ستترك الخريطة الديمغرافية التي ستسقر عليها الأمور في سوريا أثرًا كبيرًا على شكل الدولة على المدى الطويل، وقد صاحب التغير الديمغرافي في سوريا تغيرات اجتماعية واقتصادية وتنموية أثرت في بنية المكونات العرقية والدينية والطائفية، وبالتالي فإن الوزن النوعي لهذه المكونات اختلف زيادة أو نقصانًا، حتى لو بقيت النسبة الفعلية للسكان كما هي.
وتستدعي هذه المعطيات ضرورة أن يعالج أي حل سياسي قادم مسألة الثمن الإنساني الباهظ للحرب، وأن لا يتم تحميل آثاره على مكون اجتماعي بعينه، لأن ذلك سيشكل وصفة لانفجار قادم، وثورة ستتجاوز المستوى السياسي إلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
كيف يتحدد الوزن النوعي للمكونات؟
يرتبط الوزن النوعي للمكونات في أي مجتمع بعدد من العوامل التي يتحدد بناء عليها وزن المكون في المعادلة النهائية للتأثير، ويمكن لبعض العوامل أن تكون ذات أثر كبير يمكنها من تجاوز عامل الحجم الديمغرافي، وهو ما نجده في حكم الأقليات عمومًا، حيث تحصل الأقلية على وزن نوعي في الدولة يزيد بأضعاف على وزنها السكاني الحقيقي.
1. العامل السكاني
يمثل الحجم السكاني ما يمكن أن نُسميه “العامل الطبيعي” في معادلة التأثير، حيث تملك المكونات الأكبر حجمًا قدرة أكبر على التأثير في المجتمع مقارنة مع تلك الأصغر حجمًا، لكن التطور التكنولوجي والسياسي في القرون الأخيرة ساهم بشكل مضطرد في التخفيف من أهمية هذا العامل، خاصة في الدول التي غلب فيها المجتمع الحضري.
الدور السياسي للمكون العربي السني بدأ أصلًا بالانخفاض بشكل تدريجي منذ منتصف ستينيات القرن الماضي
ووفقًا لتقديرات جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة فإن عدد العرب السنة انخفض بين عامي 2010 و2018 بنسبة 30%، وبالمقابل ارتفع عدد العلويين في عام 2018 مقارنة بعام 2010 بنسبة 22%، وزادت نسبتهم إلى إجمالي السكان بنسبة 5.4%.
2. الدور في السلطة
تُعزز المشاركة في السلطة من دور وأهمية أي مكون في المجتمع والدولة، ويتحدد هذا الدور بناء على حجم هذه المشاركة التي قد تصل إلى درجة الاستحواذ، كما هو الأمر في سوريا إلى حد كبير، وبناءً على طبيعة النظام السياسي القائم، حيث تكون بدرجة مؤثرة جدًا في الأنظمة الشمولية، وينخفض الأثر كلما اتجهت الدولة نحو النظام الديموقراطي.
ويُلاحظ هنا أن الدور السياسي للمكون العربي السني بدأ أصلًا بالانخفاض بشكل تدريجي منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، ويعتقد أنه خضع لتناقص بدرجات أكبر منذ عام 2011 وحتى الآن.
3. العامل الاقتصادي
يساعد الدور الاقتصادي لأي مكون اجتماعي في وزنه النوعي الحاليّ، وفي تعظيم دوره المستقبلي من خلال الاستثمار في تعليم أبنائه.
وقد حافظ المكون العربي السني في فترة حكم حافظ الأسد (1971-2000) على موقعه في الحياة الاقتصادية، رغم فقدانه للكثير من دوره السياسي، وتموضعه في أحسن الأحوال في المعسكر غير المفضل لحافظ الأسد (يقال إن الأسد خلال فترة حكمه زار حلب العاصمة الاقتصادية للبلاد مرة واحدة فقط).
يعتقد أن المكون العربي السني في سوريا سيواجه في العقود المقبلة مزيدًا من فقدان الوزن الاقتصادي، نتيجة للأعباء الكبيرة التي يحملها الآن
إلا أن هذه المعادلة بدأت بالتغير في عهد بشار الأسد الذي بدا أقل تحفظًا في الانفتاح على المكون العربي السني، وهو ما ساعده في بناء شعبية لدى هذا المكون، إلا أنه أسس لعملية تغيير في قواعد اللعبة الاقتصادية، من خلال إضعاف النفوذ الاقتصادي السني لصالح شراكات مع رأس المال والنفوذ العلوي، وأدار هذا المشروع – وما زال – ابن خاله رامي مخلوف.
ويعتقد أن المكون العربي السني في سوريا سيواجه في العقود المقبلة مزيدًا من فقدان الوزن الاقتصادي، نتيجة للأعباء الكبيرة التي يحملها الآن، وهي أعباء لم تتحملها بقية المكونات المجتمعية، وأهمها:
1- يوجد الآن نحو 2.5 مليون طفل انقطعوا عن التعليم لفترات متفاوتة، وجزء كبير منهم لم يلتحق بأي مدرسة أبدًا، ويعتقد أن كلهم تقريبًا من العرب السنة، وهناك مئات الآلاف من الطلبة الذين أنهوا تعليمهم الثانوي في المناطق الخارجة أو التي كانت خارجة عن سيطرة المعارضة لم يلتحقوا بالتعليم العالي، نظرًا لغياب الجامعات هناك أو لصعوبة الأوضاع الاقتصادية التي تمنع الطلبة من إكمال تعليمهم، وحتى الذين التحقوا بجامعات المعارضة في تلك المناطق يواجهون مشكلة عدم الاعتراف بشهاداتهم خارجها.
2- حصل معظم الدمار في المنازل والبنية التحتية في المناطق ذات الأغلبية العربية السنية، سواء تلك التي تم تدميرها من النظام وحلفائه كحلب وحمص، أم تلك التي دمرها التحالف الدولي في الرقة ودير الزور.
3- دارت معظم المعارك في مناطق العرب السنة، كما أن هذه المناطق عاشت أكثر من غيرها ظروفًا غير طبيعية أبدًا (تغير جهات السيطرة بشكل مستمر، وانتشار مظاهر الفوضى، وتحول الموت وغيره من مظاهر الحرب إلى حالة يومية، إلخ)، وبالتالي فإن الجيل الحاليّ من الأطفال والشباب سيحملون مشاكل نفسية سترافقهم لفترات طويلة، ما لم يخضعوا لبرامج تأهيلية خاصة، وهو أمر مستبعد، نظرًا لاتساع حجم الظاهرة من جهة، ووجود أولويات كثيرة أكثر إلحاحًا.
تجاوزت الأزمة السورية منذ أعوامها الأولى الأبعاد المحلية، وأصبحت قضية إقليمية ودولية بامتياز
4- يُعتقد أن معظم الجرحى والمصابين والمعاقين من العرب السنة، لأن مناطقهم شهدت أكثر من غيرها تنفيذ سياسة الأرض المحروقة والقصف الجوي.
وتشير هذه المعطيات إلى أن وزن “العرب السنة” النسبي في سوريا سينخفض بشكل كبير في المرحلة القادمة، لأن قدرة أبنائهم على المنافسة في سوق العمل ستكون منخفضة، مقارنة مع المكونات الأخرى التي لم تنقطع حياتها الطبيعية تقريبًا.
كيف تُحد آثار التغير الديمغرافي؟
تجاوزت الأزمة السورية منذ أعوامها الأولى الأبعاد المحلية، وأصبحت قضية إقليمية ودولية بامتياز، ولم يعد بإمكان الفاعلين الدوليين أنفسهم فرض حل في سوريا دون توافق – ولو بالحد الأدنى – مع بقية الدول المعنية.
ويمثل التغير الديمغرافي في سوريا واحدًا من القضايا الرئيسية في ملف الأزمة السورية التي تسعى الدول بحسب تموضعها في الملف إلى تثبيت معطياته الحاليّة أو تغييره وإعادة الأوضاع بالقدر الممكن إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.
أدت معطيات السنوات الثمانية الماضية إلى تناقص حاد في نسبة العرب السنة في سوريا، وبالمقابل ارتفعت نسبة الطائفة العلوية بشكل كبير بالنسبة لباقي السكان
ويتطلب الحد من نطاق التغيير الديمغرافي الحاصل في سوريا اهتمامًا من الفاعلين الدوليين في ملف الحل السياسي بعناصر أساسية ينبغي شمولها في الحل، وجعلها شرطًا أساسيًا لوصول التمويل الدولي لإعادة الإعمار، وهو التمويل الذي لا يستطيع حلفاء النظام تأمينه، ولا يمكن لهم من دونه أن يُثبتوا مخرجات تفوقهم الميداني بصورة سياسية.
ومن أبرز المكونات التي ينبغي تضمينها في الحل السياسي للحد من نطاق التغيير الديمغرافي:
– ضمانات لعودة اللاجئين والنازحين إلى مناطق سكناهم الأصلية، والتأكد من عدم تحول عمليات إعادة الإعمار إلى سياسات لاستبدال المكونات الأصلية للمجتمع المحلي.
– ضمانات للحد من تسلط الأجهزة الأمنية، بما يسمح للاجئين والنازحين بالعودة إلى بيوتهم أو على الأقل العودة لتثبيت حقوقهم العقارية والقانونية، وتوفير آليات دولية للمراقبة والمحاسبة في هذا الإطار.
– تنفيذ برامج تستهدف أطفال النازحين واللاجئين، والأطفال في المناطق المستهدفة عمومًا، بما يحد ولو بنطاق جزئي من مخاطر خروج ملايين منهم من العملية التعليمية على مدار السنوات السابقة.
– إيلاء البرامج التي تُعالج الآثار النفسية للحرب أهمية قصوى من المنظمات الدولية، حتى يتمكن الجيل الحاليّ من الأطفال من الدخول بشكل فاعل في عملية التنمية والإنتاج المقبلة، وتخرجهم من دوامة العنف وآثاره.
أخطر ما يواجه المكون الأكبر في سوريا هو تحمله لجزء كبير من الضريبة الإنسانية لسنوات الحرب، حيث تحمل النسبة الأكبر من اللجوء والنزوح
أدت معطيات السنوات الثمانية الماضية إلى تناقص حاد في نسبة العرب السنة في سوريا، وبالمقابل ارتفعت نسبة الطائفة العلوية بشكل كبير بالنسبة لباقي السكان، وتوازى هذا التناقص مع انخفاض متزايد في مشاركة العرب السنة في مواقع السلطة الفعلية في سورية، وهو امتداد لتناقص مستمر منذ عام 1963.
لكن أخطر ما يواجه المكون الأكبر في سوريا هو تحمله لجزء كبير من الضريبة الإنسانية لسنوات الحرب، حيث تحمل النسبة الأكبر من اللجوء والنزوح، أعمال القتل والإصابات، ووقعت في مناطق كثافته السكانية معظم المعارك، وبالتالي فإن أطفاله كبروا في ظروف غير طبيعية، وحُرموا من التعليم، وبالتالي فإن قدرتهم على المنافسة المستقبلية في سوق العمل ستكون أقل من نظرائهم في المكونات الأخرى.