في مقدمة كتابه “عناصر من أجل ثقافة مضادة قومية” قال فيليب فاردون أحد أعمدة حزب اليمين المتطرف في فرنسا: “طبول الحرب الثقافية تقرع على أشدها، النخبة المهيمنة تقود هجمة شديدة ضد الثقافة الفرنسية: لغتها، تاريخها، مدارسها، وفي المقابل، فإن المقاومة تنتظم”، بهذه الكلمات لخص فاردون وجهة نظر اليمين المتطرف تجاه القضايا الثقافية في كلمتين “حرب” و”مقاومة”.
والواقع أن صعود التيارات اليمينية في فرنسا وإيطاليا والنمسا وغيرها من الدول الأوروبية تبعه نمو خطاب شعبوي لاستعادة الأرض في إطار حرب ثقافية يكون فيها المجال الثقافي والأدبي ساحة للقتال، وللتحضير من أجل هذه الحرب كانت المكتبات والجامعات والمسارح ووسائل الإعلام موجودة على جميع الجبهات من أجل الفوز بالمعركة الثقافية.
وصف تارانت الهجوم بأنه عمل انتقامي من الغزاة المسلمين الذين كانوا السبب في وفاة آلاف الأوروبيين على مدار التاريخ، إذ قاموا باستعبادهم وأخذوهم من أراضيهم عن طريق النخاسين المسلمين
وفي سياق متصل فتح مسلح النار على مسجدين في نيوزيلندا في أثناء صلاة الجمعة الموافق 15 من مارس/آذار الحاليّ، مسببًا مجزرة راح ضحيتها 49 قتيلاً وعشرات المصابين في حادث إرهابي مروع، فما الذي حدث؟ ولماذا ارتكب الفاعل تلك الجريمة؟ وما علاقتها بحرب اليمين المتطرف الثقافية؟
الأفكار الثقافية المتجذرة في عقل مرتكب الجريمة: الانتقام من الغزاة المسلمين
نشر برينتون تارانت منفذ الهجوم بيانًا على الإنترنت يشرح فيه دوافع جريمته، كما بث فيديو مباشر وهو يطلق النار على مسجد النور بمدينة كرايست تشيرش، وفي بيانه المكون من 73 صفحة على الإنترنت ذكر تارانت بأنه نفذ جريمته من أجل تقليل أعداد الهجرة إلى الأراضي الأوروبية حيث قال في البيان: “بلادنا لن تكون أبدًا بلادًا للغزاة، وأوطاننا ملكنا، وأنَّه ما دام هناك رجل أبيض لا يزال حيًا، فلن يحتلوا أرضنا أبدًا ولن يقيموا مكان شعوبنا”.
ووصف تارانت الهجوم بأنه عمل انتقامي من الغزاة المسلمين الذين كانوا السبب في وفاة آلاف الأوروبين على مدار التاريخ إذ استعبدوهم وأخذوهم من أراضيهم عن طريق النخاسين المسلمين، كما أن هناك الآلاف من الأرواح الأوروبية التي فقدت حياتها بسبب الإرهاب الإسلامي المنتشر في أوروبا.
الأدب العنصري: كيف نجح اليمين المتطرف في الفوز بالمعركة الثقافية؟
ذكر جورج أورويل الروائي البريطاني الشهير أن أحد أهم دوافع كتابة الأدب هو الرغبة في تغيير أفكار المجتمعات ودفع العالم صوب اتجاه بعينه، كما يُكتب الأدب أيضًا من أجل نشر الأفكار سواء كانت سياسية أو اجتماعية، ولأن مناخ الحرية يسمح للجميع بعرض أفكاره ونشر كتاباته فإن الساحة الأدبية الأوروبية تعج بأدباء اليمين المتطرف مثل شارل موراس وبيار درو دولاروشال وفريديناند سيلين، وعلى الرغم من أن كتابات هؤلاء ممنوعة في المدارس ومحظورة في محافل التكريم الأدبية فإن هذا لا يعني أنها غير موجودة في الأسواق أو على الإنترنت.
تعزف رواية “استسلام” للكاتب الفرنسي المثير للجدل ميشال ويلبيك على وتر الإسلاموفوبيا، والحقيقة أن كاتب الرواية معروف بتصريحاته الاستفزازية الحادة تجاه المسلمين وهو الأمر الذي دفعه للعيش تحت الحماية الأمنية منذ سنوات
والحقيقة أن الأدب العنصري استطاع أن يجد لنفسه متسعًا في الساحة الأدبية بفضل المكتبات ودور النشر التي تدعم فكر اليمين المتطرف، ففي فرنسا توجد مكتبة “فاكتا” وفهرس هذه المكتبة موجود الإنترنت ويضم نحو 20 ألف مؤلف معظمها عنصري عن تمجيد الأدب الفاشي، وهناك أيضًا دار نشر ومكتبة “أونكر” التي تلقى إقبالًا كبيرًا من قراء الإنترنت حيث نجد على موقعها الإلكتروني شعارها الذي كتبه مؤسسها جيل سولاس “الكفاح الحقيقي يجب أن يُخاض في ميدان توزيع الكتب، أعتقد أن الخلوة التي تجمع الشخص بكتاب وحدها قادرة على تنوير من يخطئ عن جهل بالوقائع، في المكتبات الأخرى تجدون ماركس ومالرو وأراغون، هنا ستجدون راسباي وموراس وفولكوف”.
أشهر كتابات الأدب العنصري
في حديثه عن نفسه ذكر منفذ هجوم المسجدين برينتون تارانت “أنا رجل أبيض عادي يبلغ من العمر 28 سنة، مولود في أستراليا لأسرة متوسطة ذات دخل منخفض، والدي من أصول إسكتلندية أيرلندية إنجليزية، عشت طفولة عادية دون مشاكل كبرى، ولم أكن مهتمًا بالتعليم في أثناء الدراسة، ولم أدخل الجامعة حيث لم أكن مهتمًا بأي شيء يمكن تعلمه هناك”.
وهنا يمكن القول إن الفكر العنصري انسل إلى عقل تارانت من شقوق الجهل الثقافي والأفكار المبتورة وعدم قراءة التاريخ جيدًا، والحقيقة أن روايات الأدب العنصري ترتكز كثيرًا على قراء غالبًا ما يكونون على شاكلة تارانت يملأهم الغضب ويشعرون بتميز الرجل الأبيض.
رواية استسلام.. ماذا لو وصل رئيس مسلم إلى سدة الحكم في فرنسا؟
تعزف رواية استسلام للكاتب الفرنسي المثير للجدل ميشال ويلبيك على وتر الإسلاموفوبيا، والحقيقة أن كاتب الرواية معروف بتصريحاته الاستفزازية الحادة تجاه المسلمين وهو الأمر الذي دفعه للعيش تحت الحماية الأمنية منذ سنوات.
تتوغل الرواية في شرح مفاسد الحكم الإسلامي ولكن المشهد الكابوسي يكمن في تحول البطل للإسلام إذ يفعل ذلك من أجل أغراض انتهازية
وتدور أحداث الرواية حول البطل فرانسوا الذي يعمل أستاذًا في جامعة السوربون ويقضي معظم وقته بين التدريس في الجامعة ومغامراته العاطفية مع الطالبات وذلك بشقته الفاخرة في الدائرة الثالثة عشر بباريس، وتحكي الرواية عن فرنسا خلال عام 2022 حيث تتحول إلى دولة إسلامية عقب انتخابات جمهورية نزيهة دون أي تدخلات خارجية ويصل إلى سدة الحكم الرئيس المسلم محمد بن عباس بعد فوز حزبه “الأخوة الإسلامية” في الانتخابات.
وفي أعقاب فوز الإسلاميين بالحكم تبدأ فرنسا في التحول شيئًا فشيئًا، إذ يشعر الفرنسيون بالارتباك من تحول الدولة إلى النظام الإسلامي الذي تجلي في اختفاء نساء يلبسن تنورات وفي محاولات الدولة نشر الإسلام عن طريق التعليم وفي توجيه البنات إلى مدارس التدبير المنزلي بعد الابتدائية ومنعهن من العمل وإجبارهن على الزواج ابتداءً من 15 عامًا من رجال متعددي الزوجات.
تتوغل الرواية في شرح مفاسد الحكم الإسلامي ولكن المشهد الكابوسي يكمن في تحول البطل للإسلام، إذ يفعل ذلك من أجل أغراض انتهازية حيث يفضل أن يكون مسلمًا حتى يمكنه الاندماج بسهولة في جامعة السوربون التي تحولت إلى كلية قرآنية كما أنه يرغب في الاستمتاع بأربع زوجات جميلات في الوقت نفسه، ثلاث منهن في مقتبل العمر من أجل الاستمتاع الحميمي والرابعة متقدمة في السن من أجل تدبير شؤون المنزل والمطبخ، في النهاية رواية استسلام هي رواية مخيفة عن محاولة الإسلام التأثير في الرجل الأوروبي وانتزاع أراضيه وإعادة ترتيب العالم.
كتاب الانتحار الفرنسي: إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظر عنصرية
فور صدوره خلال عام 2014 حطم كتاب “الانتحار الفرنسي” للكاتب الفرنسي اليهودي إريك زمور رقمًا قياسيًا من حيث مبيعات الكتب، فبعد أقل من أسبوعين على طرحه بالأسواق كانت تُباع منه أكثر من 5 آلاف نسخة في اليوم الواحد، وتجاوزت المبيعات نصف المليون بعد أقل من شهر على صدوره، وذلك من دون احتساب مبيعات النسخة الإلكترونية التي تجاوزت 100 ألف نسخة في أيام قليلة وهو رقم لم يسبق لأي دار نشر أن حققته في ذلك الوقت الوجيز.
يحكي الكتاب الذي جاء أسلوبه بشكل أقرب لرواية عن تاريخ فرنسا، فطوال 500 صفحة يسرد لنا زمور بشكل أدبي التاريخ الفرنسي الحديث ويعتبر أن فرنسا تسير في طريقها نحو الموت إذ تنتحر انتحارًا بطيئًا على يد نخبة ثقافية وسياسية خائنة
هذا النجاح الذي حققه كتاب “الانتحار الفرنسي” كان بسبب أن أفكاره جاءت محملة بمشاعر تدغدغ الحنين عبر استخدام أسلوب سهل وبلاغة طنانة، حيث عبر المؤلف في كتابه صراحة عن أفكاره ضد الإسلام والمهاجرين.
ويحكي الكتاب الذي جاء أسلوبه بشكل أقرب لرواية عن تاريخ فرنسا، فطوال 500 صفحة يسرد لنا زمور بشكل أدبي التاريخ الفرنسي الحديث ويعتبر أن فرنسا تسير في طريقها نحو الموت إذ تنتحر انتحارًا بطيئًا على يد نخبة ثقافية وسياسية خائنة، ويضيف زمور أن السبب وراء انحطاط الأمة الفرنسية المهاجرون المسلمون والحل يكمن في ترحيل جميع المسلمين الذين يعيشون في فرنسا وتطهير البلاد منهم.
في النهاية فالسياسة والأدب لا يفترقان، حيث يسيران جنبًا إلى جنب ومع صعود اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في العديد من البلدان الغربية وعلى رأسهم دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية فإن نشر الأفكار الثقافية لن يكون صعبًا، كما أن الأدب يمكنه دومًا الدخول من أبواب التاريخ الخلفية ويمكنه التأثير على الأشخاص بشكل أقوى بكثير مما تفعله السياسة، ولذلك فإن وجود أدب عنصري يبث أفكار تحرض على كراهية الغير أشد فتكًا من وجود أنظمة سياسية عنصرية.