بعد أكثر من عام على شن جيش الاحتلال حرب الإبادة في غزة، تواجه عناصره أزمات نفسية حادة بعد عودتهم من جبهات القتال، نتيجة ارتكابهم لمجازر جماعية راح ضحيتها أكثر من 42 ألفًا و500 شهيد حتى الآن، كما تعرض الجنود لصدمات نفسية نتيجة الاشتباكات العنيفة مع مقاتلي المقاومة الفلسطينية ووقوعهم في كمائن مرعبة تترك آثارًا طويلة الأمد في ذاكرتهم، حتى بعد مغادرتهم القطاع.
وأظهرت بيانات صادرة عن شعبة إعادة التأهيل في وزارة الدفاع الإسرائيلية، في أغسطس/آب الماضي، أن أكثر من ثلث الجنود المستبعدين من القتال تم إقصاؤهم لأسباب نفسية وعقلية، وتؤكد التقارير أنه يتم إخراج ما يزيد على 1000 جندي شهريًا من غزة لتلقي العلاج، حيث يعاني 35% منهم من اضطرابات عقلية، و27% من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.
ويعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل متكرر عن إصابات جسدية في صفوف جنوده، وخاصة تلك التي تطال الأطراف، نتيجة الاشتباكات المباشرة على مسافات قريبة في أثناء وجودهم داخل مركباتهم، ويحاول الجيش التكتّم بشأن أعداد الجنود الذين يعانون من اضطرابات نفسية، خشية تأثير ذلك على معنويات القوات وامتناع الجنود عن العودة إلى جبهات القتال، إضافة إلى تجنب الوصمة الاجتماعية التي قد تلحق بالجنود المصابين، إذ يُنظر إليهم في أوساطهم كمتخاذلين.
الأمراض النفسية تفتك بالجيش
ظاهرة تفشي الأمراض النفسية بين جنود جيش الاحتلال ليست جديدة، إذ يعانون من آثار نفسية عميقة بعد كل حرب يشنها الجيش على الفلسطينيين، نتيجة بشاعة المجازر التي يرتكبونها بحق المدنيين وما يصاحبها من عنف مفرط.
في عام 2003، كشفت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية عن إحصائيات صادرة عن قسم التأهيل في الجيش الإسرائيلي، تظهر أن حالات الانتحار بين الجنود تجاوزت أعداد القتلى خلال العمليات العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ووفقًا للتقرير، انتحر 43 جنديًا إسرائيليًا خلال ذلك العام.
في عام 2021، كان الانتحار هو السبب الرئيسي للوفاة بين جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، حسبما ذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل“، نقلًا عن بيانات عسكرية أظهرت أن 11 جنديًا على الأقل انتحروا في ذلك العام.
لكن هذه المرة، تبدو ظاهرة تفشي الأمراض النفسية أكثر خطورة وانتشارًا من السابق، ويعود سبب ذلك إلى انخراط الجنود في وقائع صادمة لم يكونوا مستعدين لها نفسيًا، بالإضافة إلى طول أمد الحرب، التي تعد الأطول في تاريخ دولة الاحتلال، كما أن اضطرار الجنود للعودة إلى جبهة غزة عدة مرات فاقم من معاناتهم، ما جعل هذه الأزمات النفسية أشد عمقًا وأصعب في التعامل معها مقارنة بالحروب السابقة.
في تقرير لشبكة “سي إن إن” قبل أيام، نقلت عن جنود إسرائيليين عائدين من غزة بعد إنهاء خدمتهم العسكرية، وفيه زعم زاكين وهو جندي سابق، معاناته من صدمة نفسية مع كثير من رفاقه، إذ صرّح علنًا إقدامه على “دهس المئات من الفلسطينيين الأحياء والأموات” وهو يشاهد أجسادهم تتمزق من داخل مركبته العسكرية.
وأضاف قائلًا أنه لم يعد قادرًا على أكل اللحوم، لأن هذا يذكره بالمشاهد البشعة – التي أقدم على ارتكابها – في غزة، وهو الآن يكافح من أجل النوم ليلًا فيما لا يفارق رأسه صوت الانفجارات.
ويبرر جنود جيش الاحتلال، في التقرير المذكور، جرائمهم بوجود رجال المقاومة الفلسطينية بين المدنيين، مؤكدين أن عناصر المقاومة يتنقلون علنًا في الشوارع والمنازل خلال النهار، بعكس ما روج له الإعلام الإسرائيلي على مدار سنوات، بأنهم يختبئون دائمًا في الأنفاق. وادعى الجنود أن هذا الوضع جعل من الصعب عليهم “التفريق بين مقاتلي حماس والمدنيين العزل”، ما زاد من تعقيد قراراتهم خلال الاشتباكات.
تنفق وزارة الحرب الإسرائيلية موارد كبيرة جدًا على العلاج النفسي للجنود، وتقديم الدعم السلوكي والمالي الفوري للعائدين من جبهات القتال. فقد ذكر قسم إعادة التأهيل في الجيش تقديم المساعدة لقرابة 7 آلاف جندي وفرد أمن في الفترة ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويونيو/حزيران 2024، يمرّ ثلثهم تقريبًا بمرحلة ردود فعل عنيفة جراء قتالهم في غزة.
بينما يرجح أطباء علم النفس أن تجارب سكان غزة العنيفة على مدار 17 عامًا من الحصار والتعرض لهجمات مستمرة من الاحتلال، أوصلتهم إلى مستوى جديد من الصدمة النفسية، يصعب على الطب الحيوي التقليدي فهمه ومعالجته “نظرًا لعدم وجود مرحلة ما بعد الصدمة في سياق غزة”.
خائفون من العودة إلى غزة
يعاني جيش الاحتلال من نقص مستمر في الجنود، بالتوازي مع ارتفاع وتيرة المواجهات المباشرة مع المقاومة، ما يجبره على إعادة إرسال الجنود المصابين إلى الجبهة، في حال لم تكن إصاباتهم من النوع الخطير أو الدائم. ما يعني عدم قدرة الجندي على تلقي ما يكفي من العلاج أو أخذ قسط كافي من الراحة حتى يجد نفسه مضطرًا للقتال مرة أخرى.
في يونيو/حزيران الماضي، أقدم إليران مزراحي (40 عامًا)، وهو مقاتل في جيش الاحتلال، على الانتحار قبل يومين من عودته إلى غزة مجددًا، بعد أن أمضى 186 يومًا من القتال الذي تطوع لأجله “بعد أن هزّه هجوم حماس في السابع من أكتوبر”، حيث كان مكلّفًا بقيادة جرافة D-9، وهي مركبة مدرّعة تزن 62 طنًا.
عائلة مزراحي، الذي كان يعمل مديرًا في شركة بناء إسرائيلية، قالت إنه أُخرج من غزة بعد إصابته في ركبته، تلاها تلف في السمع نتيجة تعرضه لقصف صاروخي داخل مركبته. وتم تشخيصه لاحقًا باضطراب ما بعد الصدمة حيث تلقى عدة أنواع من العلاج النفسي والسلوكي، لكنه لم يحقق تحسًنا ملحوظًا.
توضح والدة مزراحي بأنه كان يمرّ بنوبات من الغضب والأرق والانسحاب الاجتماعي، كما أخبر عائلته مرات عدة أن أولئك الذين كانوا معه في غزة فقط هم من يمكنهم فهم ما يمر به، وتدّعي أنها لم تربي ابنها على القتل، لكنه – على ما يبدو – صدم بقوة حين أقدم على فعل كهذا.
طبيب في جيش الدفاع الإسرائيلي، خدم عسكريًا لمدة 4 أشهر في غزة، أكد لشبكة “سي إن إن”، أن “الجنود الإسرائيليين باتوا اليوم يعلمون أن ثمن الخوض في حرب عنيفة كهذه قد يكلفهم صحتهم النفسية التي لا يمكن دائمًا تجاوزها والتعافي منها”.
المجتمع يفرض عليهم عزلة
لا يكتفي المجتمع الإسرائيلي “المدني” بالاحتفال بارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين، أو اعتراض شاحنات الغذاء والدواء المتجهة لكسر الحصار عن غزة فقط، بل يواصل إرهابه داخليًا عبر وصم الجنود العائدين من غزة بصفات مهينة مثل “الجبان” و”المتخاذل” و”الضعيف”.
هذا الوصم يستهدف كل من يرفض العودة إلى جبهة القتال أو يمتنع عن ارتكاب المزيد من الجرائم بحق أفراد المقاومة وسكان القطاع، ما يزيد الضغوط النفسية على هؤلاء الجنود، ويفاقم أزمتهم النفسية.
في تقرير نشره موقع حركة “أيش” اليهودية المعنية بدعم المجتمع اليهودي حول العالم، أكد أن الجنود الإسرائيليين الذين تم إدخالهم لوحدات العناية النفسية المشددة بعد عودتهم من غزة، يلجؤون بشكل متزايد لاستهلاك الكحوليات وتعاطي المخدرات، في سبيل تجاوز ما عايشوه داخل غزة من صدمات في أثناء اشتباكهم مع رجال المقاومة.
كما يعاني آلاف الجنود الإسرائيليين من كوابيس وأحلام يقظة متكررة، يرون فيها أنفسهم محاصرين أو مقتولين بعيدًا عن رفاقهم، وتأتي هذه الأعراض النفسية نتيجة الحرب التي يخوضونها ضد مقاومي “حماس”، حيث تفرض عليهم هذه الحرب مواجهات فردية ومباشرة.
وفي كثير من الأحيان، يُجبر الجنود على التنقل بشكل منفرد والاختباء لساعات طويلة في أماكن مجهولة لهم، ما يزيد من حدة التوتر والضغوط النفسية التي تبقى عالقة حتى بعد مغادرتهم ميدان القتال.
وحسب إحصائية أجرتها مجموعة جامعات إسرائيلية، فقد أبلغ 8 آلاف جندي إسرائيلي عن تعرضهم لصدمة نفسية خلال وجودهم في قطاع غزة، وتشير التوقعات إلى أن 5.3% من سكان “إسرائيل” قد يصابون مستقبلًا باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) نتيجة للحرب الجارية في غزة ولبنان.
فيما يفرض المجتمع الإسرائيلي نوعًا من العزلة على الجنود “المتوانين” عن أداء مهمتهم والعودة إلى ساحات القتال، هم وعائلاتهم، ويحرمهم بشكل غير مباشر من تلقي الدعم المجتمعي “الذي يحتاجونه كأي جرحى آخرين فقدوا أحد أطرافهم”.
وختامًا، يواجه نظام الصحة النفسية في “إسرائيل” خطر الانهيار الوشيك، بسبب الارتفاع المتسارع في الطلب على خدمات الدعم النفسي والسلوكي والأسري، خاصة مع توسع الحرب على الجبهة الشمالية واستنزاف الموارد البشرية، وسبق أن حذرت صحيفة “هآرتس” العبرية، في تقرير مطلع العام الجاري، من انهيار هذه المنظومة، لا سيما مع تزايد هجرة الأطباء النفسيين إلى بريطانيا بحثًا عن الأمان والاستقرار.