منذ تداول اسمه في الأوساط الإدارية والإعلامية للنظام السوري قبل نحو شهر، باعتباره المرشح الأوفر حظًا لهذه المهمة، شكل تعيين محمد غازي الجلالي رئيسًا للوزراء مفاجأة للكثيرين، باعتبار أن اختياره كسر إحدى القواعد التقليدية على هذا الصعيد، الأمر الذي وضعه البعض في سياق ادعاءات الإصلاح الإداري الذي يروج له النظام، بينما رأى آخرون أن ما جرى يعد تأكيدًا على أن لا شيء يتغيير في “سوريا الأسد”.
البعث العربي الجديد
القاعدة الرئيسية التي كسرها اختيار الجلالي لرئاسة الحكومة تكمن في أنه كان بعيدًا عن المناصب الرسمية منذ عام 2016، وهو ما يخالف العادة التي جرت بأن يكون اختيار رئيس الوزراء من ضمن الوزراء في الحكومة المنتهي تكليفها أو من أحد المحافظين.
أما الجلالي فقد تفرغ للعمل في مؤسسات غير حكومية منذ نحو ثماني سنوات، قبل أن يتم اختياره أواخر 2023 لعضوية اللجنة المركزية لحزب البعث، التي تأتي في المرتبة الثانية بعد القيادة المركزية للحزب، وكانت تعرف سابقًا باسم بالقيادة القطرية قبل أن يتم تغييرها منذ عام 2018، عندما تقرر إلغاء البعد العابر للحدود للحزب القومي العروبي.
إلغاء القيادة القطرية للحزب يعني إلغاء القيادة القومية، في إطار ما روج له البعث السوري من إصلاحات وتغييرات، كان هدفها الأول إرضاء الدول العربية، بعد وعود من الإمارات العربية المتحدة بإمكانية دفع الدول العربية للتطبيع مع دمشق حال أقدم النظام السوري على هذا النوع من الخطوات، وهو ما أيده السياسي السوري المعارض، والوزير السابق في الحكومة السورية المؤقتة، ياسين النجار، الذي أشار إلى أن “اختيار الجلالي بمثابة مسك بهلواني للعصا من المنتصف، من جانب النظام، بين العرب وبين إيران”.
ويقول النجار في حديثه مع “نون بوست”: “اللافت أن الجلالي رخص لشركة الديار الدمشقية في سبتمبر/أيلول 2018، أي قبل شهرين من لقائه مسؤولي شركة داماك العقارية الإماراتية في 20 ديسمبر/كانون الأول 2018 في فندق الفورسيزن بدمشق، وهذا الاجتماع حضره شريكه أحمد محمود كوكش، نقيب المهندسين في دمشق ، وماهر برهان الدين، إمام مدير مجموعة تيلسا، والمدرج سابقًا على قوائم العقوبات الأوروبية، وشريكه عامر دلول نائب رئيس الغرفة السورية-الإيرانية التجارية المشتركة”.
ويرى النجار أنه بالنظر إلى الاجتماع السابق بين الجلالي والإماراتيين، فإن اختياره لمنصب رئيس الحكومة، يدخل ضمن تقاطع المصالح الإماراتية-الإيرانية، وهي “الصيغة المجربة في سوريا منذ عام 2018 من خلال شراكات عدة من هذا النوع، ويثبت تنصيبه أن الأمور تسير ضمن خط السيطرة الإيراني على المواقع التنفيذية، بعد أن هيمنت على جهاز المخابرات والفرق العسكرية التي تراقبها روسيا بعناية”.
نسف “بارقة الأمل”
ينسف اختيار الجلالي لترؤس الحكومة بارقة الأمل التي تحسسها السوريون في مناطق سيطرة النظام، بعد الإجراءات الحزبية الأخيرة، وانتخابات “مجلس الشعب” التي جرت قبل نحو شهر.
فبعد سلسلة خطوات كان هدفها الإيحاء بفك ارتباط حزب البعث الحاكم، أو هيمنته بالأحرى، على مؤسسات الدولة، وعمليات الدمج التي طالت بعض الأجهزة الأمنية، ووضعت في إطار “الإصلاحات”، تفاجأ الكثيرون بوصول أشخاص غير متوقعين إلى البرلمان، بينهم أكثر من 40 شخصية عشائرية وتكنوقراطية ومن أبناء المدن الرئيسية، يصنفون على أنهم “محترمون” سمح النظام بوصولهم إلى مجلس شعب بشكل معاكس لكل التوقعات، الأمر الذي تفاءل به المؤيدون واعتبروه مؤشرًا على جدية الوعود الإصلاحية، بينما رأى فيه المعارضون استثمارًا بهذه الشخصيات التي اعتزلت الشأن العام منذ بداية الثورة عام 2011 والتزمت الحياد.
ورغم أن الكثير من حاضنة النظام وضعوا اختيار محمد غازي الجلالي لرئاسة الحكومة، في سياق تأكيد خطوات التغيير وبدء مرحلة جديدة من الحكم في البلاد، فإن الكثير من المؤشرات لا يبدو أنها تخدم هذه السردية، فرغم أن الأخير لم يتسلم أي منصب حكومي منذ عام 2016، شغل مهمات يبدو أنها كانت حساسة جدًا بالنسبة للأسرة الحاكمة.
ورغم محاولات وسائل إعلام النظام والدول العربية المطبعة معه إغفال عمله في مجلس إدارة شركة “سيرتيل”، بل وهندسة التنازل لها عن عقد تشغيل شركتي الاتصالات الخلوية في البلاد عام 2014، فإن هذه العلامة تبقى أبرز النقاط في سجله الوظيفي، ومؤشرًا مهمًا في الحكم عليه.
يقول ياسين النجار: “علاقة الزمالة بين الجلالي ورامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، ومالك شركة سيرتيل، في المرحلة الجامعية، جعلته مرشحًا للانضمام لفريق عمل مخلوف في مجال الاتصالات، حيث تم تعيينه معاونًا لوزير الاتصالات منذ عام 2008 حتى عام 2014، ومن ثم تسميته وزيرًا للاتصالات بين عامي 2014 و 2016”.
ويضيف: “انتقال الجلالي من مجال تخصصه في القطاع الإنشائي إلى قطاع الاتصالات، أكبر دليل على جهوزيته للعب دور الميسر، حيث نفذ قضية التلاعب بأنماط العقود التي تخصص بها، وأصبحت ضرورية بعد أن حان وقت عودة شركات الخليوي لملكية الدولة التي كانت خاضعة لعقود BOT، والتي تعني الاستثمار لمدة محددة بعد بناء الشبكة، ومن ثم تؤول ملكيتها للقطاع العام، لكن تم التنازل عنها عندما أصبح الجلالي وزيرًا للاتصالات”.
سيرة الجلالي
بعد انتهاء المهمة الموكلة للجلالي في وزارة الاتصالات، تم سحبه من المسرح الحكومي منذ عام 2016 حيث لعب دورًا استراتيجيًا لصالح آل الأسد، وكان أحد رجالات القصر الجمهوري في التواصل مع الدول الإقليمية، بعد تقديمه كشخصية أكاديمية، فعمل بجامعة اليرموك الأردنية، وبعد ذلك في الجامعة السورية الخاصة، ومن ثم في مجال عقود المقاولات، حيث ساهم مع رجال أعمال آخرين بدور غير مباشر في التحايل على العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام.
في السيرة الذاتية الرسمية لرئيس وزراء حكومة النظام الجديدة نقرأ أيضًا أن “الجلالي من مواليد دمشق عام 1969، ينحدر من قرى الجولان المحتل، وحاصل على إجازة في الهندسة المدنية من جامعة دمشق عام 1992، ودكتوراه في الاقتصاد الهندسي من جامعة عين شمس في القاهرة عام 2000، وهو أول شخصية من الجولان يتم تكليفها برئاسة الحكومة في عهدي الأسد الأب والأسد الأبن”.
وإلى جانب الشهادة الأكاديمية والموقع الحزبي المتقدم، جرت العادة منذ عام 1970 أن يكون رئيس الوزراء من المكون السني، الأمر الذي يضعه السوريون في إطار تحميل النظام المهيمن عليه من الطائفة العلوية التي ينتمي إليه “الرئيس”، المسؤولية عن الفساد والفشل الإداري، للمسؤولين السنة.
ورغم أن الحكومة المنتهية ولايتها قد واجهت اتهامات من المؤيدين للنظام بالتقصير والفشل والفساد أيضًا، إلى حد أن هناك من توقع إحالة رئيسها حسين عرنوس للتحقيق أو الملاحقة، أقيم حفل وداع لها في مقر الحكومة بدمشق، مع التقاط صورة جماعية لها قبل تسليم المكاتب للوزراء الجدد.
شماعة المسؤولين السنة
مع ذلك لا يرى الحقوقي والسياسي السوري المعارض محمود حمام في ما حدث خروجًا عن النص “النظامي”، مؤكدًا أن ما تسمى السلطة التنفيذية في سوريا، لا تعدو أن تكون شماعة للنظام الطائفي، يعلق عليها فساده باستمرار، من خلال زج أكبر عدد ممكن من غير العلويين فيها، بحيث يتحمل الوزراء مع رئيسهم المسؤولية القانونية في النهاية.
ويقول في تصريح لـ”نون بوست”: “القرار في سوريا أولًا وأخيرًا في يد القصر الرئاسي والأجهزة الأمنية، أما السلطة التنفيذية فهي واجهة بروتوكولية لا أكثر، وكل وزارة لها مكتب مواز في القصر، هو من يصدر القوانين والقرارات، والوزراء دورهم التوقيع عليها، مع منحهم هامشًا بسيطًا جدًا لا أكثر”.
ويضيف: “النظام يأتي بشخصيات طيعة ويسلمها المناصب الوزارية والإدارية، مع ضمان عدم اعتراضها على أي شيء، وحتى عندما يكلفها بذلك فهو يقدم الأمر على أساس أنه امتياز يتكرم به على من يختارهم بعد دراسات أمنية مستفيضة، مع التأكد من عدم امتلاك هذه الشخصيات أي طموحات أو تطلعات سياسية أو شخصية، والوحيد الذي يمكن اعتباره استثناءً على هذا الصعيد هو رياض حجاب، الذي أعتقد أن الجهات التي رشحته أو زكته ليكون رئيسًا للوزراء. قد دفعت الثمن بعد انشقاقه عام 2012”.
حمام لا يحصر هذا النوع من التعامل بمؤسسة الحكومة فقط، بل يؤكد أنه يشمل كل أجهزة الدولة الإدارية والخدمية، وكذلك مجلس الشعب، “الذي نادرًا ما سمح بوصول المتمردين إليه”، مشيرًا “أنه وفي ضوء العقود الخمس الماضية من حكم آل الأسد، لا يمكن التعويل على أي أسماء أو تغييرات يتم إحداثها مهما كانت جذابة، طالما أن كل شيء بيد القصر الجمهوري والأجهزة الأمنية”.
عام 2000 عرض مسلسل سوري حفر اسمه بقوة بين أشهر الأعمال الدرامية العربية، وحمل اسم “سيرة آل الجلالي”، وفي هذا المسلسل قدم الكاتب خالد خليفة والمخرج هيثم حقي رجلًا حلبيًا جمع ثروة طائلة من المال الحرام ليقتل بالنهاية على يد شقيقه.
هي الصدفة فقط التي جعلت اللقب يجمع بين الحاج أمين الجلالي في المسلسل، ومحمد غازي الجلالي في الواقع اليوم، لكن أي مصير ينتظر هذا الأخير وقد بلغ ذروة السلطة التنفيذية في سوريا كرئيس للوزراء؟
يقول البعض إن مرحلة إعادة الإعمار المنتظرة والتي تقدر بنصف تريليون دولار، ويطمع الأسد في الاستيلاء عليها مع شريكيه الإيراني والروسي، هي ما منحت الجلالي الحظ ليحظى بهذا المنصب، بينما يؤكد الواقع أن لا هذا المنصب ولا اسم من يشغله سيشكل أي فارق بالنهاية طالما بقي النظام الأسدي حاكمًا في سوريا، التي كل المسؤولين فيها بمثابة بيادق وأحجار شطرنج.