يتوالى هبوط المصائب على رؤوس السودانيين، حيث فاقمت الأمطار والفيضانات والأوبئة من معاناتهم، وذلك بعد أكثر من 500 يوم على نشوب الحرب في بلادهم، مخلفة أرتالًا من الضحايا، ومتسببةً في أكبر موجة نزوح يشهدها العالم، وواضعةً الملايين على أبواب المجاعة.
أكملت الكوارث الطبيعية والصحية، أضلاع مثلث الأزمة السودانية المنسية، حيث تضرر قرابة نصف مليون سوداني (بينهم 2.1 ألف نازح) من الأمطار الغزيرة والسيول التي عمّت 15 ولاية من ضمن 18 ولاية سودانية، بينما اقتربت إصابات الكوليرا من حاجز 1.7 ألف إصابة بنهاية الأسبوع الماضي، طبقًا للإحصائيات الرسمية.
تعد حرب السودان كارثة بكل المقاييس، فمنذ 15 أبريل/نيسان 2023 يخوض الجيش وميليشيا الدعم السريع أكثر معركة لكسر العظم، ما نتج عنه تهشم عظام المدنيين والبنى التحتية بقسوة، وإن درج طرفا الصراع على القول – للمفارقة – إنهما يقاتلان لأجل الوطن والمواطنين.
وأودى القتال المحتدم من دون وجود أفق للحل السياسي، بحياة ما يقارب 17 ألف سودانيًا، وأجبر 11 مليونًا على مغادرة منازلهم، فيما عانت مشروعات البنية التحتية من دمار غير مسبوق.
خريطة السيول
أعلنت وزارة الصحة السودانية، ارتفاع حصيلة قتلى السيول والفيضانات إلى 173 شخصًا، بينما قال مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا) إن 491.1 ألف شخص تضرروا من الأمطار والسيول الغزيرة في 53 منطقة بـ15 ولاية سودانية، من بينهم 143.2 ألف نازح فروا من المناطق التي تشهد أعمالًا عسكرية إلى مناطق لم تصلها الحرب، ويقع معظمها تحت سيطرة الجيش.
وتأثرت ولايات البحر الأحمر، الشمالية، كسلا، نهر النيل، وشمال كردفان، على نحو خاص بالسيول والأمطار التي فاقت التوقعات، مفضية إلى مصرع العشرات، وتهجير عدد غير قليل من سكان القرى.
وشهدت المناطق الواقعة على سفح سد أربعات بولاية البحر الأحمر الساحلية، مأساة مكتملة الأركان، بعد انهيار السد الذي يغذي مدينة بورتسودان (العاصمة المؤقتة) وضواحيها بالمياه العذبة، متسببًا في حركة نزوح هائلة لأهالي عشرات القرى. واجتاحت السيول بشكل مفزع مدينة طوكر وقراها في شرق السودان، وذات الأمر ينطبق على بقية الولايات المتأثرة بالأمطار.
وبالانتقال إلى محور الصحة، وصلت أعداد المصابين بالكوليرا إلى 1696 شخصًا وفقًا لوزارة الصحة السودانية، قضى 17 منهم متأثرًا بالوباء ومضاعفاته.
وتأتي موجة الكوليرا بالتزامن مع كارثة السيول والأمطار، ما حدا بمنظمة الصحة العالمية للتحذير من تفشي الوباء جراء تلوث المياه ومشكلات النظافة والصرف الصحي في مخيمات النازحين والمجتمع المحلي.
وعلى نحو أقلّ، دونت سجلات الصحة انتشار أوبئة أخرى لا تقل خطورة – لا سيما في المناطق المتأثرة بالحرب – مثل حمى الضنك، والملاريا، والتهابات الملتحمة والرمد.
ورغم هذه السلسلة من الأرقام المفزعة، يرى كثيرون أن صعوبة الوصول إلى المناطق المنكوبة والمتأثرة بالصراع، يجعل من أرقام الضحايا أكثر بكثير من تلك المعلن عنها.
تقصي حقائق
يرى الباحث في قضايا مياه النيل في وزارة الري، نبيل محمود، أن تأثيرات الحرب الكارثية، وضعف البنية التحتية، وانهيار الاقتصاد، أمور ضاعفت مجتمعة من كارثة السيول والفيضانات على نحو غير مسبوق. ويقول لـ”نون بوست” إن توجيه الجيش والدعم السريع لكل تركيزهما على الخيار العسكري، أدى في نهاية المطاف، إلى ترك المواطن لمصيره المجهول.
وفي طي المجهول، ذهب المخيال الجمعي إلى مذاهبٍ شتى في شأن كارثة السيول والأمطار، فهناك من يتهم إثيوبيا بأنها وراء الكارثة، إما بفتح بوابات سد النهضة وتمرير كميات كبيرة من المياه لتجربة توربينات توليد الكهرباء، وإما لتخزينها كميات مهولة من المياه لتشغيل السد، ما ساهم في زيادة معدلات التبخر وتكوين السحب وبالتالي معدلات الأمطار.
رأي ثانٍ، يشير بسبابة الاتهام للإمارات التي يتهمها الجيش بدعم المليشيا المسلحة، من خلال نقل تجارب الاستمطار إلى مناطق سيطرة الجيش، لخلق مزيد من الأزمات للجنرال عبد الفتاح البرهان وأركان حربه.
لكن وفي رأي يبدو أكثر واقعية، استبعد نبيل محمود هذه التحليلات، وقال إن السودان يشهد في السنوات الأخيرة معدلات أمطار عالية، نتيجة التغيرات المناخية التي تضرب العالم برمته، مستدلًا بمواسم فيضانات مدمرة في العقود الأخيرة، بعضها قبل البدء في بناء سد النهضة أعوام (2007، 2013) ولاحقًا بعد وصول السد إلى مراحل متقدمة في (2020، 2022).
وأشار إلى وجود حاجة ملحة لمواكبة هذه التغيرات، بمشروعات بنى تحتية مدروسة، ومشروعات حصاد المياه، لكنه عاد واستدرك “يبدو ذلك كأمر مترف حاليًا لكن لنأمل بحدوثه في المستقبل”.
غياب الدولة
حذرت الأمم المتحدة من أن يصبح السودان بؤرة لانتشار الأوبئة، بعد مرور أكثر من عام على الحرب، وخروج 75% من المرافق الصحية عن حيز تقديم الخدمة.
ويعاني القطاع الصحي كذلك من نقص حاد في الكادر البشري والأدوية والعقارات والمستلزمات الطبية، فيما أصبح الوصول إلى الرعاية الصحية شبه مستحيل في المناطق المتأثرة بالصراع ما يعرض الآلاف – خاصة أصحاب الأمراض المزمنة – للخطر.
وفاقم انهيار القطاعات الاقتصادية، وانهيار العملة المحلية أمام سلة العملات الأجنبية، وتعطل وصول المساعدات الإنسانية، من الأزمات الصحية.
اختصاصي أمراض الباطنية، الدكتور مؤيد إبراهيم، توقع حدوث كارثة صحية في البلاد، جراء النقص الحاد في الرعاية الصحية، والماء النظيف والغذاء، محذرًا من عودة أوبئة مندثرة مثل شلل الأطفال والحصبة.
وقال إبراهيم لـ”نون بوست”، إن السيول والفيضانات وما سببته من انتشار لنواقل الأمراض (الباعوض والذباب)، والبيئات الملوثة الناجمة عن اختلاط المياه بالصرف الصحي، تنذر بتفشي قاتل للكوليرا والملاريا والإسهالات.
ودعا المنظمات الدولية للتدخل العاجل، معتبرًا موقفها الحالي لا يرقى إلى مستوى الكارثة، وفي السياق ذاته، دعا الأطراف المتقاتلة إلى تحكيم صوت العقل والسماح بتمرير المساعدات الإنسانية، وحماية الكوادر الطبية والمرافق الصحية من الانتهاكات.
وكانت منظمة أطباء بلا حدود، وثقت أكثر من 60 حادثة هجوم على طواقمها ومنشآتها في السودان.
تقصي جذور أزمات السودانيين الحالي، يفضي إلى تحليلات عديدة، تنسدل من جديلتها أزمة هوية حادة، وعلاقات سياسية مضطربة، وفساد ينخر في عظم كل شيء، وصولًا إلى التحليل الغيبي الذي يفسر ما يجري على أنه غضب إلهي.
وبغض الطرف عن كل هذه الأسباب، وأيًا تكن المعالجات المقترحة، فلا جدوى منها إن لم تبدأ بوقف الاقتتال الدامي الذي يدفع فاتورته البسطاء، وفي ذلك سبب في تعافي الناس والاقتصاد، ولنتضرع وندعو الله أن يتأتى ذلك بوعي السودانيين لا بالعصا الدولية الغليظة.