لم يثني انشغال البحارة العثمانيين بمحاربة الإسبان وفتح تونس والجزائر والتمكين للمسلمين هناك بداية القرن السادس عشر، عن الاستجابة للاستغاثات التي وجهها سكان ليبيا لهم، ومحاربة فرسان القديس يوحنا المالطيين وتحرير طرابلس الغرب منهم، لتبدأ ليبيا معهم عهداً جديداً تحت الحكم العثماني دام أكثر من 3 قرون شهدت فيها البلاد فترات هامة تراوحت بين الازدهار والتراجع.
بداية الفتح العثماني
سنة 1551، استنجد سكان طرابلس بالعثمانيين، وناشدوا الدولة العلية باعتبارها دولة الخلافة الإسلامية، الدخول إلى طرابلس وإخراج فرسان القديس يوحنا، فلبّ العثمانيون النداء وحاصر القائد العسكري درغوت باشا المدينة لمدّة ستة أيام، وفي الـ 12 من شعبان 958 هجري الموافق لـ 15 أغسطس/ اب 1551 تمكّن من فتح المدينة.
في البداية، اتّخذ القائد درغوت باشا الذي تزعّم المقاومة المتكونة من الجيش العثماني وأهالي طرابلس، من تاجوراء مقرًا للقيادة، وبعد أن تم إخراج فرسان القديس يوحنا بالكامل، أصبحت طرابلس رسميًا ولاية تابعة للدولة العثمانية تحت اسم “إيالة طرابلس الغرب“، تمييزاً عن إيالة طرابلس الشام، وعقب إصلاحات إدارية عام 1864 استبدلت الإيالة بولاية طرابلس الغرب.
إدارة الإيالة الجديدة كانت عن طريق “وال” يطلق عليه الـ “باشا” يعينه السلطان العثماني مباشرة
مع بسط العثمانيين نفوذهم على كافة أقاليم ليبيا (طرابلس وبرقة وفزان)، تشكّلت في البلاد بوادر دولة حديثة، فقبل الفتح العثماني لم يكن هناك نظام حكم مركزي في ليبيا، فلم يكن للحفصيين والأغالبة والموحدين– الا سلطة صورية على ليبيا، والحكم الفعلي بيد القبائل المنتشرة في مناطق مختلفة من البلاد.
إدارة الإيالة الجديدة كانت عن طريق “وال” يطلق عليه الـ “باشا” يعينه السلطان العثماني مباشرة، ويحظى بقبول الجيش الانكشاري، وتواصل هذا الأمر إلى غاية سنة 1711، عندما انشقّ أحد الظباط الانكشاريين يدعى أحمد باشا القره مانلي، وأقام دولة تحت راية العثمانيين و استمر حكم سلالة أحمد القره مانلي حتى عام 1835.
حكمت الأسرة القره مانلية
فسنة 1711 استولى أحمد القره مانلي الضابط في الجيش الإنكشاري على حكم ليبيا، وقد وافق السلطان على تعيينه باشا على ليبيا ومنحه قدرا كبيرا من الحكم الذاتي، ولكن القره مانليين كانوا يعتبرون حتى الشؤون الخارجية من اختصاصاتهم، وكانت ليبيا تمتلك أسطولا بحرياً قويا مكنها من أن تتمتع بمكانة دولية مهيبة وأصبحت تنعم بنوع من الاستقلال.
أسس أحمد القره مانلي أسرة حاكمة سميت بـ “القره مانلية”، ويعتبر يوسف باشا أبرز ولاة هذه الأسرة، فقد كان يوسف باشا حاكما طموحا أكد سيادة ليبيا على مياهها الإقليمية وفرض الجزية (رسوم المرور) عبر مياه البحر الأبيض المتوسط على كافة سفن الدول البحرية الأمريكية والأوروبية (بريطانيا والسويد وفرنسا وإيطاليا).
خاض يوسف باشا مواجهات بحرية مع الولايات المتحدة لبسط النفوذ والسيادة في البحر الأبيض المتوسط، وبعد صراع شديد، انتهت حرب القره نامليين مع الولايات المتحدة بتوقيع معاهدة سلام تلتزم فيها أمريكا بدفع ضرائب سنوية لباشا طرابلس، مقابل عدم التعرض لسفنها في البحر الأبيض المتوسط، بعد ذلك انفرط عقد العائلة القره مانلية، وعاد العثمانيون للحكم المباشر في طرابلس ليبدأ عهدهم الثاني.
أدخل العثمانيون في هذه الفترة التاريخية من حكمهم لليبيا التي تواصلت إلى غاية سنة 1912، تغييرات عميقة على البلاد
في سنة 1832، أرغم يوسف باشا على الاستقالة تاركا الحكم لابنه الصغير “علي” بعد ثورة شعبية ضدّه نتيجة تدهور أوضاع البلاد، وعلى الرغم من أن السلطان محمود الثاني، اعترف بعلي واليا على ليبيا فإن اهتمامه كان منصباً بصورة أكبر على كيفية المحافظة على ما تبقى من ممتلكات الدولة العثمانية خاصة بعد ضياع بلاد اليونان والجزائر 1830.
إعادة السيطرة
هذا الوضع لم يدم طويلا، فبعد 3 سنوات من تقلّد علي باشا حكم ولاية “طرابلس الغرب”، قرر السلطان التدخل مباشرة وأعاد سلطته وحكمه على ليبيا، ففي 26 مايو 1835 وصل الأسطول التركي طرابلس وألقى القبض على “علي باشا” ونقل إلى تركيا، وانتهى بذلك حكم القره مانليين في ليبيا.
أدخل العثمانيون في هذه الفترة التاريخية من حكمهم لليبيا التي تواصلت إلى غاية سنة 1912، تغييرات عميقة على البلاد، بعد أن احكموا سيطرتهم على المنطقة وأقاموا حكومة في طرابلس تابعة للسلطان العثماني. كما أدخلوا ما يعرف بالتنظيمات وهي مجموعة اصلاحات ادارية واقتصادية.
عمد العثمانيون الى ترسيخ سلطتهم المركزية على مجموع التراب الليبي وشجعوا توطين البدو، وعملوا على تنمية المدن والزراعة. كما أحيوا تجارة القوافل عبر الصحراء التي ازدهرت كثيرا في ليبيا بعدما تم الغاء نظام الرق، وشجع العثمانيون أيضا التعليم في البلاد وعملوا على تكوين نخب ليبية متعلمة وفق النموذج السياسي والثقافي في إسطنبول.