اختتم المؤتمر الدولي الـ 35 للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف أعماله قبل أيام قليلة، وقد جعل من المرأة ودورها في بناء الوعي عنوانًا أساسيًا أكّد عليه العلماء المشاركون من نحو 60 دولة، وسط رسائل شكر لرعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للمؤتمر، وإشادات ببلوغ المرأة “مكانة غير مسبوقة” وحصولها على حقوقها في عهده الذي يسمّيه مؤيدوه بـ”العقد الذهبي للمرأة”.
وعلى عكس الواقع الذي تعيشه النساء منذ الانقلاب العسكري عام 2013، قد تنطبق قصائد المديح هذه على حفنة من النساء اللاتي تمكنَّ من تحقيق التوازن الأمثل بين الحياة والعمل، وظهرت أسمائهن في نشرات الأخبار في كثير من الأحيان، لكن هذا ليس هو الحال بالنسبة إلى غالبية النساء والفتيات المصريات اللاتي تأثرن بالنظام القمعي لجمهورية السيسي الجديدة.
رئيس المرأة!
منذ اندلاع ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، عاش المصريون في حالة شبه دائمة من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي، وشهدت البلاد الإطاحة برئيسَين، والموافقة على دستورَين، وسلسلة من الحكومات المتغيرة، وكان العنف ضد النساء والفتيات وفشل السلطات في اتخاذ أي إجراء ذي مغزى لمعالجته، من بين الثوابت طيلة هذه الاضطرابات الدرامية.
في ذلك الوقت، كان السيسي يروّج لنفسه في وسائل الإعلام كمناصر للمرأة، ويتحدث إليها في يومها العالمي باحترام وتقدير، وأطلق على نفسه “وزير المرأة”، وصوره مريدوه وأنصاره على أنه “منقذ للمرأة” من جماعة الإخوان المسلمين، ردًا على خوف نساء مصر من فقدان حقوقهن خلال حكم الجماعة قصير الأمد.
وفي السنوات الأخيرة، تدّعي رواية “الغسيل البنفسجي أو النسوي” التي تدور حول التطبيق الانتقائي للمثل النسوية، أنها تعزز حقوق المرأة للتغطية على الممارسات المعادية للنساء، وانتهاكات النظام الواسعة النطاق لحقوق الإنسان.
كان السيسي يقود شخصيًّا هذه الرواية، والتي يزعم فيها أن البلاد لديها سجلّ حقوق إنسان متقدم في العديد من الجوانب، وأبرزها حقوق المرأة، وربما كان ذلك ناجحًا في البداية، حيث كانت 54% من الأصوات التي حصل عليها في انتخابات عام 2014 من النساء.
في عام 2015 صرّح السيسي بأن “نساء مصر شاركن دائمًا في كتابة تاريخ أمتنا”، وفي عام 2023 شدد على أهمية إرساء المساواة بين الجنسَين، معتبرًا أن “المرأة المصرية كانت دائمًا كلمة السر ومفتاح الكلام ومنتهاه”، ومع ذلك يسارع إلى نسب الفضل لنفسه في كل تقدم نسوي في البلاد، متجاهلًا العمل الذي دام عقودًا من قبل منظمات المجتمع المدني والجماعات النسوية المستقلة والأفراد الذين يكافحون من أجل حقوق النساء، وهو ما يمكن وصفه بحالة من الأنا المتضخمة التي أفرزت إنجازات واهية.
وفي عام 2017، تكلّل الرقص الجماعي والتباهي بوسامة السيسي المفترضة وتمجيد الرجولة، بتسمية هذا العام “عام المرأة المصرية”، ليتم تصوير السيسي كأسطورة ومنقذ للمرأة من واقعها المرير، وهذا يفرض فكرة خاطئة مفادها أن النساء ضحايا ضعيفات يحتجن إلى الحماية، لكن الحقيقة أن المرأة المصرية ما زالت تواجه مشاكل، وتعاني في صمت في ظل حكمه أكثر من أي وقت مضى.
وأضرّت السياسات الاقتصادية السيئة للنظام والإنفاق المتهور بالنساء على وجه الخصوص، وأصبحت المرأة مجبرة على تحمل فشل الدولة في توفير الخدمات الأساسية بعد خفض الدعم على السلع الأساسية، مثل الخبز والكهرباء والوقود وخفض قيمة العملة، بمعنى أنها يجب أن تلعب دور المدرسة والمستشفى والصالة الرياضية والمكتبة والمسجد.
ونتيجة لانهيار الاقتصاد وفرض المزيد من تدابير التقشف، تضطر المرأة إلى التنازل عن كل حقوقها حتى تتمكن من تقليص النفقات، وحتى يتحمل دخل الأسرة طعنات الأسعار الغادرة التي زادت من عدد حالات الزواج دون السن القانونية، وتركت النساء دون أي شبكة أمان اقتصادي، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر التي تزيد بين النساء.
وأثّرت هذه التطورات والصعوبات الاقتصادية على سبل عيش النساء، حيث تفقد الفتيات شبابهن بسبب اضطرارهن للعمل لتغطية نفقاتهن، والهروب من شبح العنوسة في ظل تدهور أحوال الشباب الذين يترددون بدورهم في الزواج، وبعض النساء الأكبر سنًا يضطررن للعمل لأنهن مطلقات ولديهن أطفال يعلنهم، وعادة ما تحتاج المتزوجات إلى المال بشدة لدرجة أن أزواجهن يسمحن لهن على مضض بالعمل.
ورغم إحراز بعض التقدم نحو المساواة بين الجنسَين في السنوات الأخيرة، إلا أن هذه المكاسب لم تدفع النساء إلى سوق العمل، ففي مقابل كل امرأة مصرية تعمل، تبقى 4 نساء تقريبًا في المنزل، وظلت نسبة النساء في سوق العمل ثابتة لمدة عقدين من الزمان، بل إنها انخفضت بالفعل بين بعض الفئات، مثل النساء الحاصلات على درجات جامعية.
ومؤخرًا انتشرت مقاطع فيديو لنساء، منهن من يتوسلن للسيسي أن يشفق على الناس بعد أن فرض عليهن أسعارًا باهظة، ومنهن من يندم على دعمهن المطلق له، لكن يبدو أنه لا يتذكر هؤلاء النساء إلا حين يحين وقت التقاط الصور التذكارية.
ومن بين النساء اللاتي لا يلتفت إليهن، حتى للاستعراض أمام وسائل الإعلام، السجينات، وكذلك أمهات وزوجات وبنات وأخوات السجناء، ويمحو صراخ هؤلاء جميعًا الصورة البراقة التي يسعى إلى ترسيخها في أذهان المشاهدين، وتكشف نظرة واحدة على صفحات هؤلاء النساء على مواقع التواصل الاجتماعي مدى قسوة قلب “الرئيس الإنسان”.
المرأة ليست استثناء
خلال استعراض حقوق الإنسان في مصر في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، زعمت رئيسة المجلس القومي للمرأة، المنظمة الوطنية لحقوق المرأة في مصر، أن “النساء في ظل حكم الإخوان المسلمين واجهن التهميش والإقصاء والتمييز ومحاولات التراجع عن حقوق المرأة، وبدلًا من ذلك أعطت القيادة السياسية الحالية الأولوية، وحققت تقدمًا في تمكين المرأة”.
لكن ربما تجد الكثير من النساء صعوبة في رؤية التقدم الذي حققه النظام الحالي في مجال حقوق المرأة، منذ عام جماعة الإخوان الذي تصفه وسائل الإعلام الموالية للنظام بـ”عام تكميم النساء”، فهذا النظام يواصل التمييز والتهميش وارتكاب العنف ضد المرأة، ويعيق جهود التقدم بشكل فعّال لأنه يساوي بين الدعوة لحقوق الإنسان والإرهاب، ويفرض قيودًا على منظمات حقوق الإنسان التي تقود العدالة بين الجنسَين.
ووفقًا لوصف مديرة البرامج في الخدمة الدولية لحقوق الإنسان في جنيف، سلمى الحسيني، لم يكن نظام السيسي حارسًا للإسلام المعتدل عندما يتعلق الأمر بحقوق المرأة، فقد قدّم الرئيس والمدافع عن حقوق المرأة دليلًا على نهجه بشأن المرأة عام 2011، عندما دافع بصفته رئيسًا للمخابرات العسكرية عن إجراء اختبارات العذرية على المتظاهرات المعتقلات، “لحماية الجيش من مزاعم الاغتصاب المحتملة”.
وتحت ستار “مكافحة الإرهاب”، استمرت الحكومة المصرية في احتجاز ومعاقبة المنتقدين والناشطين السلميين بشكل منهجي، واستخدمت الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والسجن والتعذيب الجسدي والنفسي والتهديد بالاغتصاب والتحرش الجنسي، بالإضافة إلى تجميد الأصول وحظر السفر من بين العديد من التكتيكات الأخرى لإسكات الأصوات المعارضة، ولم تكن النساء استثناءً في هذه الهجمة القمعية غير المسبوقة التي شهدتها البلاد في أعقاب انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013.
وفي نقطة تحول في معاملة النساء، والتي اعتبرتها الحكومات السابقة خطًا أحمر، تعرضت النساء في عهد السيسي بشكل منهجي لشتى أنواع الانتهاكات التي كان على رأسها القتل والضرب والسحل والاعتقال والتحرش والانتهاكات الجنسية من قبل أفراد الشرطة والأمن الوطني، وغير ذلك من الانتهاكات التي بات رصدها وتوثيقها أمرًا صعبًا بالنسبة إلى المنظمات النسوية غير الحكومية المقيَّدة للغاية، والتي واجه العديد منها، بما في ذلك نظرة للدراسات النسوية ومركز المساعدة القانونية للمرأة المصرية، تجميد الأصول أو حظر السفر.
ورغم أن النساء يشكلن نسبة أصغر بكثير من السجناء مقارنة بالرجال، تتراوح من 2% إلى 10%، فإن أعداد السجينات في مصر تتزايد بشكل كبير وغير متناسب، فقد وسّعت حكومة السيسي من احتجازها للنساء منذ الانقلاب العسكري، واعتقلت نحو 2800 امرأة وفتاة -بما في ذلك العديد من القاصرات اللاتي لم يتخطين الـ 18 عامًا- تعرضن للحبس بأحكام مدنية وأخرى عسكرية تفتقر لمعايير المحاكمات العادلة.
وخلال فترة الاحتجاز، تتعرض النساء لسوء معاملة تصل إلى حد التعذيب، بما في ذلك اختبارات العذرية والإيذاء البدني واللفظي والعنف الجنسي، وفي مارس/ آذار 2021 حددت لجنة العدالة 554 انتهاكًا ضد 224 امرأة في مرافق الاحتجاز والسجون خلال عام 2020، بما في ذلك الاختفاء القسري لـ 92 امرأة وتعذيب 43 امرأة أخرى.
ومنذ ذلك الحين، أحال النظام 115 امرأة إلى محاكم الإرهاب، وأخفى 396 امرأة و16 فتاة قسرًا قبل ظهورهن لاحقًا لاتهامهن بتهم زائفة، وتعرضت 2761 سجينة على الأقل للتعذيب، وفي عام 2021 وحده تم توثيق 203 حالة من حالات العنف السياسي، مثل الاختفاء القسري والاعتقالات التعسفية والقتل خارج نطاق القضاء ضد الناشطات.
وعلى مدار السنوات الستة التي أعقبت انقلاب يونيو 2013، ووفقًا لمنظمة نحن نسجّل (We Record)، وهي منظمة غير حكومية مصرية توثق انتهاكات حقوق الإنسان، كان هناك 312 حالة قتل خارج نطاق القضاء ضد النساء، وأُصيب عدد لا يُحصى منهن خلال الاحتجاجات والاعتصامات السلمية المناهضة للحكومة.
كما جرى تحويل 25 امرأة إلى محاكمات عسكرية جائرة انتهت بأحكام تتراوح بين المؤبد والأشغال الشاقة والحبس 5 سنوات، ووضعت 151 امرأة على قوائم الإرهاب وتم الاستيلاء على أموالهن ومنعهن من السفر خارج البلاد، وتعرضت 14 صحفية للحبس والاحتجاز والعنف، بالإضافة إلى فصل عشرات الطالبات وأعضاء هيئة التدريس من الجامعات بسبب التعبير عن رأيهن.
ومن حقوق المرأة التي سحقها نظام السيسي، الحق في تأمين نفسها وأفراد أسرتها من الاختفاء القسري، والحصول على الرعاية الصحية في مراكز الاحتجاز، وعدم ذرف دموع الشوق والرغبة في رؤية أحد أفراد أسرتها، وعدم التنقل بين السجون، وعدم التعرض لأبشع السلوكيات أثناء الزيارات، وعدم التوسل لسماع أصوات زوجها أو ابنها، وربما لا نحتاج إلى ذكر الحق في “المحاكمات العادلة”، لأن القانون أصبح لعبة في يد الحاكم.
عنف الدولة ضد النساء
رغم وجود قوانين تحظر العنف الذي تتعرض له المرأة من أفراد الأسرة والمجتمع، إلا أن المشكلة لا تكمن فقط في تطبيقها، بل هناك أيضًا اتجاه مقلق يتمثل في الانتهاكات المتعمدة من جانب أجهزة الدولة الأمنية، بما في ذلك الشرطة المكلفة بحماية جميع المواطنين، حيث يستخدم بعض رجال الشرطة النساء عمدًا كبيادق في تصرفاتهم ضد أقاربهن الذكور المشتبه في ارتكابهم جرائم.
وقد حدثت إحدى هذه الحالات بعد فضّ اعتصام رابعة في أغسطس/ آب 2013، عندما قامت الشرطة ورجال الأمن الوطني بشكل منهجي بإخضاع النساء للاعتقالات والاعتداء الجنسي والجسدي والتعذيب والمضايقة والإذلال العلني، للضغط على أقاربهن لتسليم أنفسهم، ويدل هذا على أن السلطات لا تفشل بشكل روتيني في تطبيق الحماية القانونية ضد العنف ضد المرأة فحسب، بل إنها ترتكبه بنفسها أيضًا بشكل منهجي.
وفي عام 2023، أصدرت هيومن رايتس ووتش ومؤسسة سيناء لحقوق الإنسان المصرية تقريرًا وثّقتا فيه الاحتجاز التعسفي الذي ارتكبته قوات الأمن بحق النساء والفتيات بمعزل عن العالم الخارجي لفترات تتراوح بين أسبوعين و6 أشهر، بين عامي 2017 و2022، بدعوى ارتباطهن بأعضاء مشتبه بهم في تنظيم “ولاية سيناء”، وأساء ضباط جهاز الأمن الوطني معاملتهن، بما في ذلك الألفاظ البذيئة والضرب والصدمات الكهربائية.
ويرجع هذا إلى عدة عوامل، منها أن المرأة لا تتمتع بالعديد من حقوقها الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يعيق وصولها إلى العدالة، فضلاً عن ذلك كثيرًا ما تخضع المرأة لتشريعات تمييزية، ناهيك عن الفلسفة وراء أغلب التشريعات التي تعاقب المرأة على أفعال تعتبر “ضارة بالنظام العام أو الآداب الاجتماعية”، الأمر الذي يجعلها أكثر عرضة للسجن.
وفي ظل النظام الحالي، اعتقلت السلطات العديد من النساء كجزء من قضية “تحالف الأمل”، بما في ذلك مودة أسامة العقباوي التي اُحتجزت بعد أن عجزت قوات الأمن عن العثور على والدها السياسي المعارض أسامة العقباوي، وبعد إطلاق سراحهن أو أثناء فترة الإفراج المشروط، اعتقلت السلطات المصرية 2629 امرأة واحتجزتهن بشكل تعسفي، ولا تزال 127 امرأة في السجن، وتلك ممارسة مصرية تُعرف بـ”الباب الدوار”، ويتم بموجبها إعادة سجن المعتقلين بعد أن يأمر القضاة بالإفراج عنهم.
واستمرت السلطات في مقاضاة النساء المؤثرات على وسائل التواصل الاجتماعي بتهم أخلاقية غير محددة، تنتهك حقوقهن في الخصوصية وحرية التعبير وعدم التمييز، فقد اُستهدفت النساء بسبب الغناء أو الرقص على مواقع التواصل الاجتماعي منذ عام 2020، وألقت أجهزة الأمن القبض على ما لا يقل عن 9 نساء اُتّهمهن بانتهاك “الآداب العامة” و”تقويض القيم الأسرية”.
وتضمّن بيان النيابة العامة العديد من التهم الغامضة، من بينها “إثارة الرجال جنسيًا” من خلال “الغناء والرقص بطريقة تجذب الانتباه”، وهو ما هدد “الأمن القومي والاجتماعي”، و”أفسد المجتمع والقيم”، ومع ذلك في غالبية مقاطع الفيديو والصور، تظهر النساء مرتديات ملابس كاملة، وفي بعض الأحيان يغنين أو يرقصن.
ويبدو أن هذه الملاحقات القضائية هي أول استخدام لتهم الأخلاق بموجب قانون الجرائم الإلكترونية لعام 2018، فقد كان من بين النساء الملاحقات قضائيًا ضحايا العنف الجنسي والإساءة عبر الإنترنت، حيث تم القبض على فتاة تبلغ من العمر 17 عامًا بعد نشر مقطع فيديو يفيد بأنها تعرضت للاغتصاب والضرب وتستغيث طلبًا للمساعدة، ويوضح بيان النيابة بشأن قضيتها أيضًا أن تمييز الدولة ضد المرأة كان مرتبطًا أيضًا بالتمييز على أساس الطبقة الاجتماعية والاقتصادية.
في قضية بارزة عُرفت إعلاميًا بـ”عنتيل الجيزة“، بطلها رجل اعتدى جنسيًا على عشرات النساء من الطبقة العليا، ذكرت النيابة أنها “ترفض إلقاء اللوم على الضحايا”، ومع ذلك في قضية تتعلق بامرأة من طبقة اجتماعية واقتصادية أدنى، أصدرت النيابة بيانًا يلوم الضحية، ويشير بشكل محدد إلى أن “التمييز ضد المرأة كان مرتبطًا بانتهاكات جنسية”.
وفي قضية أخرى، ظهرت حادثة اغتصاب جماعي بارزة في عام 2020، شملت مجموعة من الرجال الذين قاموا بتخدير واغتصاب امرأة في حفل خاص في فندق فيرمونت نايل سيتي الفاخر في القاهرة عام 2014، وشجّع المجلس القومي للمرأة الشهود والضحية على الإبلاغ عن الحادث وضمان حمايتهم، ومع ذلك رفض المجلس دعمهن، وأخضعتهن وسائل الإعلام الموالية للحكومة لحملة تشهير منسقة، وتم تسريب بياناتهن الشخصية للجمهور.
وفي الوقت نفسه، لم يفعل المجلس القومي للمرأة أي شيء لدعم الناشطات السياسيات والمنظمات غير الحكومية المستهدفة، وبدلًا من ذلك يكرر الرواية الرسمية للدولة، ومع ذلك تواصل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والعديد من الدول الأوروبية دعم المجلس ماليًا، متجاهلة الانتقادات التي وجّهتها المنظمات الحقوقية للمؤسسات المحلية -مثل المجلس القومي لحقوق الإنسان-، لفشلها في أداء دورها الحقوقي بسبب السيطرة الحكومية عليها.
وتنتشر ثقافة الإفلات من العقاب والعنف على هذه الانتهاكات بين أجهزة الأمن والجهات الفاعلة غير الحكومية، التي ترتكب العنف ضد المرأة بشكل منهجي على نطاق واسع، رغم الحماية القانونية ووعود الإصلاح من قبل النظام، وبالمثل لا يعالج الدستور المصري بشكل كافٍ تعقيدات مشاركة المرأة في المجال العام، رغم الاعتراف بأن جميع البشر يجب أن يعاملوا على قدم المساواة.
ومع ذلك، تبدو التفاوتات بين الجنسَين واضحة في مصر، حيث يبلغ مؤشر عدم المساواة بين الجنسين في مصر 116 من أصل 189 دولة وفقًا لتقرير التنمية البشرية لعام 2018. ورغم كل التحسينات الجوهرية في معدلات معرفة القراءة والكتابة بين الإناث، ومعدلات الالتحاق بالجامعات والمشاركة في قوة العمل والبطالة، لا تزال هناك فجوة بين الجنسَين لصالح الذكور، فالأمية بين النساء أعلى بنحو الضعف من الأمية بين الرجال، ولا يزال أمام مصر طريق طويل لتحقيق الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة: المساواة بين الجنسين.
أكذوبة “العصر الذهبي للمرأة”
منذ ظهور السيسي في المشهد السياسي، تحتفل الحكومة بإنجازات المرأة المصرية، وتشير إلى الأمثلة البارزة للنساء المتمكنات في المناصب الوزارية والبرلمان والقضاء، وتصف أجهزة الإعلام التابعة للنظام وأنصاره حكم السيسي بأنه “العصر الذهبي للمرأة المصرية”، وتشير مرارًا وتكرارًا إلى السياسات والقوانين التي تم تنفيذها، والتي تعمل على تحسين حقوق المرأة في البلاد.
وربما تؤكد نظرة سريعة على وضع حقوق المرأة هذا الرأي، حيث كان هناك ارتفاع في المشاركة السياسية للمرأة، مع تعيين المزيد من الوزيرات، حيث شكّلن لأول مرة في مصر 25% من مجلس الوزراء (8 وزيرات نساء من إجمالي 32 وزيرًا) في عام 2018، ثم انخفض هذا التمثيل إلى 12% (4 وزيرات نساء من إجمالي 31 وزيرًا) في التشكيل الوزاري الأخير، بالإضافة إلى تعيين امرأة واحدة من بين 5 مستشارين للرئيس.
وحصلت النساء على 162 مقعدًا في البرلمان في عام 2020، منها 14 تمّ تعيينها مباشرة من قبل السيسي، حيث يمنحه الدستور سلطة تعيين 28 نائبًا من أعضاء البرلمان، وهذا الرقم يمثل زيادة كبيرة مقارنة بـ 89 نائبة في عام 2015، و11 نائبة في عام 2012.
لقد أحرزت النساء تقدمًا كبيرًا في المستويات العليا من السلطة في الدولة، لكن ليس هذا حال غالبية النساء في مصر، حيث تقتصر المشاركة السياسية للمرأة على اللاتي يُظهرن الولاء للنظام، وليس اللاتي قد يعارضنه، فمن بين 89 نائبة في البرلمان السابق، صوتت اثنتان فقط ضد التعديلات الدستورية المثيرة للجدل لعام 2019 التي منحت السيسي سلطات متزايدة على القضاء، ونفوذ الجيش في الحياة السياسية، وسمحت له بالبقاء في السلطة حتى عام 2030.
ويتماشي تعيين وزيرات مع سياسات النظام، ففي عام 2019 قالت وزيرة الهجرة آنذاك نبيلة مكرم، إن “أي شخص يعارض السيسي يجب أن يُذبح”، مهددة بتقطيع أي شخص يتحدث بسوء عن مصر في الخارج، وفي عام 2021 قالت الوزيرة نفسها إن “الطلاب المصريين في الخارج أخطر فئة من المهاجرين”، لترويجهم لأفكار تتعارض مع النظام، وهذا ما تدعمه الممارسات الأمنية والإدارية والدبلوماسية للنظام على أرض الواقع.
وزيرة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج تقول في حفل في كندا أمام عدد من أنصار #السيسي: “أي حد يقول كلمة على بلدنا يتقطّع” وتشير بعلامة النحر! pic.twitter.com/PXBw2k83g3
— محمد نصر | Mohamed Nasr (@MohamedNasrAJA) July 23, 2019
كما أنقذ التستر وزيرة الصحة السابقة هالة زايد من اتهامات الفساد، فقد تم إعفاؤها بهدوء من مهامها في تعديل وزاري، وخرجت من القضية دون وضع اسمها في أية اتهامات، وفي الوقت نفسه التزمت وزيرة البيئة المصرية ياسمين فؤاد الصمت أو حتى دافعت عن تدمير الأشجار، حيث تم قطع آلاف الأشجار في جميع أنحاء البلاد باسم التنمية.
وتختبر جرائم قتل النساء الأخيرة حدود أجندة النسوية التي ترعاها الدولة، وحقيقة رواية العصر الذهبي للدولة، التي لا يُسمح للناشطات السياسيات النسويات المعارضات للنظام بالمشاركة فيها.
حبر على ورق
على الصعيد التشريعي، تتم عملية تمرير القوانين في مصر من أعلى إلى أسفل، والبرلمان مليء بالسياسيين المؤيدين للسيسي الذين لا يرفضون أو يشكّكون في مشاريع القوانين التي يقترحها الرئيس أو حكومته، وبالتالي لا تذهب التغييرات القانونية إلا إلى الحد الذي تسمح به القيادة السياسية، وهو ما يعيق غالبًا فعالية هذه القوانين.
أقرَّ البرلمان قوانين جديدة يمكن اعتبارها داعمة لحقوق المرأة، مثل قانون التحرش الجنسي في عام 2014 (تم تعديله لاحقًا في عام 2021)، وتجريم حرمان المرأة من الميراث في عام 2017، وتشديد عقوبة ختان الإناث في عام 2021، ومع ذلك يُظهر الفحص الدقيق لهذه السياسات أنها مجرد حبر على ورق.
ويعدّ قانون التحرش الجنسي وتعديلاته مثالًا رئيسيًا على الثغرات في نظام الحماية القانونية الذي يجعل النساء عرضة للهجمات والاعتداءات، فقد قدّم حلًّا سطحيًا لوباء التحرش الجنسي في مصر، وتجاهل الحاجة إلى إصلاح جذري داخل الأجهزة الأمنية لتحسين كيفية تنفيذه.
ومع ذلك، يبقى التحرش الجنسي مشكلة منتشرة وخطيرة في مصر، حيث تحتل البلاد المرتبة الثانية في العالم بعد أفغانستان، وتتعرض 99% من الفتيات والنساء المصريات لشكل من أشكال التحرش والعنف الجنسي خلال حياتهن، لكن لا يتم الإبلاغ عن مثل هذه الحالات بشكل كافٍ بسبب الحواجز القانونية والاجتماعية.
ورغم الموقف الرسمي للدولة بشأن مكافحة التحرش الجنسي والاعتداءات الجماعية المنتشرة على نطاق واسع، فإن النساء اللاتي يتقدمن ببلاغات لسن آمنات أو محميات، وغالبًا ما يقلل أفراد الأمن من أهمية التحرش الجنسي، ويرفضون كتابة تقرير للشرطة، ويجبرون الضحايا على إسقاط شكواهن، أو يكونون هم المتحرشون أنفسهم.
كما أن الإبلاغ عن الاعتداء للشرطة مهمة لا تتحملها الكثير من النساء، فقد ذكرت الناجيات أن الشرطة وقوات الأمن طالبت بإجراء اختبارات العذرية رغم الحكم بعدم قانونيتها في عام 2011، وأُمرن بالتخلي عن الفحوصات الشرعية حتى لا ينشرن خبر الاغتصاب ويلفتن الانتباه إلى عارهن، وإعادة تعرضهن للضحية عند الإبلاغ للشرطة.
وبدعوى مشاركة ضحايا العنف الجنسي رواياتهن عن الاعتداءات الخادشة للحياء علنًا، وترويج التقارير الإعلامية للتشكيك في شهادات الضحايا أو الناجيات، والتلميح إلى أن سلوكهن وقواعد لباسهن تبرر العنف ضدهن.
ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية عن العنف الجنسي، إلا أنه من المقدر أن يتم الإبلاغ عن حوالي 20 ألف حالة اغتصاب سنويًا في مصر، و90% من النساء في مصر يبلغن عن تعرضهن لشكل من أشكال التحرش الجنسي، و3 من كل 10 نساء متزوجات يبلغن عن تعرضهن للعنف الزوجي، بما في ذلك العنف الجنسي.
لهذا، لم يعد حق المرأة في عيش حياة خالية من العنف مستوعبًا على نطاق واسع داخل المجتمع المصري، ما يؤدي إلى عدم الإبلاغ من قبل ضحايا العنف، وعدم وعي الجناة بجريمة العنف، وعدم استجابة الشرطة والنظام القانوني المكلف من المفترض بإنفاذ القوانين التي تحظر العنف، وارتكاب العنف من قبل السلطات نفسها ضد النساء من أجل الضغط على أقاربهن الذكور.
كما حاول النظام تمرير قانون جديد للأحوال الشخصية في عام 2021، لكنه أثار ضجة بين النساء المصريات، لأنه يضيف سلسلة من القواعد الجديدة حول قضايا الزواج والطلاق وحضانة الأطفال والوصاية، ويقوض حقوق المرأة واستقلالها الجسدي، حيث كان من شأنه أن يسمح للرجل بالمبادرة بالطلاق والزواج مرة أخرى، مقارنة بالنساء اللاتي يواجهن المزيد من التدقيق والتعقيدات، وقد تم سحب القانون بعد حملة مكثفة من قبل مجموعات نسوية مستقلة.
وبينما قد يعتقد النظام أن مثل هذه القواعد ستخفض معدلات الطلاق المرتفعة، فإنها بدلًا من ذلك تحدّ من حقوق المرأة وتخلق ضغوطًا متزايدة في حالات العنف الأسري، وتظهر الإحصائيات التي نشرها المجلس القومي للمرأة أن معدل العنف يصل إلى 86%، وبلغت معدلات الطلاق 220 ألف حالة في عام 2020، مع ارتفاع الأصوات التي تشير بشكل متزايد إلى الصلة بين العنف والطلاق، وبحلول عام 2021 سجّلت مصر حالة طلاق جديدة كل دقيقتين.
ولا يختلف وضع المرأة في السجون ومراكز الاحتجاز في مصر كثيرًا عن وضعها في أماكن أخرى، فالعنف والتمييز والاستغلال الذي تتعرض له المرأة في السجون ومراكز الاحتجاز، ما هو إلا مظهر من مظاهر ما تعانيه أغلب النساء في عالم خارجي يحكمه المنطق الأبوي.
وخلص تقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش في يوليو/ تموز الماضي، إلى أن سياسات ولاية الرجل استمرت في إعاقة سفر المرأة وتنقلها. على سبيل المثال، ينصّ قانون الأحوال الشخصية في مصر على أنه يمكن اعتبار المرأة عاصية من قبل المحكمة، وتفقد حقها في النفقة من زوجها إذا غادرت منزل الزوجية، أو عملت دون موافقة زوجها، مع بعض الاستثناءات.
وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: كيف تساهم القوانين التمييزية في الانتهاك المنهجي لحقوق المرأة، خاصة فيما يتعلق بالخصوصية وحرية التعبير والحماية من العنف القائم على النوع الاجتماعي؟ في الواقع، تجاهلت الدولة دعوات المنظمات النسوية لإصدار قانون يجرّم العنف المنزلي، وتعديل الأحكام المتعلقة بالاغتصاب في قانون العقوبات المصري الحالي.
وقوبلت المقترحات التي قدّمها البرلمانيون في عامي 2017 و2018 لتعديل القوانين المتعلقة بالاغتصاب والاعتداء الجنسي، وتبني قانون شامل لمكافحة العنف ضد المرأة بالنقد أو التقاعس، ولا تزال توصيات لجنة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بشأن جعل التشريعات المصرية متوافقة مع التزاماتها، بموجب اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة دون تنفيذ.
ولعل التعديل الذي تباهت به الحكومة هو رفع سن زواج الفتيات إلى 18 عامًا، لكنه غير فعّال في الواقع، لأنه في حين لا يسمح القانون بتوثيق الزواج، فإنه لا يجرّمه، ما يفسح المجال للتحايل على القانون وإبرام عقود زواج الفتيات تحت ما يسمّى بالزواج العرفي، دون توثيقه حتى تبلغ الفتاة السن القانوني، وينتهي ذلك في بعض الأحيان بأطفال بلا نسب، ويعرّض الفتيات لأضرار جسدية ونفسية في ظل ثغرات قانونية وتحديات اجتماعية.
على الصعيد الدولي، تضع مشاركة مصر الظاهرية في العديد من المعاهدات والمصادقة على الاتفاقيات التي كرّست الالتزام بالقضاء على التمييز ضد المرأة، البلاد في إطار الالتزام بعدم التمييز والمساواة بين الجنسين، لكن وجود تحفظات واسعة النطاق على بعض المواد القانونية والدستورية، يثير مخاوف كبيرة بشأن تفاني البلاد في مكافحة التمييز القائم على النوع الاجتماعي، وتوسيع مشاركة المرأة في الحياة العامة وفقًا لمعايير حقوق الإنسان.
ويسلط النظام الضوء على إنجازاته النسوية كلما أُثيرت مسألة حقوق الإنسان، وقد نجح هذا التكتيك حتى الآن، حيث أشاد المجتمع الدولي بالتقدم النسوي للنظام، ووصفه بأنه نموذج يحتذى به في المنطقة، ويستخدم النظام هذا الثناء أيضًا في الداخل لإدانة أي اتهام لسجلّه في مجال حقوق الإنسان.
وفشل المجتمع الدولي حتى الآن في محاسبة النظام على انتهاكاته ضد المرأة، حيث لم يقدم سوى انتقاد محدود للاعتقالات والمضايقات المستمرة للناشطات، وعلاوة على ذلك تم إنفاق التمويل والمساعدات التي تستهدف حقوق المرأة إلى حد كبير على الوكالات الحكومية بدلًا من منظمات حقوق المرأة المستقلة.
والأهم من ذلك، إن أجندة النظام النسوية محدودة بطبيعتها، حيث تختار القضايا “الناعمة” التي من شأنها أن تفيد النظام دون إثارة غضب المؤسسات الاجتماعية والدينية في البلاد، وتبتعد عن القضايا الأكثر إثارة للجدل.
ومع ذلك، مع استمرار الدولة في قمع المنظمات النسوية المستقلة، وفشلها في معالجة احتياجات المرأة المصرية بشكل صحيح، فإن المرأة لا يزال أمامها طريق طويل نحو تحصيل حقوقها، يتجاوز استراتيجيات الحكومة التي وضعتها لحقوق الإنسان وتعزيز المساواة وتمكين المرأة، وتتوقع أن تؤتي ثمارها بحلول عام 2030، تمامًا كما تجاوزت الاستراتيجية الوطنية لمكافحة العنف ضد المرأة (2015-2020) مداها الزمني، دون أن توفر مجتمعًا آمنًا خاليًا من العنف يضمن الحماية للمرأة.