بعد أكثر من 48 ساعة على مقتل وجرح عدد من المدنيين في عملية دهس بمدينة نيويورك الأمريكية، تبنى تنظيم الدولة الإسلامية رسميًا عبر صحيفة “النبأ” هجوم “مانهاتن” الذي نفذه أحد أعضاء الدولة الإسلامية، أسابيع قليلة إثر مجزرة “لاس فيغاس” التي أعلن التنظيم تبنيه لها.
تبني تنظيم الدولة المتأخر للعملية التي استهدفت قلب العاصمة الاقتصادية الأمريكية الأشد تحصينًا في العالم منذ أحداث 11 من سبتمبر 2001، أعاد طرح موضوع الاستراتيجية الإعلامية لتنظيم الدولة في تبني عملياته داخل مناطق نفوذه وخارجها، وسر عدم تبني عدد من العمليات التي تحمل بصماته.
ساعات قليلة بعد نشر صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية مقالًا تحليليًا عن أسباب امتناع تنظيم الدولة الإسلامية عن تبني عملية مانهاتن وسر تأخر ذلك، اختارت صحيفة “النبأ” إعادة خلط الأوراق من جديد في حركة يصعب فهمها وتحليلها بعيدًا عن فهم الماكينة الدعائية للجهاديين واستراتيجيتهم في إدارة الحرب النفسية.
كثيرة هي النقاط المثيرة للاستغراب في طريقة تبني تنظيم الدولة لهجوم “مانهاتن” وتوقيتها، ولكن تبقى الجرأة في تبني عملية تم إلقاء القبض على منفذها والتحقيق معه أمرًا يدفعنا للتساؤل: “هل ورط تنظيم الدولة سيف الله سايبوف بتبني العملية رسميًا أم أنه انتظر اعتراف الأخير بعمله لصالحه حتى يبرئ ذمته ويحقق انتصارًا معنويًا طال انتظاره خاصة بعد هزائمه المتتالية في العراق وسوريا”؟
من الصعب ترجيح إحدى الروايتين، ولكن من السهل الجمع بينهما، فالمؤكد أن تنظيم الدولة الإسلامية ورط سيف الله سايبوف الذي قال إنه “أحد جنوده” أمام القضاء الأمريكي الذي سينزل به أشد العقوبات مستقبلًا، كما أنه حقق نصرًا معنويًا كبيرًا من خلال تبني العملية التي اعترف سايبوف نفسه بتنفيذها لصالح التنظيم الجهادي.
“سيف الله سايبوف” منفذ عملية الدهس
المهاجر الأوزبكي سيف الله سايبوف قال للمحققين لدى استجوابه في المستشفى حيث يُعالج من إصابته بالرصاص في بطنه لدى توقيفه، إنه استلهم هجومه من شريط فيديو نشره تنظيم الدولة، وبدأ التخطيط له قبل نحو عام مشيرًا إلى أنه قرر قبل شهرين تقريبًا تنفيذ الهجوم بواسطة شاحنة من أجل أن يوقع أكبر عدد ممكن من الضحايا.
سايبوف اعترف كذلك بأنه استأجر الشاحنة منذ 22 من أكتوبر الماضي كي يتسنى له الوقت للتمرن على الهجوم، وقد اختار أن يكون الهجوم في 31 من الشهر نفسه لأنه يوم الاحتفال بعيد “الهالوين” وبذلك يكون واثقًا من وجود الكثير من الناس في الشوارع، وفق قوله.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل المثير للانتباه في لائحة الاتهام الموجهة ضد منفذ العملية، سؤاله خلال التحقيق معه ما إذا كان بإمكانه أن يرفع في غرفته في المستشفى علم تنظيم الدولة الإسلامية، واعترافه بأنه راضٍ عما فعله، وهو ما يدفعنا للتساؤل عن مدى تحقيق الآلة الدعائية لتنظيم الدولة لأهدافها المرسومة منذ إعلان تمدد التنظيم للداخل السوري في العام 2013.
يسعى تنظيم الدولة الإسلامية جاهدًا للحفاظ على أمن “ذئابه المنفردة” وخلاياه النائمة خارج مناطق سيطرته، لأنه يعلم أن سقوطًا واحدًا قد يؤدي إلى إفشال عمليات كبيرة تم التخطيط لها بدقة طيلة أشهر طويلة
في مناسبات عديدة نفذ جهاديون هجمات دموية في مناطق متفرقة من العالم، لكن ورغم توجيه أصابع الاتهام لتنظيم الدولة، فإن الأخير فاجأ الجميع بعدم تبنيها، على غرار الهجوم على المعبد اليهودي في بروكسل عاصمة بلجيكا عام 2014 والذي أودى بحياة 4 أشخاص، وكذلك الهجوم على قطار ثاليس عام 2015 والذي أدى إلى إصابة 3 أشخاص.
هذان الهجومان ليسا الوحيدين الذين أشار المحققون إلى ارتباطهما بتنظيم الدولة رغم عدم تبنيه لهما، إلا أنهما دليل على أن التنظيم لا يتبنى أي هجوم يحدث في العالم مهما كان حجمه، وإنما يضع شروطًا لذلك من بينها التنسيق بين “الذئب المنفرد” أو “الانغماسيين”، والقيادة المركزية في “دولة الخلافة” حتى يكون هناك توجيهات دقيقة لتنفيذ هذه العمليات.
في بعض الأحيان يختار تنظيم الدولة الإعلان المباشر عن العمليات بعد ساعات قليلة من تنفيذها، على غرار ما حدث في فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة الأمريكية ولاس فيغاس وألمانيا وإيطاليا، بعد استيفاء الشروط، وعلى رأسها تأمين المهاجم إن كان حيًا أو الاطمئنان على أن خطوط الإمداد والخلايا النائمة في أمان بعد العملية، دون أن ننسى التأكد من مقتل المهاجمين وعدم وقوعهم في الأسر.
هجمات كثيرة لم يقدم فيها تنظيم الدولة أدلة كافية على وقوفه ورائها وأكثرها غموضًا وإثارة للجدل مجزرة لاس فيغاس، إلا أن عدم تبنيه لحوادث أخرى هزت الرأي العام الدولي على غرار اغتيال السفير الروسي بأنقرة في شهر ديسمبر الماضي
يسعى تنظيم الدولة الإسلامية جاهدًا للحفاظ على أمن “ذئابه المنفردة” وخلاياه النائمة خارج مناطق سيطرته، لأنه يعلم أن سقوطًا واحدًا قد يؤدي إلى إفشال عمليات كبيرة تم التخطيط لها بدقة طيلة أشهر طويلة، لهذا فهو لا يتسرع في تبني الهجمات إلا بعد التأكد من كون المنفذ “أحد جنوده” ممن “استجاب لنداءات استهداف التحالف الصليبي”، مثلما ورد في العديد من البيانات التي نشرتها قنواته الرسمية إبان تبني كل عملية.
خلال هجوم “لاس فيغاس” الأخير الذي نفذه أمريكي أبًا عن جد أسلم مؤخرًا وفق رواية تنظيم الدولة، شكك عدد من المراقبين في حقيقة أن يكون ستيفن باكوك الذي أطلق عليه التنظيم كنية “أبو عبد البر الأمريكي” أحد “الذئاب المنفردة” لكون الأخير مسيحيًا ولم يُعرف عنه إسلامه قبل، إلا أن آخرين أكدوا أن تنظيم الدولة الإسلامية لا يمكن أن يتبنى أي عملية إلا وله عليها أكثر من دليل.
صحيح أن هجمات كثيرة لم يقدم فيها تنظيم الدولة أدلة كافية على وقوفه ورائها وأكثرها غموضًا وإثارة للجدل مجزرة لاس فيغاس، إلا أن عدم تبنيه لحوادث أخرى هزت الرأي العام الدولي على غرار اغتيال السفير الروسي بأنقرة في شهر ديسمبر الماضي، تكشف أن الأخير لا يتبنى أي هجمات إلا إذا كان منفذوها على علاقة مباشرة به حتى وإن كانت مجرد حادثة عادية لم “تثخن” في العدو ولم تحقق “الرُعب” المرجو وفق عقيدة الجهاديين.