الورقية والكتيبات والملصقات والأقراص المدمجة التي تحتوي على دعاية مسموعة أو مرئية، على ألا يقل عمر من يوزعون هذه الوسائط عن 18 عامًا” خلال الانتخابات التي سيتم الإدلاء بالأصوات فيها يوم 31 مارس/ آذار المقبل، بداية من الساعة السابعة مساءً حتى الرابعة عصرًا، على أن يبدأ فرز الأصوات الساعة الخامسة مساءً.
ويبقى أن المعارضة تحاول توظيف ملف الاقتصاد كمعيار رئيسي يصوّت على أساسه الناخب التركي، كما تدرك أن الخدمات البلدية هي المعيار الثاني في الحصول على الأصوات خلال الانتخابات البلدية، ومن ثم ستحاول تقديم نفسها كبديل قادر على مواجهة الأزمات الاقتصادية والخدمية، مع الاستفادة من بعض الثغرات الحكومية في إعادة إنتاج خطاب سياسي دعائي يمدّ الجسور مع الناخبين، وسط تنافس معظم البرامج خلال الحملات الانتخابية على إقناع الناخبين نظريًّا، تاركة القناعة العملية لما بعد الانتخابات.
بدوره، يتبنّى التحالف الحاكم تكتيكات احترافية يحاول من خلالها حسم المعركة المتبقية في ماراثون الانتخابات، متبنيًا الطريقة التي خاض بها الانتخابات البلدية عام 2019، عبر المنافسة على معظم المقاعد في المدن الكبرى للعدالة والتنمية، تاركًا بعض المقاعد المهمة لحليفه حزب الحركة القومية، مع توزيع المجهود الانتخابي على مستوى الدوائر، لكنه سيراعي هذه المرة ألا يؤثر الملف الاقتصادي على النتائج، من خلال تذكير الناخبين عبر الحملات الدعائية بما تحقق من إنجازات في ملفات أخرى.