كلما هممت بأن أودع أحد الضيوف بعد انقضاء فترة الزيارة وتأهبت لمغادرة مكان جمعني بمن طابت رفقتهم، تملكني شعور بالضيق ورغبة ملحة في البكاء.
يجتاحني ذاك الشعور فيقلب أُنسي حزنًا وينسيني لحظات غير بعيدة من الفرح والغبطة، لحظات كثيرًا ما أحتاجها في أوقات الوحدة والأرق، لست أعلم تحديدًا ما إذا كان تفسير ما يحدث لي هو هاجس الشعور بالوحدة والغربة أم عدم تقبلي لفكرة الوداع ولأفكار مشابهة كأن يكون لكل شيء أجلاً وعمرًا وأن لكل مرحلة نهاية.
أتذكر جيدًا حالة الاكتئاب التي تصيبني مع اقتراب العام الدراسي من نهايته، غالبًا ما ينهكني التفكير في حصاد العام: هل استثمرت جهدي ووقتي لأحقق إنجازًا يُذكر أم أنني أضعت فرصًا عديدة بأن أطور من ذاتي وأصقل مهاراتي؟ وكثيرًا ما ألجأ لاستعراض شريط الأحداث والمواقف التي مررت بها بحلوها ومرها رغبة في استخلاص العبر وأملاً في أن أنجز الأفضل مستقبلاً.
قد يكون المخاض أمرًا لا بد منه مع بلوغ كل مرحلة نهايتها، إلا أن تبعاته تتجاوز الألم الجسدي إلى تبعات نفسية تتفاوت حسب المرحلة
فكما يشاع عن اكتئاب ما بعد الولادة الذي يصيب النساء رغم استقبالهن لمولود طال انتظاره، فإن انتهاء فترة الحمل تخلف لديهن عوارض اكتئاب حادة وشعور بالضيق قد لا يفسره تزامن ذلك مع مظاهر الفرح والاحتفاء والظفر بقرة العين، فتحدثت الدراسات عن أعراض عديدة لعل أهمها الشعور المستمر بالحزن وتعكر المزاج بالإضافة إلى فقدان الإحساس بالمتعة وقلة الاهتمام بالعالم الخارجي وفتور الهمة والشعور بالتعب طوال الوقت إلى جانب ضعف عاطفة الأم تجاه مولودها وعدم التعلق به بصورة كافية.
كذلك هو الحال عندما نودع شخصًا أو فترة ما أو مكان أخذ حيز من تفكيرنا واهتمامنا، فمرحلة طي الصفحة هي ذاتها مرحلة المخاض المصاحب للتشنج الذي يعقب الانتقال من مرحلة إلى أخرى سواء كان الانتقال نحو الأفضل أو العكس.
ولكي لا أترك الأمر يتحول إلى فوبيا من نوع الخوف من الاكتئاب المصاحب للوداع، فإنني سرعان ما ألجأ لأشغل نفسي بتجربة جديدة أو بفكرة جديدة لكي لا أدع الأفكار تسحبني نحو مربع القلق والضغط ومن ثم التوجس، فالحياة لا تتوقف على أحد وهي مستمرة فلا داعي للتعلق بأشياء وأشخاص بإفراط، فقد ينهكنا غيابهم عنا.
فليكن اكتئاب ما بعد الوداع كدموع الفرح التي سرعان ما تخلصنا من غيمة القلق وتمنحنا رؤية أوضح لما هو جديد
كما أنني أنهمك في التركيز على الجوانب الإيجابية من كل تجربة عشتها وأفكر في الانطلاق بروح متشوقة للمزيد من المفاجآت والتحديات فالأسوأ دائمًا ألا نبرح مكاننا أو أن نعتكف بنفس المكان مع عدم تغيير المعطيات إزاء دخولنا المستمر في أطوار جديدة نظرًا لتغير نسق الحياة المتسارع، فالأمر شبيه بأن نكتفي بصديق وحيد معتقدين أننا لن نفقده فيصيبنا الاكتئاب عندما ينسحب من حياتنا.
ولو أننا وسعنا شبكة علاقاتنا وأوجدنا البدائل وقبلنا فكرة إنشاء صداقات جديدة لما مررنا بحالة التخبط ومن ثم الاكتئاب تلك أو على الأقل لكانت حالة عابرة، لنا القدرة الكافية على تجاوزها. فليكن اكتئاب ما بعد الوداع كدموع الفرح التي سرعان ما تخلصنا من غيمة القلق وتمنحنا رؤية أوضح لما هو جديد.