حوّلت مليشيا الدعم السريع الجزيرة في وسط السودان – من أكبر الولايات زراعية – إلى نسخة مرعبة من رواندا التسعينيات، حدْ أن وجدت الجرارات مهنة جديدة تتمثل في حفر الأرض لدفن الجثامين، فيما صارت المواسم الزراعية أوقاتًا لحصد القتلى عوضًا عن المحاصيل.
ومع أن الموت صار ملازمًا للولاية الواقعة جنوبي الخرطوم، منذ احتلالها بواسطة عناصر الدعم السريع في ديسمبر/كانون الأول 2023، فإن ما جرى في آخر الأيام، فاق سوء الظن العريض، حيث ارتكبت المليشيا مجازر وجرائم حرب مروعة، في ظل تجاهل عالمي، هو السمة الأبرز للمحنة السودانية المستمرة منذ أكثر من 18 شهرًا.
نهج إجرامي وصدمة أممية
أقدمت مليشيا الدعم السريع، التي تخوض حربًا ضد الجيش السوداني منذ 15 أبريل/نيسان 2023، على تنفيذ سلسلة من الهجمات الانتقامية ضد سكان ولاية الجزيرة، عقب انسلاخ قائد المليشيا بالولاية، أبو عاقلة كيكل، وانضمامه إلى صفوف الجيش.
تميزت هذه الهجمات، التي شملت القتل والتهجير القسري والاغتصاب والتنكيل، بطابعها العنصري الواضح، حيث استهدفت المليشيا، التي تتكون نواتها الصلبة من عناصر قبائل عرب دارفور، أهالي شرق الجزيرة المنحدرين من قبيلة كيكل (قبيلة الشكرية)، وشملت الحملة جميع المكونات العربية المقيمة في منطقة سهل البطانة وشرقي وغربي النيل الأزرق الذي يقسم الولاية لنصفين.
وعلى الرغم من فداحة التوصيفات القبلية، فإن ممارسات المليشيا، المدعومة بتصريحات عناصرها وقادتها على وسائل التواصل الاجتماعي، تشير إلى اتجاه قوي نحو “قبلنة الصراع” وتحويله إلى مستويات الحرب الأهلية الشاملة، أو حرب الكل ضد الكل.
وقد أثارت الجرائم التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في الجزيرة استياء الأمم المتحدة، حيث أعربت منسقة الشؤون الإنسانية في السودان، كليمنتين سلامي، عن انزعاجها البالغ إزاء التقارير التي تفيد بتصاعد العنف المسلح في الولاية، والذي أودى بحياة مئات المدنيين.
وفي بيان صحفي اطلع عليه “نون بوست”، أكدت سلامي أن التقارير الأولية في الفترة بين 20 و25 أكتوبر/تشرين الأول الجاري تشير إلى شن قوات الدعم السريع هجومًا كبيرًا في شرق الجزيرة. وأفادت بأن سكان عدة قرى، مثل صافيتا جنوب والهلالية والعزيبة، تعرضوا للاعتداءات الجسدية والإذلال والتهديدات، ما أدى إلى فرار عشرات المدنيين من منازلهم بحثًا عن الأمان، بينما يواجه من بقوا تهديدات خطيرة.
كما عبّرت عن صدمتها من تكرار انتهاكات حقوق الإنسان التي شهدتها دارفور في العام الماضي، مثل الاغتصاب والهجمات المستهدفة والعنف الجنسي والقتل الجماعي.
ميديا سوداء
تصدرت وسوم مثل “انقذوا الجزيرة“، “قرى الجزيرة تباد“، و”الدعم السريع مليشيا إرهابية” حسابات التواصل الاجتماعي في السودان، بينما حظي فيديو يظهر تنكيل قائد بالمليشيا ويدعى شارون بشيخ كبير، بتداول واسع محلي ودولي. تأتي هذه المحاولات للفت أنظار العالم إلى ما يجري في السودان، الذي يواجه أكبر أزمة إنسانية في العالم، حيث قدرت منظمة “أطباء بلا حدود” عدد القتلى بسبب الحرب بأكثر من 40 ألفًا، فيما تشير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 10 ملايين سوداني قد أجبروا على النزوح من منازلهم.
في سياق مأساة الجزيرة، يقدر مرصد “نداء الوسط” عدد القتلى في هجمات الدعم السريع بأكثر من 300 مدني، بينما تم تهجير سكان عشرات القرى الهائمين بلا هدف. وصدرت إفادات صادمة عن عمليات اغتصاب جماعي وتصفية الأسرى، وعمليات إخفاء قسري، بالإضافة إلى مطالب بدفع فدية كبيرة، علاوة على عمليات نهب واسعة للأسواق وبيوت المواطنين.
ومن بين الجرائم المروعة التي ذكرها المرصد: “إقدام المليشيا على قتل عدد من الأسرى الذين اختطفتهم من قرية السريحة ذبحًا، مع إلقاء جثثهم في الحواشات الزراعية”، و”ذبح أحد الأطفال الرضع الذي اختطفته من والدته في ذات القرية”.
ولأكثر من أسبوع، شنت المليشيا هجمات بالأسلحة الثقيلة على مدينتي تمبول ورفاعة، وارتكبت مجازر في قرى السريحة وأزرق. وبعد أن أعملت آلة الموت فيهم، هجّرت المليشيا أهالي: الجنيد، ود السيد، البويضاء، أبو جلفا، الطالبات، أم مطالة، أم تلاتة، ود الخبير، الحريزات، الحمر، السروفاب، كيران، وقتلت الكثيرين في تعدياتها على الحليلة، برانكو، الطلحة، والمعاضيد.
ومع نداءات الاستغاثة التي تفطر القلوب، انتشرت في وسائل التواصل منشورات البحث عن الآل وأولي القربى، بما في ذلك الأطفال. هذه الظاهرة تشير إلى أن خروج الناس من قراهم تم بصورة عاجلة، تحاكي مشهدًا من يوم القيامة، حيث فرّ الأهالي دون أن يجدوا وقتًا للسؤال عن أقرب الأقربين.
ووسط انقطاع شبكة الاتصالات عن الولاية منذ بداية العام، وتعليمات قائد المليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي) لجنوده بعدم التصوير، وتوقف خدمات الإنترنت الفضائي (ستارلينك) التي كانت تتربح منها المليشيا ماليًا، يبدو أن ما تمّ الكشف عنه من جرائم هو مجرد رأس جبل الجليد، وأن ما خفي أعظم.
وفي ظل هجمات المليشيا، علم “نون بوست” أن سكان القرى التي لم تتعرض للهجمات يحاولون مغادرتها باتجاه مناطق سيطرة الجيش، رغم الصعوبات الكبيرة في الحركة بسبب انتشار عناصر المليشيا في الولاية وسيطرتهم على أجزاء من ولايات مجاورة مثل الخرطوم وسنار والنيل الأبيض.
وأشار مرصد “نداء الوسط” إلى أن المليشيا منعت العديد من أهالي الجزيرة من مغادرة بيوتهم، ما يرجح أنه مسعى لاستخدامهم كدروع بشرية ضد أي محاولات لتحرير الولاية من جانب الجيش.
دماء ودموع
مع توثيق لبعض من جرائم المليشيا، اتشحت الميديا السودانية بالسواد، حيث انتشرت قوائم الموتى، ومنشورات النعي، في كل مكان.
ومن ضمن المواقف المسجلة إزاء ما يجري في الجزيرة، خرج أنصار المليشيا ليتهموا الجيش وكتائب المستنفرين التي تقاتل في صفوفه، بالوقوف وراء الهجمات في شرق الجزيرة.
وقال المتحدث باسم الدعم السريع، الفاتح قرشي، إن ما يجري في الجزيرة، هو أمر مخطط له من الجيش والحركة الإسلامية (في إشارة لمناصري نظام البشير)، للبقاء في سدة السلطة. بينما برر أنصار المليشيا المجازر بأنها دفاع عن النفس إزاء عمليات التسليح التي يقودها الجيش للمواطنين.
أما الفريق المتطرف في المليشيا فقد ذهب مباشرة إلى ضرورة إجراء عمليات تطهير عرقي بحق مكونات الوسط والشمال، ممن يقطنون في حدود الشريط النيلي، في مقاطع يصعب الإشارة إليها لما تحويه من عنصرية وبربرية وعبارات بذيئة يعف عنها اللسان.
أحمد الطاهر: “الجيش لو انتصر بعد دا حيكون انتصر لنفسه، نحن كمواطنين خسرنا كل شي”.
وفي الطرف المقابل، أعلن والي الجزيرة، الطاهر إبراهيم، حالة الاستنفار والتعبئة العامة، ودعا مواطني الولاية إلى حمل السلاح لحماية الدين والعرض.
أما كل من في نفسه ذرة من ضمير، فقد سارع للتضامن ولو بشكل خجول مع أهالي الجزيرة، أما بالإدانة، وإما بالتوثيق، وإما بدعوات لإغاثة المشردين ولفت أنظار العالم لما يجري في السودان، ويمكن رصد كل هذه التفاعلات بمتابعة الوسوم الخاصة بولاية الجزيرة.
ولكن يلزمنا توضيح بعض مواقف أهل الشأن، وأن نشير إلى حالة الاحتقان الكبيرة وسط أهالي الجزيرة، وبروز دعوات لتكوين كتائب قوامها شباب الولاية لاسترداها من يد المليشيا والمرتزقة في صفوفها.
وكما تنهال الدعوات واللعنات على المليشيا، فإن ذات حالة السخط تمتد إلى قوات الجيش لمواقفها، ابتداءً بانسحابها نهاية العام الماضي من الولاية وترك أهلها نهبًا للمليشيا، ومن ثم لمرابطتها على تخوم الولاية دون أن تحرك ساكنًا لنجدتهم من المجازر المرتكبة في حقهم.
ولعل أكثر العبارات حرقة في هذا السياق، ما كتبه أحمد الطاهر: “الجيش لو انتصر بعد دا حيكون انتصر لنفسه، نحن كمواطنين خسرنا كل شي”.