خلال الأيام الماضية أثارت تصريحات للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، موجة من التكهنات والتفسيرات، عقب حديثه عن “خطة سايكس بيكو” جديدة في منطقة الشرق الأوسط، بناء على التحركات العسكرية الإسرائيلية في المنطقة وخاصة في قطاع غزة ولبنان.
وفي كلمة له خلال الجلسة الافتتاحية للدورة الثامنة والعشرين للبرلمان التركي، قال أردوغان إن “إسرائيل” تتصرف وفق منطق ديني يخص ما أسمّاه ” وهم أرض الميعاد”، وبناءً على ذلك أضاف: “المكان الذي ستضع الإدارة الإسرائيلية نصب عينيها، بعد فلسطين ولبنان، بتعصب ديني كامل، سيكون وطننا. في الوقت الحالي، كل شيء يدور حول هذا الأمر”.
الأناضول ضمن “الحلم الإسرائيلي”
أكمل أردوغان أن هذا التحذير “لا يفهمه بعض أصدقاء إسرائيل في تركيا، وبعض محبّي الصهيونية، وأجهزة الدعاية الصهيونية الطوعية أو المدفوعة”، وأن “حكومة نتنياهو تحلم بحلم فجّ يشمل الأناضول”.
وبعد ثلاثة أيام فقط، أعاد أردوغان في كلمة له ضمن مهرجان الطيران والفضاء والتكنولوجيا “تكنوفيست” بولاية أضنة جنوب تركيا، الحديث عما أسمّاها “خطة إسرائيلية خبيثة قيد التنفيذ ولن تقتصر على غزة والضفة الغربية ولبنان، ولا ينبغي أن يكون المرء منجّمًا لمعرفة هدفها النهائي”، وأضاف أن تركيا “لن تتغاضى عن تمزيق المنطقة مجددًا عبر خطة تقسيم سايكس بيكو جديدة”.
بدت تصريحات أردوغان السابقة نوعًا من “المبالغة في التحذير” في ظل عدة عوامل، أبرزها أنه لا يوجد أي حدود مشتركة بين تركيا والكيان الإسرائيلي، وأن تركيا لا يمكن تشبيهها بأي حال، بالأطراف التي تواجهها إسرائيل في “دول الطّوق”، غير أن الرئيس التركي ربط تحذيراته بما يُعرف بـ”حلم إسرائيل الكبرى” الذي يمتدّ بين نهري النيل والفرات، ويشمل أراضٍ تقع حاليًا في الجنوب التركي.
قوبلت تصريحات أردوغان بموجة من التشكيك من المعارضة التركية، وفي مقدمتها حزب “الشعب الجمهوري”، الذي طالب زعيمه، أوزغور أوزيل، بعقد جلسة في البرلمان لتوضيح أكبر حول التهديدات الإسرائيلية تجاه تركيا، كما وصف أوزيل الحديث عن غزو عسكري إسرائيلي لبلاده بأنه أمر “لا يدخل العقل”.
وأضاف أوزيل بحسب ما نقل موقع صحيفة Son Dakika بالقول: “ما يقلقني هو أن يتم إثارة هذه القضية كأجندة مُصطنعة، ومحاولة استعادة السمعة السياسية المفقودة بسبب المخاوف الأمنية. إذا حاول أي شخص القيام بذلك، فسوف أقوم بفضحه. إذا كانت هناك مشكلات أمنية حقيقية لا نعرف عنها شيئًا، فسنفعل كل ما في وسعنا حيال ذلك”.
وخلال عودته بالطائرة من زيارة لصربيا وألبانيا، في 12 أكتوبر/تشرين الثاني الحالي، حاول أردوغان الدخول أكثر في تفسير حديثه عن “الحلم الإسرائيلي”، وقال: “إنهم يقولون صراحة إنهم سيغزون دمشق بعد لبنان. واحتلال دمشق يعني قدوم الجنود الإسرائيليين إلى الحدود التركية والتفكك الكامل للخريطة السورية”.
“ضمان الردع” التركي
ومع أهميتها في سياق الأحداث الجارية، تكتسب تصريحات أردوغان أهمية إضافية عند تأكيدها من الرجل القوي الثاني في تركيا زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهشتلي، الذي قال في كلمة له أمام البرلمان التركي، إن القضية اليوم “ليست بيروت، بل أنقرة”، وأضاف: “اليوم، الهدف ليس دمشق أو طهران أو صنعاء أو بغداد، بل إسطنبول. اليوم، الأجندة الكامنة والخفية هي الوطن التركي”.
وتكررت تصريحات الرئيس التركي وحليفه القومي، على لسان وزير الدفاع، يشار غولر، الذي أعاد الحديث عن “جر المنطقة إلى اضطرابات كبيرة بسبب جهود إسرائيل لنشر إرهاب الدولة في لبنان”.
وفي كلمة له خلال مشاركته في فعاليات يوم المراقب المتميز لتمرين “فري فاير 2024” بالقرب من العاصمة أنقرة، قال غولر، إن “جهود إسرائيل لنشر إرهاب الدولة والاضطهاد في لبنان بعد فلسطين وقطاع غزة، زادت من خطر جر المنطقة الجنوبية (لتركيا) إلى اضطرابات كبيرة”.
وأضاف: “في ظل هذه الأجواء الحرجة، يمكننا ضمان الردع بشكل أفضل من خلال الاستعداد لجميع السيناريوهات المحتملة وانتهاج سياسات استباقية.. الصراعات الخارجية، لا سيما في المنطقة القريبة (من تركيا)، وتهديد الإرهاب والصراعات الجيوسياسية تحتّم على الجيش التركي زيادة جاهزيته القتالية”.
وباعتبار أن التصريح جاء على لسان وزير الدفاع، فهذا يؤشر إلى أن أنقرة لا تنظر إلى تلك التهديدات المحتملة على أنها مجرد “أجندة مُصطنعة” وفق تعبير زعيم المعارضة التركية أوزغور أوزيل، إنما يمكن القول إنها تؤسس لسياسة تركية جديدة في الساحة السورية، انطلاقًا من مبدأ تأمين “الممر الجنوبي”، الذي على أساسه نفذت تركيا ثلاث عمليات عسكرية بين العامين 2016 و2019، ضد تنظيمي داعش وقسد.
وتزامنت التصريحات التركية مع قيام الجيش الإسرائيلي بتوغل بري جديد في محافظة القنيطرة جنوب غرب سوريا، لتعزيز الممر البري المعروف باسم “سوفا 53″، وكان تقرير سابق لموقع “نون بوست” أشار إلى أن هذا الممر يجري تأسيسه بتوافق “إسرائيلي روسي” غير معلن، رغم وجود 12 نقطة مراقبة عسكرية روسية بمنطقة الجولان المحتل.
وهذا ما أكدته وكالة رويترز لاحقًا، نقلًا عن مصادر أمنية، عندما قالت إن الجيش الإسرائيلي يؤسس من خلال هذا التوغّل لمحاصرة “حزب الله” في جنوب لبنان من خلال الجبهة الشرقية السورية، مؤكدة انسحاب نقاط المراقبة الروسية من المنطقة.
“هياكل انفصالية” بدعم إسرائيلي
وعلى الرغم من أن الرئيس التركي طالب في التصريحات السابقة الجهتين الروسية والإيرانية بالتصدي لسعي “إسرائيل” لاحتلال دمشق، فإن صمت كل من موسكو ودمشق على ما يجري في جبهة الجولان، قد يعطي إشارة صريحة للرئيس التركي بأن المخاوف التي تحدث عنها سيكون على أنقرة مواجهتها بشكل منفرد.
في واقع الأمر، ومن حيث المنظور العسكري، لا تريد “إسرائيل” من الخريطة السورية سوى جبهة الجنوب الغربي، التي سيكون التوغل فيها بمثابة إكمال لمنطقة عازلة تمتد بين الناقورة أقصى جنوب غرب لبنان، والقنيطرة السورية شرقًا، فلماذا ألح أردوغان على فكرة وصول “إسرائيل” إلى الشمال السوري؟
في الواقع، يمكن تفسير مخاوف أردوغان من تصريحاته السابقة نفسها، إذ أومأ في أحدها للطريقة التي تريد عن طريقها “إسرائيل” تهديد تركيا، وهذا ما لا يمكن أن يكون عبر مواجهة عسكرية مباشرة، إنما من خلال “إنشاء هياكل صغيرة تابعة لها في شمال العراق وسوريا، باستخدام المنظّمة الانفصالية كأداة”، قاصدًا حزب العمال الكردستاني، وذراعه السورية قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
في مُجمل الأمر إذن، توحي تصريحات الرئيس التركي بمخاوف جدّية من سيناريو وصول “إسرائيل” لشمال شرق سوريا والجنوب التركي في مراحل قادمة، لكن ليس عن طريق التدخل العسكري المباشر، المُستبعَد تمامًا، إنما من خلال دعم مخططات لتوسيع نفوذ حزب العمال الكردستاني في العراق، وذراعه السورية “قسد”، بغاية “الانتقام” من تركيا بسبب موقفها من تل أبيب منذ بداية الحرب في غزة، وتمكين “قسد” من إنشاء “دولة انفصالية” في سوريا، كمقدمة لتقسيم الأخيرة بشكل فعلي، سواء بوجود الأسد أم عدمه، من أجل ضمان الأمن مستقبليًا على تلك الجبهة بشكل كامل، بالتوازي مع جهود تحييد الجبهة اللبنانية شمالًا.
وفي العام 2019، نقلت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، تصريحات لنائبة وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك تسيبي حوتوفلي، قالت فيها: “نحن فخورون بوقوفنا إلى جانب الشعب الكردي”، مضيفة أن الأكراد يشكّلون “حصنًا ضد انتشار النفوذ الإيراني في المنطقة”.
وجاء هذا التصريح حينها عقب إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عزم بلاده على الانسحاب من شمال شرق سوريا، وحينها نقلت الصحيفة نفسها عن حوتوفلي، أن إسرائيل تقدم مساعدات للأكراد في شمال شرق سوريا، مؤكدة تلقّي تل أبيب “العديد من طلبات المساعدة”، من جانب الوحدات الكردية في سوريا، دون كشف أي تفاصيل حول طبيعة تلك المساعدات.
وبحسب “تايمز أوف إسرائيل”، فإن تصريحات حوتوفلي هي أول تأكيد على أن “إسرائيل” نفذت التعهد الذي قطعه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2019، بمساعدة الأكراد السوريين.
وقال نتنياهو في بيان أصدره مكتبه في ذلك الوقت: “تدين إسرائيل بشدة الغزو التركي للمناطق الكردية في سوريا (في إشارة لعملية نبع السلام”)، وتحذّر من التطهير العرقي للأكراد من قبل تركيا ووكلائها”، وأضاف: “إسرائيل مستعدة لتقديم المساعدة الإنسانية للشعب الكردي الشجاع”.
من خلال كل ما سبق، يبدو أن تركيا ليست بصدد “الوقوف مكتوفة اليدين”، وفق تعبير أردوغان نفسه في التصريحات السابقة، لا سيما أنها تتوقع انحسارًا كبيرًا للنفوذ الإيراني في سوريا، تخشى أنقرة من سيناريو استغلاله وملئه من “قسد”، وفي ظل عدم قدرة نظام الأسد أو حليفته روسيا على إيقاف تنفيذ هذا السيناريو – الذي قد يتمّ بدعم أمريكي مباشر – يُرجّح أن الفترة المقبلة ستشهد عمليات عسكرية تركية في الشريط الحدودي مع سوريا، وقد تلجأ تركيا كذلك لإنشاء ممر أمني خاص بها بعمق 40 كيلومترًا، دون انتظار موافقة دمشق أو موسكو أو واشنطن، في حال رصد أي نشاط عسكري جديد لقسد في مناطق نفوذ أنقرة أو داخل الأراضي التركية.
وأخيرًا، يمكن فهم جدية تحذيرات أردوغان وعزم أنقرة على مواجهة هذا السيناريو، من خلال الزيارة الميدانية التي أجراها قائد القوات البرية التركية، سلجوق بيرقدار أوغلو، إلى الشمال السوري، وتحديدًا في منطقة عمليات “غصن الزيتون” بعفرين، مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري، والتي تفقّد خلالها القواعد العسكرية التركية هناك، ولا بد – وفق المنظور الاستباقي التركي – أن يشهد الشمال السوري مزيدًا من الزيارات لمسؤولين عسكريين أتراك، تمهيدًا لتطورات قد تشهدها تلك المنطقة، مرتبطة بالتطورات في جنوب غرب سوريا.
📹 Suriye – Türk Kara Kuvvetleri Komutanı Orgeneral Selçuk Bayraktaroğlu, Suriye’de Zeytin Dalı Harekât bölgesinde bulunan üs bölgesinde inceleme ve denetlemelerde bulundu.#Azez #Afrin pic.twitter.com/ox1uatRObW
— Mete Sohtaoğlu (@metesohtaoglu) October 4, 2024