استحوذت مجموعة دامير أوران على وسائل الإعلام التابعة لمجموعة دوغان الإعلامية، ذات الصبغة المعارضة للحكومة التركية، بواقع صفقة بلغت مليار ومئة مليون دولار، مما دفع عدد من المهتمين بالشأن التركي إلى طرح تساؤل مفاده: “وجهة الإعلام التركي إلى أين؟”.
قبل الخوض في تأثير هذه الصفقة على الوضع التركي السياسي والإعلامي، يجدر بنا التعرف على أهمية الإعلام بالنسبة لأي نظام سياسي، يوضح هذه النقطة عالم الاجتماع إدوارد شيلز الذي يُشير إلى أن المجتمع البشري يتألف من عنصرين أساسيين، هما:
ـ المركز المؤسساتي: يُطلق عليه في عصرنا الحاليّ “الدولة”، وهو الذي يصدر القرارات السياسية والاقتصادية، ويحدد القيم والاعتقادات الثقافية، ويوجه المجتمع وفقًا لتلك القرارات والقيم التي تكون بالعادة مقتبسة أو قريبة من قيّم مركزية تقبلها عامة المجتمع.
ـ المحيط أو “القطيع”: ويعني عامة المجتمع التي تسير وفقًا لتوجيهات المركز ومؤسساته المتنوعة التي تُدار وتُوجه من أفراد يُطلق عليهم “النخبة”.
وبحسب شيلز، فإن المركز يحصل على شرعيته من القيم المركزية التي قد تنبع من الدين أو العلم أو القيّم الوطنية، ويستند المركز في الإبقاء على شرعيته، على مؤسسات ومجموعات اقتصادية وإعلامية مرموقة، أي النخب، التي تظهره على أنه قريب من القيم المركزية للمحيط ومصالحه، حتى لا يشعر المحيط بانحراف المركز، ويتجه صوب العصيان.
غالبًا تحرص النخبة الحاكمة على توحيد شكل الاتجاهات والقيم والأفكار المُناطة بالنخبة الوظيفية التي تخاطب العامة
إذًا، تأتي النخبة، وخاصة تلك المؤسسية الإعلامية التي تخاطب الجمهور، وفقًا لنظريات الاجتماع أو الإعلام السياسي، كحلقة وصل بين صناع القرار وعامة الشعب، وتصل النخبة بتميزها الثقافي والعلمي وقدراتها السياسية والإعلامية المحترفة بين القمة والقاع، وهو يجعلها تُوصف باسم “النخبة الوظيفية” التي تصل بين النخبة التنظيمية الحاكمة والشعب، وبعكس الأنظمة الشمولية، تحتاج أنظمة الدول التي تتسم بالديمقراطية، وإن كانت نسبية، إلى “النخبة الوظيفية” بشكلٍ كبير، بحيث تحتاج للإبقاء على تأثيره في المجتمع قائمًا.
وغالبًا تحرص النخبة الحاكمة على توحيد شكل الاتجاهات والقيم والأفكار المُناطة بالنخبة الوظيفية التي تخاطب العامة، وينطلق هذا الحرص من التخوف المستمر للنخبة الحاكمة من الإفلات بزمام الأمور في المجتمع.
بالتمعن في الطرح أعلاه، يُلاحظ أن الإعلام يشكل أحد أهم أسس “النخبة الوظيفية” التي تؤدي دور الدعم والترويج الثقافي والفكري والسياسي الإقناعي للنخبة الحاكمة، وبالتالي، فكلما سيطرت النخبة الحاكمة على الإعلام، طالت واتسعت سيطرتها على الجوانب السياسية والاقتصادية والفكرية للمجتمع.
وانطلاقًا من ذلك، نستطيع التعرف على تأثير الصفقة المذكورة أعلاه على الوجه الإعلامي والسياسي لتركيا، من خلال التعرف على خريطة المجموعات الإعلامية الفاعلة في تركيا بإيجاز:
1ـ مجموعة دوغوش الإعلامية
تأسست عام 1999 وتحتضن تحت سقفها:
ـ قناة إن تي في ـ قناة كرال تي في ـ قناة كرال بوب ـ قناة سي إن بي سي ـ قناة سي إن إن ترك.
ـ إذاعة إن تي في ـ إذاعة كرال ـ إذاعة وورد راديو.
ـ مجلة روب ريبورت ـ مجلة كوندا ناست.
تُظهر مجموعة دوغوش بعضًا من الموضوعية، وأحيانًا تعترض على سياسات الحكومة، إلا أنها لا تتعرض للحكومة بمسارٍ هجومي أو انتقادي بحت، ولا تُعارض بث الحملات الانتخابية الخاصة بحزب العدالة والتنمية في أثناء الحملات الانتخابية.
2ـ شركة جينار الإعلامية
إحدى شركات مجموعة شركات جينار التجارية، تحوي وسائل الإعلام التالية:
ـ قناة شو تيفي ـ قناة كانال 1 ـ قناة يني تيفي ـ قناة شوماكس ـ قناة خبر ترك ـ وكالة خبر ترك الإخبارية ـ صحيفة خبر ترك ـ شركة جي لصناعة الأفلام.
تتميز السياسة الإعلامية لشركة جينار بالحس الليبرالي، وفيما تُقدم قناة شو تفي في أفلامًا تُعبر عن الفكر الليبرالي المعارض للتيار المحافظ الخاص بالحكومة الحاليّة، يشوب قناة وصحيفة خبر ترك إجماعٌ على أنهما داعمتان للسياسات الحكومة.
وقد تحول هذا الإجماع إلى حقيقة دامغة بعد تسرب مكالمة هاتفية بين رئيس الوزراء السابق ورئيس الجمهورية التركية الحاليّ رجب طيب أردوغان، مع نائب رئيس مجموعة جينار محمد فاتح سراج، مطلع عام 2014، يطالب فيها سراج بعدم نقل كلمة لزعيم حزب الحركة القومية، دولت باهجلي، عن “عملية السلام” بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني.
3ـ مجموعة توركواز الإعلامية
تعود ملكية المجموعة إلى عائلة كاليونجو التجارية الأقرب لشخص الرئيس رجب طيب أردوغان، صاحبها هو حسن كاليونجو الذي رافق نجم الدين أربكان، ومن ثم أردوغان في مشوارهما السياسي، وتملك توركواز الوسائل الإعلامية التالية:
ـ قناة يني عصر ـ قناة أ تيفي ـ قناة أ خبر ـ قناة أ أوروبا ـ قناة ميني كا.
ـ صحيفة صباح ـ صحيفة تقويم ـ صحيفة يني عصر ـ صحيفة أوروبا.
ـ إذاعة كانال تورك ـ إذاعة بورج إف إم.
فضلًا عن عدد من المواقع الإلكترونية الاجتماعية والتجارية والترفيهية، كفوتو ماتش وصباح أملاك وسفرة، وغيره.
4ـ مجموعة البيرك الإعلامية
قبل تأسيس مجموعة البيرك الإعلامية، دخلت مجموعة شركات البيرك التجارية المجال الإعلامي عام 1997، بعد شرائها صحيفة يني شفق وفي عام 2013، أُسست مجموعة البيرك الإعلامية لتضم تحت ظلها بعض وسائل الإعلام:
5ـ قناة تي في نت
ـ صحيفة يني شفق ـ صحيقة جازيتا.
ـ مجلة نيهاييت ـ مجلة دارين تاريخ ـ مجلة لقمة ـ مجلة دارين إيكونومي ـ مجلة جنس “نوع” ـ مجلة غارتشيك حياة ـ مجلة سكاي روود ـ مجلة بيلغا تشوجوك ـ مجلة بيلغا مينيك ـ مجلة دار غيليك.
وبتتبع سياستها التحريرية ومسيرتها التاريخية في الإعلام، نلاحظ أنها مقربة جدًا من حكومة العدالة والتنمية.
6ـ مجموعة إخلاص الإعلامية
بدأت نشاطها الإعلامي عبر صحيفة تركيا التي نشرت عددها الأول عام 1970، ومع مرور الوقت تطوّرت حتى أصبحت تحمل اسم مجموعة إخلاص الإعلامية التي تملك:
ـ قناة تي جي أر تي خبر.
ـ صحيفة تركيا.
7ـ وكالة إخلاص للأخبار
بتتبع السياسة التحريرية والمسيرة السياسية للمجموعة، نجدها مقربة من حكومة العدالة والتنمية.
8ـ مجموعة إس ميديا “ستار” “سنجاك” الإعلامية
دُشنت عام 2013، موحدةً بعض وسائل الإعلام المقربة لحزب العدالة والتنمية:
ـ قناة 24 تي في ـ 4 تي في ـ 360 تي في.
ـ إذاعة عالم ـ إذاعة ليغ راديو.
ـ صحيفة أكشام ـ صحيفة ستار ـ صحيفة غونيش.
ـ مجلة عالم ـ مجلة بلاتين الاقتصادية.
ولا داعي للبحث طويلًا عن مدى ارتباط المجموعة بحزب العدالة والتنمية، فأحد مالكيها الأساسيين، أدهم سنجاك، أحد أعضاء لجنة اتخاذ القرارات المركزية في حزب العدالة والتنمية.
9ـ مجموعة مابا الإعلامية
مجموعة حديثة أبصرت الضوء عام 2016، تنضوي فيها عدة وسائل إعلام أُسست مسبقًا:
ـ قناة كانا 7 التي أُسست بإيعاز من زعيم حزب الرفاه نجم الدين أربكان، عام 1994، ومن ثم تحولت لقناة داعمة لحزب العدالة والتنمية، قناة أولكا.
ـ قناة أوروبا 7.
ـ إذاعة راديو 7.
ومرد هذا الدعم إلى علاقات القرابة والنسب التي تجمع رئيس مجلس إدارة القناة وأحد المساهمين الرئيسيين فيها، زكريا كرامان، مع عائلة رجب طيب أردوغان.
10ـ مجموعة شركات دوغان
مجموعة دوغان الإعلامية هي إحدى مجموعة شركات دوغان، تتميز بالتوجه العلماني الغربي الليبرالي، وكانت تعتبر المنافس الأول لوسائل الإعلام الموالية لحكومة حزب العدالة والتنمية، تضم بين ثناياها:
ـ صحيفة ميلييت ـ صحيفة حرييت ـ صحيفة حرييت دايلي نيوز ـ صحيفة بوسطة ـ صحيفة فناتيك الرياضية ـ صحيفة غوزوجو.
ـ مجلة تشيب ـ مجلة بي سي نت ـ مجلة ليفيل ـ مجلة دوغان بوردا.
ـ قناة دي ـ قناة أكوا ـ قناة أورو دي – قناة سي إن إن ترك ـ قناة درييم تي في ـ قناة درييم ترك ـ قناة دي رومانيا ـ قناة كارتون نت وورك – قناة ني بي أي تي في ـ قناة تي في ـ قناة بوميرانج.
ـ إذاعة دي ـ إذاعة فوريكس ـ إذاعة سي إن إن ترك ـ إذاعة سلوو ترك ـ إذاعة موضا.
11ـ مجموعة شركات دامير أوران
دخلت دامير أوران على خط التنافس الإعلامي عام 2011، حيث عقدت صفقة مع شركة دوغان للاستحواذ على صحيفتي وطن وميلييت، بمعنى أن صفقة دامير أوران ـ دوغان ليست الأولى من نوعها.
بعيدًا عن الإسهاب في شرح الوجهة الإعلامية المتوقعة لتركيا في المستقبل، نجد أن نسبة 70% من الإعلام “المؤثر” في صنع سياسات الرأي العالم، يوالي أو يدعم الحكومة، أو يتجنب انتقادها على الأقل
ولكن الصفقة الأخيرة كانت واسعة جدًا، بحيث شملت المجموعة الإعلامية لدوغان قاطبة، بمتابعة صحيفة وطن، نجدها ذات توجه ليبرالي مساند لسياسات الحكومة، أما ميلييت فنجدها ذات توجه علماني، لكنها صحف تساند، بشكلٍ أو بآخر، سياسات الحكومة التركية، أو بالأحرى تتجنب انتهاج سياسة إعلامية معارضة لحكومة حزب العدالة والتنمية.
والسبب في ذلك يوضحه الرابط أدناه بكل بساطة.
يُظهر هذا الرابط المنشور بتاريخ 9 من مارس/آذار 2014، اتصال رئيس الوزراء السابق ورئيس الجمهورية الحاليّ رجب طيب أردوغان، لرئيس مجموعة شركات دامير أوران، أردوغان دامير أوران، وصب غضبه الشديد عليه، نتيجة نشر صحيفة “ميلييت”، لقاء جمع بين مؤسسة حزب العمال الكردستاني إبراهيم أوجلان، وهيئة من حزب الديمقراطية والسلام “الكردي”، سلف حزب الشعوب الديمقراطية.
كانت تصريحات أوجلان حادة، الأمر الذي أزعج أردوغان بشدة، مخافة إحداث الخبر قلقلة شعبية، ووصلت حدة غضب أردوغان إلى درجة مهاتفة صاحب المجموعة، مطالبًا إياه باتخاذ إجراءات جادة ضد من نشر الخبر، وإلا فإن المجموعة ستُحرم من الامتيازات الممنوحة، التي يعدّ اصطحاب صحفيين منها إحداها، وهو الأمر الذي أسفر عن طرد رئيس تحرير صحيفة ميلييت حينذاك داريا سازاك.
بعيدًا عن الإسهاب في شرح الوجهة الإعلام المتوقعة لتركيا في المستقبل، نجد أن نسبة 70% من الإعلام “المؤثر” في صنع سياسات الرأي العالم، يوالي أو يدعم الحكومة، أو يتجنب انتقادها على الأقل، غير أنه بعد الصفقة المذكورة قد تصل هذه النسبة 90%.
ومع إضافة الإعلام القومي المتحالف حاليًّا، بشكلٍ نسبي، تصل هذه النسبة إلى 95%، وتبقى 5% من وسائل الإعلام، قنوات وصحف ومواقع، التابعة للأحزاب المعارضة أو بلدياتها أو بعض الجهات الكردية أو الأشخاص المستقلة، تُمثل التيار الإعلامي المعارض الذي لا يحسب في مصاف الإعلام “المؤثر”.
إن الإعلام هو أوكسجين رئة المجتمع التي يتنفس بها، فمن ملك له ضمن حياةً سياسيةً مؤثرةً وطويلة الأمد، والفرق كبير بين الوصول إلى الحكم وممارسته، فالوصول إلى الحكم يتم عبر الانتخابات، لكن المحافظة عليه وممارسته الفعلية تحتاجان إلى عناصر السلطة التي تتنوع بين أسس الإعلام والاقتصاد والثقافة والتعليم والعلاقات الدولية.
في الختام، يبدو أن الرئيس أردوغان ما زال يحرص على التوجه نحو تحقيق نجاحًا باهرًا في تحصين حكم حزبه بعناصر سلطة نخبوية عسكرية وإعلامية وثقافية ومجتمعية واقتصادية لهندسة الجمهور بما يخلق أرضية مواتية لإحراز ما يرنو إليه بسلاسة، وفي ذلك إشارة لمدى حنكته في إدارة العملية السياسية.
وهنا يظهر تغيّر موازين القوى الإعلامية السياسية في تركيا، بشكلٍ متسارع وشبه كامل، لصالح النخبة المحافظة “ثقافيًا ودينيًا وفكريًا سياسيًا” على حساب النخبة العلمانية “التغريبية”.