حكم الخليفة الموحدي أبى يوسف يعقوب بن يوسف المنصور بالله بلاد الموحدين 15 عامًا، وخلالها أخمد الفتن الداخلية وبلغ أراضٍ في بلاد الأندلس لم يبلغها أي خليفة قبله، وأكمل بناء الدولة وأنشأ المدن والحصون وأرسى العدل، فكان عهده الأفضل في تاريخ الموحدين، إلا أن عهد خليفته لم يكن مثله.
فما إن مات المنصور بالله حتى انتشرت الفتن الداخلية مجددًا وعمت الفوضى في البلاد، فاستغل الفرنجة ذلك وعادوا لمضايقة ملك المسلمين في الأندلس رغم الهزيمة القاسية التي تكبدوها في معركة الأرك سنة 591 هجريًا.
تسلم ابنه محمد حكم البلاد، وفي عهده بدأت دولة الموحدين في التراجع بسبب الثورات الداخلية، كما فقد المسلمون في تلك الفترة قوتهم في الأندلس حيث هزموا في معركة العقاب وتحوَّل ميزان القوى لصالح الإسبان.
سنحاول في هذا التقرير ضمن ملف “نهضة الموحدين” تتبع مسيرة أبو محمد عبد الله الملقب بالناصر، وأسباب بداية انهيار الدولة في عهده وتأثير فترة حكمه على مستقبل الدولة الأقوى في المنطقة.
خلافة مفاجئة
قبل وفاته، استخلف المنصور الموحدي ابنه عبد الله على أمل أن يَخبِر السلطة ودواليب الدولة وكيفية تسييرها ويكتسب خبرات أكثر تؤهله للحكم، إلا أن الموت فاجأ المنصور ودخل بيته دون استئذان وهو لم يتجاوز 40 ربيعًا.
لم يصدّق أغلبية الموحدين خبر وفاة الخليفة المنصور، وفيهم من قال إنه تخلى عن الملك وذهب خفية إلى الاندلس حيث يرابط في الثغور لجهاد النصارى، ومنهم من قال إنه ذهب إلى بيت الله الحرام وسكن في المدينة المنورة عند قبر الرسول محمد صل الله عليه وسلم.
وذهب فريق آخر للقول بأنه توجه إلى الأراضي المقدسة بفلسطين لمعاضدة جهود صلاح الدين الأيوبي وجهاد الصليبين هناك، إلا أن جميع المؤرخين كذبوا هذه الروايات وأكدوا موته سنة 595 هجريًا ودفنه بجوار آبائه في مدينة تينملل التي أسسها الأب الروحي للموحدين ابن تومرت وأكملها خليفته ابن عبد المؤمن.
خلفه أبو محمد عبد الله الملقب بالناصر، وكان عمره يوم ارتقاء كرسي الحكم 18 عامًا حيث إنه ولد في عام 576 هجريًا الموافق 1180 ميلاديًا، وحين تولى أمور البلاد كان أبو محمد شابًا يافعًا طموحًا إلا أنه لم يكن في كفاءة والده، وفق ما نقلته لنا كتب التاريخ.
قبل توليه الحكم لم يُعرف عن الخليفة الموحدي الجديد أي نشاط في الدولة فقد كان صغير السن، وهو ما جعله يستبد بأمور الحكم ويُبعد بعض رجال الدولة عن مجلسه ويرفض النصيحة والمشورة حتى من صديق والده أبي حفص محمد أبي حفص، إذ كان كثير الاعتداد برأيه.
مقابل ذلك، استعان الناصر لدين الله ببطانة سوء، وأبرزهم الوزير أبا سعيد بن جامع، الذي بلغ من القوة والنفوذ ما لم يبلغه أحد من وزراء الموحدين، حيث كان يتصرف بشؤون الدولة حسب رأيه الشخصي، ما سبب كثيرًا من المآسي والمحن التي أدت فيما بعد إلى إضعاف الموحدين وأنهت دولتهم لاحقًا.
كما أبعد الوزير أبو سعيد شيوخ الموحدين وأعيانهم من أصحاب النفوذ عن الخليفة من أجل الانفراد بالقرار والحكم ومحاولة الحجر على الناصر الموحدي، ونجح في ذلك إلى حد كبير، ما انعكس سلبًا على دولة الموحدين.
بنو غانية على الواجهة
ورث الناصر عن أبيه إمبراطورية قوية ممتدة الأطراف تشمل المغرب والجزائر وتونس وغرب ليبيا فضلًا عن بلاد الأندلس، إلا أن وفاة المنصور المفاجئة حركت أطماع الطامعين من خصوم دولة الموحدين من جديد.
وما إن تقلد الخليفة الجديد الحكم، حتى بدأت علامات الاضطراب تدب في الدولة مجددًا، وكالعادة الخطر الأكبر من بني غانية، تلك الأسرة الصنهاجية التي سيطرة لأكثر من 7 قرون على جزر البليار الثلاثة وحاولت لنحو نصف قرن إحياء دولة المرابطين والقضاء على الموحدين.
استغل بنو غانية موت المنصور وانشغال الناصر بالله بتدعيم أسس حكمه في مراكش، لزيادة نشاطهم وتكثيفه بهدف الإطاحة بالموحدين، فاستولوا بداية على جزء كبير من إفريقية (قابس وصفاقس والقيروان وسائر بلاد الجريد..)، وساروا إلى تبسة وبسكرة، وبونه (عنابة) وهزموا والي بجاية الموحدي.
بلغ إلى مسامع الخليفة الموحدي الجديد خبر بني غانية، فرأى أن القضاء عليهم يتم أولًا بالسيطرة على مقر حكمهم بالجزر الشرقية، فسير جيشًا ضخمًا إلى هناك انطلاقًا من ثغر دانية بالأندلس، وتمكن الموحدون من السيطرة على الجزر والقضاء على قائدها عبد الله بن غانية.
بعد ذلك، سير الناصر جيش الموحدين إلى إفريقية لمحاربة يحيى بن غانية، وبدأ بمدينة المهدية فاسترجع حكمها ومن ثم أعاد السيطرة على باقي مدن البلاد وهرب يحيى إلى الصحراء، وعهد الخليفة الموحدي إلى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص الهذلي ولاية إفريقية ومهمة قتال بني غانية إن أعادوا الكرة وانتفضوا على الموحدين مجددًا.
عاد الخليفة الناصر إلى عاصمة الحكم مراكش، فعاود ابن غانية جمع الأعراب من حوله، فسار إليه والي تونس الجديد والتقى الجيشان في وادي شبرو (قرب تبسة في الشمال الشرقي للجزائر) يوم 30 ربيع الأول سنة 604 هجريًا، فهُزم بنو غانية لكنهم عادوا للتمرد في أكثر من مرة، فكان في كل مرة يتصدى لهم الحفصيون والموحدون إلى أن تم القضاء عليهم على يد أبا زكريا ابن الشيخ أبا محمد.
ومع توليه ولاية إفريقية، أسس أبو محمد بن أبي حفص الأسرة الحفصية، التي حكمت تونس حتى سنة 1574 ميلاديًا، والدولة الحفصيَّة هي الدولة الإسلامية الرابعة بتونس وقد دامت أكثر من 3 قرون.
وكان من نتائج ثورات بني غانية المتواصلة على الموحدين، إضعاف الدولة الموحدية وتفككها وولادة دويلات جديدة في المنطقة، سقطت الدولة على يد إحداها ونعني بذلك دولة بني مرين سنة 669 هجريًا، كما ألهت هذه الثورة الموحدين عن الأندلس وعجلت بسقوطها في يد النصارى.
جهاد النصارى
ما إن انتهى عمله مع الفتن الداخلية، حتى وجه الخليفة الموحدي جهوده العسكرية نحو الأندلس، خاصة أن الإفرنج قد استغلوا انشغال الناصر ببني غانية لرص صفوف جيوشهم المتفرقة والمنهارة والتعبئة الروحية ضد المسلمين.
قاد هذه التعبئة البابا إنوسنت الثالث من روما لإضفاء الطابع الديني عليها وضمّ أكبر عدد من النصارى لجيوشهم، والتمكن من توحيد صف الممالك المسيحية المتناحرة والمفككة (مملكة قشتالة ومملكة ليون ومملكة نافار و إمارة أراجون)، فتم له ذلك وأعلن حربًا صليبية ضد المسلمين لاستعادة الأندلس.
قبل انتهاء الهدنة الموقعة بينهم وبين الخليفة الموحدي، هجم ملك قشتالة ألفونسو الثامن على ممتلكات المسلمين في بلاد الأندلس، فنهب القرى والحصون وأحرق الزرع وقطع الأشجار، وقتل العُزَّل من الأهالي، انتقامًا على هزيمته في معركة الأرك.
نادى الناصر لدين الله للجهاد فتوافد إليه المتطوعون من بلاد المغرب والأندلس والسودان وبلغ جيشه أعدادًا كبيرة، قيل إنه ناهز نصف مليون مقاتل، وعبر سنة 607 هجريًا مضيق جبل طارق وكانت وجهته أولًا مدينة إشبيلية فقلعة سلبطرة التي حاصرها لنحو شهرين، ثم عاد إلى إشبيلية، ثم ذهب إلى موقع العقاب، وفي طريقه إلى العقاب بقي فترة في ظاهر جيان، وهو ما أضاع كثيرًا من الوقت على المسلمين ومنح النصارى الوقت للاستعداد أكثر لصد الهجوم الموحدي.
في الأثناء حاصر الصليبيون قلعة رباح التي تملّكها المسلمون بعد موقعة الأرك، فاضطر قائدها الأندلسي أبو الحجّاج يوسف بن قادس بعد أن طال الحصار وتيقن بعدم وصول المدد، لتوقيع اتفاقية مع ألفونسو الثامن تقضي بتسليم القلعة مقابل السماح له وباقي المسلمين بالخروج منها والانضمام إلى جيش الناصر لدين الله.
ما إن وصل أبو الحجاج يوسف إلى جيش الناصر، حتى أسرى وزير أبو سعيد بن جامع للخليفة بقتله، بتهمة التقاعس عن حماية القلعة، فقُتل ابن قادس، ما أثر على معنويات الجيش الموحدي وخاصة الفرق الأندلسية التي تكن الولاء التام لقادتها الأندلسيين.
بعد أن فقد الناصر لدين الله بمشورة وزيره ابن جامع، القائد ابن قادس وولاء جزء كبير من جيش الأندلسيين الذين استخف بهم، قسَّم جيشه إلى فرقة أمامية تتكون من متطوعين ليس لهم الخبرة الكاملة للحروب وفرقة خلفية تتكون من الجيش النظامي الموحدي، أما في الميمنة فما تبقى من الأندلسيين، وهي المرة الأولى التي يعتمد فيها الموحدين هذه الخطة، وقد كان أثرها سلبيًا على سير المعركة.
دخل الناصر لدين الله معركة العقاب يوم 15 صفر 609 هجريًا، وهو يعتدّ بقوة عدد جيش الموحدين – خاصة أن جيش النصارى قد انسحب عدد مهمّ منهم بعد حصار قلعة رباح – فظن أن النصر حليفه لا محال، لكن واقع المعركة لم يكن كذلك.
هجم المتطوعون المسلمون على مقدمة النصارى، لكن تم صدّهم من القشتاليين وقتل منهم الآلاف، فزحزح المتطوعون ووصل النصارى إلى قلب الجيش الموحدي النظامي، وفي الأثناء فرّ الأندلسيون وتركوا الميمنة مكشوفة، فاستغل النصارى ذلك والتفوا على جيش الموحدين وقتلوا عددًا كبيرًا منه وكانت الهزيمة النكراء.
هُزم الموحدون في معركة العقاب، وكان لهذه المعركة أثر سلبي كبير على نفوس المسلمين، فمنذ ذلك التاريخ بدأ المسلمون يخسرون الأندلس، إذ فقدوا العديد من المدن والقلاع لفائدة النصارى وضاعت هيبتهم في بلاد المغرب أيضًا.
بعد هذه الهزيمة الشنيعة انسحب الناصر لدين الله وما تبقى من جيشه إلى بلاد المغرب العربي، واعتكف في قصره إلى أن توفي بعد أشهر قليلة من هذه الخسارة عن عمرٍ لم يتجاوز 34 ربيعًا، وما زاد الطينة بلّة دخول البلاد في دوامة جديدة من الفتن الداخلية.
رغم حداثة سنّه بالحكم حاول الناصر لدين الله الحفاظ على ملك المسلمين في بلاد المغرب والأندلس، إلا أن ثورات بني غانية المتكررة وتقريبه لبعض أصحاب السوء مقابل استبعاد أهل الثقة وأصحاب الخبرات الواسعة من رجالات دولة الموحدين وعداء الأندلسيين وقتل أبرز قادتهم، عجل بهزيمته أمام النصارى وبداية انهيار دولة الموحدين القوية.