عرفت دولة الموحدين خلال فترة حكم خليفتها الأصغر يوسف المستنصر ركودًا كبيرًا، إذ انكبَّ على حياة المرح، فيما انشغلت حاشيته التي ملكت السلطة مكانه عن هموم الرعية، فأحاطت الفتن والثورات بالموحدين من كل جانب، حتى النصارى رجعوا إلى مضايقة المسلمين في الأندلس وسيطروا على ثغر القصر الاستراتيجي.
الأحوال الاقتصادية أيضًا كانت تسير من سيّئ إلى أسوأ، حيث هلكت الزروع ونضبت الحبوب وانتشرت المجاعة وكسدت التجارة وضعفت موارد الدولة واختل الأمن وذاع التوجس والقلق، وأغارت القبائل على بعضها طلبًا للغذاء والنجاة.
زاد الوضع تعقيدًا عقب وفاة يوسف المستنصر فجأة، إذ تولى الحكم من بعده أبو عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن، وخلال توليه الحكم ظهر له منافسون على السلطة ومنهم والي مرسية الذي لقّب نفسه بالخليفة العادل، فتمّ خلع عبد الواحد وقُتل فيما بعد. نتيجة ذلك، تنامت الخلافات على السلطة، كما تراجعت الدولة الموحدية القوية وفقدت العديد من حدودها لصالح النصارى ومن يزاحمها على الملك من المسلمين.
الخليفة المخلوع
توفي يوسف المستنصر يوم 12 من ذي الحجة سنة 620 هجري، ولم ينجب ولدًا ولم يعقب إلا حملًا من جارية، لم تذكر لنا كتب التاريخ مصيره، فاجتمع رأي أشياخ الموحدين الذين من حوله، وفي مقدمتهم الوزير أبو سعيد بن جامع، على أن يقدموا مكانه للخلافة أبو محمد عبد الواحد ابن الخليفة يوسف بن عبد المؤمن.
كان أبو محمد عبد الواحد حين تقديمه للحكم شيخًا قد جاوز الستين، يعيش بعيدًا عن القصر الملكي، ويرجع سبب اختياره لخلافة الموحدين إلى رغبة حاشية القصر في مواصلة التحكم في تسيير دواليب الدولة، فالخليفة الجديد طاعن في السن لا قوة له في مجاراة الحكم، كما كان الهدف من هذا الاختيار سدّ الفراغ الذي يمكن أن يحصل إن تمّ تأخير حسم اسم الخليفة، فيفقدون امتيازاتهم وحظوتهم في القصر الملكي.
أول عهد للخليفة الجديد بالحكم كان سنة 598 هجري، حين ولّاه ابن عمه الخليفة الناصر لدين الله ولاية مالقة، ثم صرفه عنها في سنة 603 هجري وولّاه أمر قبيلة هسكورة، فاستمر في ولايته طوال عهد الناصر، وشطرًا من عهد ولده المستنصر، ثم اختاره هذا الأخير واليًا لسجلماسة، ثم واليًا لإشبيلية، ثم نُقل إلى ولاية تونس، ثم صُرف عنها وعاد إلى مراكش.
بُويع أبو محمد عبد الواحد بالخلافة على كره منه، إذ لم يكن راغبًا لها وفق ما نقلته لنا بعض كتب التاريخ، فلم يكن يريد التورط في الحكم بعد أن وهب ما تبقى من حياته لقراءة القرآن والحديث وتدبُّر أمور الدين.
استقام الأمر للخليفة الجديد نحو شهرين، وخطب له في جميع مناطق سيطرة الموحدين في بلاد المغرب والأندلس، ما عدا ولاية مرسية التي كان يشرف عليها ابن أخيه أبو محمد عبد الله بن المنصور، وذلك بمشورة من بطانة السوء.
لم يكد الخليفة أبو محمد عبد الواحد يبدأ في تسيير أمور الدولة وترتيب قصر الحكم، حتى نادى ابن أخيه في شرق الأندلس مجلسه في مرسية والفقهاء والأشياخ، ودعاهم لبيعته بإيعاز من وزيره أبو زيد بن يوجان، مستغلًّا نقمتهم من الوزير بن جامع في مراكش، ووجود أخوته في مراكز القرار في الأندلس، فأخوه أبو العُلى والي قرطبة، وأبو الحسن والي غرناطة، وأبو موسى والي مالقة.
الخليفة العادل
بايع ولاة الأندلس والمشايخ والفقهاء الموجودين هناك أبو محمد عبد الله بن المنصور خليفة جديدًا للموحدين سرًّا وتسمّى بالعادل، ودعمهم في ذلك أبو محمد بن أبو عبد الله بن أبو حفص بن عبد المؤمن صاحب جيان بعد أن تمّ عزله من الولاية.
بلغ الخبر عاصمة الحكم مراكش فاختلف الموحدون على أمر الخليفة أبو محمد عبد الواحد، فبادروا أولًا بعزل الوزير ابن جامع وتغريبه إلى هسكورة، ومن ثم قرروا خلع الخليفة بعد أن أغراهم “العادل” بالمال والجاه وكان ذلك في شهر شعبان من سنة 621 هجري، وعُرف الخليفة فيما بعد بـ”المخلوع” لأنه كان أول من خلع بني عبد المؤمن عن كرسى الخلافة.
لم يكتفِ الموحدون بخلع خليفتهم، إنما دخلوا على قصره وقتلوه واستولوا على أمواله في شهر رمضان الكريم، فكان عبد الواحد أول من خلع وقتل من بني عبد المؤمن، وهو ما زاد من تأزيم الوضع ومهّد لذهاب ملك الموحدين وانقراض دولتهم.
في تلك الأثناء نفض أبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب جيان -والمعروف بالبياسي- البيعة عن العادل، ودعا لنفسه وتلقب بالظافر وأطاعته جيان وأبدة وقيجاطه وبياسة وسائر أراضي تلك المنطقة، وتحالف مع فرناندو الثالث ملك قشتالة ضد العادل.
خرج جند العادل إليه لكنه هزمهم وواصل مدّ نفوذه إلى مدن أخرى، وقيل إنه سيطر على قرطبة ومالقة، وما أن وصلت أخبار قتل الخليفة المخلوع للعادل، حتى قرر العودة إلى مراكش، رغم أن الوضع في الأندلس ليس على ما يرام.
المأمون
دخل العادل مراكش وتربّع على كرسي الخلافة، فيما ترك أخاه أبا العلاء إدريس بن المنصور واليًا لإشبيلية، وهي يومئذ قاعدة الحكم الموحدي بالأندلس، وكانت أحوال الدولة الموحدية قد ساءت يومئذ ومزّقتها الأهواء والفتن، وتضعضع سلطانها في معظم أنحاء المغرب والأندلس.
لكن لم يمضِ وقت كثير حتى خرج أبو العلاء عن طاعة أخيه، فخلع العادل ودعا لنفسه، وتسمّى بالمأمون، فقام الموحدون بقتل الخليفة العادل وبايعوا ابن أخيه يحي الذي تلقب بالمعتصم، وكان ذلك في شهر شوال من سنة 624 هجري.
كما فعل البياسي من قبل، طلب المأمون أيضًا العون من ملك قشتالة فرناندو الثالث ضد خليفة الموحدين في مراكش، فاستجاب فرناندو الثالث لذلك فرحًا وهو يعلم الآثار الإيجابية لمثل هذا التحالف الجديد الذي سيمكّنه من مدن وحصون وامتيازات دون قتال.
هجم المأمون بمعية فرقة من النصارى على مركز حكم الموحدين يبغي خلق يحي بن الناصر من الخلافة والجلوس مكانه على كرسي الحكم فكان له لذلك، وأول ما قام به المأمون عقب استيلائه على العرش قتل شيوخ الموحدين.
سقوط مدن وثغور
خلال هذه الفترة العصيبة التي مرّت بها دولة الموحدين، أصبح خلع الخليفة أمرًا مقبولًا وقتله أيضًا، وهو ما لم يعتده الموحدين من قبل، فسارت الدولة نحو هاوية سحيقة وتداعى نظامها واُستبيح ملكها في الشمال والجنوب والشرق.
في الشرق جدّد بنو مرين ثورتهم ضدّ الموحدين واستأنفوا القتال وضايقوهم في كثير في أمصارهم، وأخضعوا عديد المدن والقرى وفرضوا عليها إتاوة سنوية، وانضمت إليهم قبائل أخرى ناقمة على ملك الموحدين مستغلين هذا الضعف والهوان الذي يضرب مراكش.
كما خرج على الموحدين عرب الْخَلْط وهسكورة وعاثوا في نواحي عاصمة الحكم مراكش وخربوا بلاد دكالة، فسيّر لهم الخليفة العادل جيشًا للقضاء عليهم لكنه لم يفلح في ذلك، وهُزم الجيش واضطربت الأحوال أكثر.
شهدت بلاد الموحدين أيضًا ثورة محمد بن أبي الطواجين الكتامي بجبال غمارة وكان ذلك سنة 625 هجري، وادعى هذا الرجل النبوة وشرع الشرائع وأظهر أنواعًا من الشعوذة، فكثر تابعوه ثم اطّلعوا على خبثه فنبذوا إليه عهده وزحفت إليه عساكر سبتة، ففرّ عنهم ثم قتله بعض الأمازيغ.
أما في الشمال، فكما أسلفنا القول في البداية، ثار البياسي أبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن ضد حكم الموحدين بدعم من النصارى، وتمكن من السيطرة على عديد المدن والقلاع التي فقدها فيما بعد لصالح الافرنجة الطامعين في ملك المسلمين.
في شهر رجب سنة 622 هجري هُزم الموحدون في معركة عفص شرقي مرسية، ضد حكام قونقة ووبذة والأركون ومويا، فقُتل منهم نفر كثير وأُسر العديد منهم، وذلك نتيجة الفوضى والتفكُّك اللذين شهدتهما الدولة في تلك الفترة.
في السنة نفسها، سيّر ملك قشتالة فرناندو الثالث جيشه نحو قيجاطة القريبة من بياسة، وكانت تزخر بالأموال والثروات، فاقتحمها القشتاليون، وهدموا معظم أسوارها، وقتلوا من أهلها الألوف، وقتلوا وأسروا كذلك معظم حاميتها الموحدية واستولى القشتاليون في الوقت نفسه على عدة أخرى من حصون هذه المنطقة، ثم ساروا إلى أرض جيان التي لم يفلحوا في السيطرة عليها كما يخبرنا بذلك المؤرخ محمد عبد الله عنان في كتاب دولة الإسلام في الأندلس.
وبعد 3 سنوات من قيامها، تمكن الموحدون من القضاء على ثورة البياسي، لكنّ القشتاليين استطاعوا أن يخرجوا من هذه الثورة بأكبر غنم، وأن يضعوا أيديهم على طائفة كبيرة من القواعد والحصون الأندلسية الهامة في منطقة جيان وقرطبة، وأن يتحكموا بذلك في خطوط الدفاع عن الأندلس الوسطى، وأن يقتربوا من قرطبة عاصمة الخلافة القديمة.
خلال هذه الفترة الحرجة، ضعف أمر الموحدين أكثر بالمغرب والأندلس، وكثرت الفتن في أقطار الدولة ونواحيها، وعمّ الخراب والفساد واشتدّ الصراع على السلطة بين الأخوة وأولاد العم، فكان نذير شؤم على هذه الدولة القوية التي وحّدت في يوم ما شمال أفريقيا وبلاد الأندلس تحت راية واحدة.