يبدو أن الوقت الذي تتسابق فيه الدول العربية –على رأسها السعودية- لصنع علاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وفتح قنوات التطبيع معها، أصبح مناسبًا لإعادة قضية نقل السفارة الأمريكية لدى دولة الاحتلال من تل أبيب إلى القدس المحتلة، إلى الواجهة مجددًا.
وكيف لا يكون كذلك وأبرز الدول العربية -التي كان يعتبر فيها أي علاقة مع الكيان المحتل جريمة لا تغتفر- أصبحت تبارك التطبيع مع “إسرائيل” وليس لديها مشكلة مع وجودها في خاصرة الوطن العربي، ولم تعد تهدد هذه الأنظمة وجودها، بل إن المقاومة الفلسطينية أصبحت إرهابًا وجب تقليم أظافره وكسر أنيابه أو القضاء عليه وعلى داعميه من الأساس.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يريد أن يفي بوعوده التي قطعها على نفسه منذ بداية حملته الانتخابية، بنقل سفارة دولته في “إسرائيل” من تل أبيب إلى القدس المحتلة، معلنها بذلك صراحة أن القدس كلها لدولة “إسرائيل” خالصة وليس للفلسطينيين حق فيها.
مؤخرًا، نقلت هيئة البث الإسرائيلي عن مصدر رفيع المستوى في الحكومة الإسرائيلية الأربعاء الماضي قوله بأنه خلال الأيام القريبة القادمة ستعترف واشنطن بالقدس عاصمة لدولة “إسرائيل”، وسوف تقوم الولايات المتحدة بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس المحتلة.
قال مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي، إن الرئيس ترامب يدرس بنشاط “متى وكيف” تنقل السفارة الأمريكية في “إسرائيل” إلى القدس
هذا التصريحات والتي نشرت على موقع الهيئة، جاءت بعد اجتماع وزير المواصلات الإسرائيلي يسرائيل كاتس، الأسبوع الماضي في البيت الأبيض، مع الموفد الأمريكي لعملية السلام جيسون غرينبلات، وبحث معه مسألة نقل السفارة الأمريكية، ووضع مدينة القدس، وملفات التعاون الإقليمي مع الدول العربية في المنطقة.
إضافة لذلك، وفي الوقت نفسه، قال مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي، إن الرئيس ترامب يدرس بنشاط “متى وكيف” تنقل السفارة الأمريكية في “إسرائيل” إلى القدس. حيث جاءت تصريحات بنس، خلال لقائه ببعثة “إسرائيل” لدى الأمم المتحدة أثناء احتفال بالذكرى السبعين لتصويت الأمم المتحدة على إقامة دولة يهودية. إلا أن البيت الأبيض علق على ذلك بالقول إن “الأمر سابق لأوانه، ولا يوجد شيء لإعلانه في هذا الإطار”.
هذه الأخبار والتصريحات المتضاربة، لم تلبث ساعات، حتى خرجت تصريحات للملك عبد الله الثاني من واشنطن، نقلتها وكالة الأنباء الأردنية “بترا”، حذر فيها العاهل الأردني من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، قائلاً بأنه سيكون لذلك تداعيات كبيرة على الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية إذا ما تم نقل السفارة، وذلك خلال سلسلة لقاءات مع مسؤولين كبار في الكونغرس الأمريكي، يوم الأربعاء.
وقال الملك الذي جاءت تصريحاته بمثابة جرس إنذار ونداء تحذير في هذا الوقت الحساس، إن “نقل السفارة لا بد أن يأتي ضمن إطار حل شمولي يحقق إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية تعيش بأمان وسلام إلى جانب إسرائيل”. الملك شدد خلال زيارته لواشنطن ولقائه برئيس مجلس النواب بول ريان، وأعضاء عدة لجان رئيسية في الكونغرس، على أنه “لا بديل عن حل الدولتين.. الذي يحقق العدالة والحرية والاستقرار”.
أحد أسباب تردد الإدارة الأمريكية في حسمها لهذا القرار، هي أنها ستناقض التزامها باتفاقية أوسلو لعام 1993، حيث تبقى قضية القدس إحدى القضايا الرئيسية الخمس الواجب تسويتها في مفاوضات السلام النهائية بين الإسرائيليين والفلسطينيين
وكان وزيران إسرائيليان أعربا عن أملهما الأسبوع الماضي في أن يضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حدا لما وصفاه بـ”الوضع السخيف” لمسألة نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس المحتلة، لتحقيق الوعد الذي قطعه على نفسه خلال الانتخابات. حيث كان ترامب تعهد خلال حملته الانتخابية، بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ولكنه وقّع في يونيو/ حزيران الماضي، أمرًا مؤقتًا لإبقاء السفارة الأمريكية في تل أبيب.
لماذا هذا التضارب والتردد الأمريكي في حسم الأمر؟
منذ استيلاء دولة الاحتلال الإسرائيلي على أجزاء من مدينة القدس في أعقاب حرب العام 1948، وما تلاها من القدس الشرقية في حرب العام 1967، لم تحظَ أي من عمليتي الاستيلاء العسكريتين للمدينة المقدسة بأي اعتراف دولي. إلا أن الكونغرس الأمريكي تبنى عام 1995 قانوناً جدليًا أطلق عليه “قانون سفارة القدس”، والذي يعترف صراحة بالقدس عاصمة أبدية لدولة “إسرائيل”، غير قابلة للتقسيم.
ولكن وبالرغم من تبني هذا القانون، إلا أن كل إدارة أمريكية منذ ذلك الحين -سواء أكانت ديمقراطية أم جمهورية- ظلّت تؤجل تطبيق هذا القانون الذي يمرر للرئيس كل 6 أشهر للتوقيع عليه، بحجة أن ذلك سيضر بمصالح الأمن القومي الأمريكي، وأن الوقت لم يحن بعد لنقل السفارة.
ترامب، والذي كان أحد أسباب رفع أسهمه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام الماضي، هو وعده للساسة الإسرائيليين بأنه سينقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية للقدس، وسيعترف بالمدينة المقدسة عاصمة لدولة “إسرائيل”، سيناقض السياسة الأمريكية القديمة التي تعتبر القدس مدينةً محتلة كجزءٍ من قرار التقسيم التي اتخذته الأمم المتحدة عام 1947 لجعل القدس منطقةً دولية وإبقائها مفتوحةً أمام الأديان السماوية الثلاث.
أكدت موغيريني حينها أن الاتحاد الأوروبي سيعمل على الإبقاء على بعثته في تل أبيب والاستمرار في احترام قرارات الأمم المتحدة التي تعارض ضم “إسرائيل” للقدس الشرقية التي يريدها الفلسطينيون عاصمة لدولتهم في المستقبل
كما أن أحد أسباب تردد الإدارة الأمريكية في حسمها لهذا القرار، هي أنها ستناقض التزامها باتفاقية أوسلو لعام 1993، حيث تبقى قضية القدس إحدى القضايا الرئيسية الخمس الواجب تسويتها في مفاوضات السلام النهائية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فالاعتراف الأمريكي بالقدس كعاصمة غير مقسمة لـ”إسرائيل” من شأنه تقويض هذا الالتزام والحد من اندفاع “إسرائيل” لناحية سعيها إلى تسوية هذه القضية بشكل سلمي، وكذلك إعطاء الفلسطينيين حجة قوية للتصعيد ضد الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وتهديد مصالحها هناك، وهذا ما تخشاه الإدارة الأمريكية.
ويقول خبراء ومحللون أن هذه الخطوة ستوسع الهوة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، فبعد انتهاء مؤتمر السلام في الشرق الأوسط في باريس في يونيو/حزيران عام 2016، أعربت فيديريكا موغيريني، رئيسة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي عن قلقها من أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس سيكون له “عواقب وخيمة”، ونصحت إدارة ترامب بعدم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وقالت إنها “قلقة” من أن يثير ذلك غضبًا شعبيًا في أنحاء العالم، ويعطي فرصة لتهديد أمريكا و”إسرائيل” من “الأعمال الإرهابية”.
وأكدت موغيريني حينها أن الاتحاد الأوروبي سيعمل على الإبقاء على بعثته في تل أبيب والاستمرار في احترام قرارات الأمم المتحدة التي تعارض ضم “إسرائيل” للقدس الشرقية التي يريدها الفلسطينيون عاصمة لدولتهم في المستقبل.
اليوم أصبحت جلّ هذه الدول لا تُخشى، ولا يمكن أن تقف “حجر عثرة” في طريق اعتراف واشنطن بالقدس كعاصمة لدولة “إسرائيل”، خصيصًا بعد التغييرات الجوهرية الكبيرة التي باتت تحدث في الخليج العربي على رأسه السعودية
كما أعلنت موغيرينى خلال مؤتمر صحفي بعيد مؤتمر باريس حينها أن تلك الخطوة من شأنها أن تؤدي إلى عزل الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية نظرًا لأنها لا تتماشى مع الإجماع الدولي الذي نص عليه قرار مجلس الأمن رقم 478/1980، والذي يعارض ضم “إسرائيل” للقدس الشرقية كجزء من “عاصمة موحدة”.
لكن هذا كلّه، يقابله دعم وتوافق “عربي – إسرائيلي – أمريكي”، فإذا كانت دولة الاحتلال والإدارة الأمريكية إلى جانبها في السابق تخشى من أن هذه الخطوة ستؤدي إلى تراجع الدعم من قبل الأنظمة العربية المؤيدة للأمريكيين على غرار الأردن والسعودية والإمارات والمغرب ومصر وغيرها -وهي دول تحتاجها الولايات المتحدة كحلفاءٍ لها في حربها ضد “الإرهاب”- اليوم أصبحت جلّ هذه الدول لا تُخشى، ولا يمكن أن تقف “حجر عثرة” في طريق اعتراف واشنطن بالقدس كعاصمة لدولة “إسرائيل”، خصيصًا بعد التغييرات الجوهرية الكبيرة التي باتت تحدث في الخليج العربي على رأسه السعودية.
فولي العهد السعودي والملك القادم محمد بن سلمان زار دولة الاحتلال سرًا، والتقى مسؤولين إسرائيليين أكثر من مرة، بحسب ما نقلت صحف عبرية وأمريكية، وهو اليوم ينفتح تمامًا على العلاقات مع الإسرائيليين، مدعومًا بمحمد بن زايد الحاكم الفعلي لدولة الإمارات، والذي بات يهندس للأمير السعودي الصغير سياسات السعودية الجديدة في المنطقة.
لماذا ترفض الأردن نقل السفارة وتخشى التقارب السعودي الإسرائيلي؟
هذا التحول الكبير في السياسة السعودية، والدعوات الصريحة -التي باتت تروج في أرجاء دول الخليج العربي خاصة والدول العربية الأخرى عامة- للتطبيع مع دولة الاحتلال والاعتراف بها علانية واعتبارها دولة صديقة وحليفة، تعطي الإدارة الأمريكية دفعة قوية بتشجيع إسرائيلي وحث مستمر لنقل السفارة إلى القدس المحتلة.
لكن يبدو أن الأردن، تلك الدولة الصغيرة في المنطقة والمحورية في نفس الوقت، والشريك الأساسي في عملية السلام مع “إسرائيل” وحليف الولايات المتحدة الأهم في المنطقة، تقف في وجه هذا المشروع وتحذّر منه علانية، ومن قلب واشنطن.
الموقف الأردني الرسمي الغاضب من الانفتاح السعودي على “إسرائيل” بات واضحًا وجليًا، فهو انفتاح غير معقول ومتهور، ربما يقود المنطقة إلى انفجار كبير سيكون الأردن أول المتضررين منه
فبالرغم من انفتاح الأردن بعد مصر على دولة الاحتلال مبكرًا، وبالرغم من كل العلاقات التطبيعية مع تل أبيب وقيامه بدور الوسيط أو “حلقة الوصل” بين دول الخليج و”إسرائيل” طيلة السنوات الماضية، إلا أن هذا الأمر يدمر المنطقة برمّتها ويعرضها للخطر المحدق كما يرى ذلك ملك الأردن، ويلغي في الوقت نفسه أي شرعية للأردن في المدينة المقدسة، وهي التي تعتبر الوصي على المقدسات فيها، وهي الحامية أو الرادعة -نوعًا ما- للتغول الإسرائيلي المجنون والمتسارع في تهويد المدينة المحتلة.
إضافة إلى ذلك، فالأردن تعتبر من أكبر الحاضنات للجوء الفلسطيني في المنطقة، إذ يعتبر نصف الأردنيين أو يزيد من أصول فلسطينية، والذين يقطن جلّهم في مخيمات لجوء كبيرة على أطراف العاصمة عمّان وبعض المحافظات. وهذا يعني أن هذه القاعدة الشعبية معرضة للانفجار في أي لحظة إذا ما تم التنازل بسهولة عن القدس والتسليم باعتبارها عاصمة أبدية وموحّدة لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
هل تتجاوز المملكة العربية السعودية الأردن وتحذيراته المتصاعدة، وتدفع الإدارة الأمريكية إلى الشجاعة في نقل سفارتها للقدس المحتلة والاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة موحدة لدولة “إسرائيل”؟
الموقف الأردني الرسمي الغاضب من الانفتاح السعودي على “إسرائيل” بات واضحًا وجليًا، فهو انفتاح غير معقول ومتهور، ربما يقود المنطقة إلى انفجار كبير سيكون الأردن أول المتضررين منه، فكما نشر الموقع البريطاني “ميدل إيست آي” قبل نحو أسبوعين، بأن الأردن منزعج جداً من التقارب السعودي الإسرائيلي الكبير مؤخرًا، والذي بات يتجاهل الأردن ويهمشها بشكل واضح، حيث نقل الموقع عن أحد المسؤولين الكبار المقربين من الديوان الملكي في عمّان قوله أن المملكة العربية السعودية باتت تتخطى الأردن في اندفاعها المتهور نحو تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” وتقديم تنازلات بحق اللاجئين الفلسطينيين والقدس، الأمر الذي يعرض استقرار المملكة الهاشمية للخطر ويقوض من مكانتها كوصية على الأماكن المقدسة في القدس المحتلة”.
وقال الموقع في مقال كتبه ديفيد هيرست رئيس تحريره، إن أجراس الإنذار في عمّان انطلقت بعد تسريبات شبه رسمية تقول بأن المملكة العربية السعودية باتت على استعداد للتنازل عن حق العودة للفلسطينيين في مقابل وضع القدس تحت سيادة دولية كجزء من اتفاقية سلام في الشرق الأوسط والتي من شأنها أن تسهل إنشاء تحالف سعودي إسرائيلي لمواجهة إيران.
فهل تتجاوز المملكة العربية السعودية الأردن وتحذيراته المتصاعدة، وتدفع الإدارة الأمريكية إلى الشجاعة في نقل سفارتها للقدس المحتلة والاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة موحدة لدولة “إسرائيل”؟ بحيث تقدم الرياض نفسها كضامن للحكومات العربية واحتمالات رفضها لهذا المشروع الأمريكي، وضامن أيضًا لأي ردة فعل سلبية أو غاضبة في المنطقة العربية على وجه العموم من المشروع الأخطر، سواء بالترغيب أو بالترهيب.