البندقية، المدينة المبنية على المياه، واحدة من أجمل مدن العالم، أجواؤها رومانسية بممراتها المائية ومجدها العريق، إنها مقصد عطلات سنوي، لذا تشهد المدينة الواقعة شمال إيطاليا على مدار العام تدفقًا لطوفان من البشر من كل أنحاء العالم يتدافعون عبر ميدان “سان ماركو” والجسور الرومانية العريقة وحارات وأزقة المدينة القديمة، لقضاء أجمل أوقات حياتهم، واستعادة الذكريات والشعور بنسيم التاريخ الذي يعود إلى آلاف السنين.
عند مشاهدتها في وسائل الإعلام سرعان ما تشعر بجموع الناس، فالسياح هناك في كل زاوية وعلى مدار العام، ومن الطبيعي مشاهدة السفن الضخمة التي لا تتناسب مع طبيعة المدينة، حيث تعبر يوميًا نحو 9 سفن سياحية قلب البندقية، وفي كل زاوية تُباع القطع التذكارية الرخيصة، فكيف يؤثر كل ذلك على المدينة وسكانها؟
المدينة التي أفسدها الزوار.. “اخرجوا ولا تعودوا أبدًا”
هناك ملحمة تاريخية تحكي أن البندقية تأسست في مطلع القرن الخامس الميلادي، وفي عام 829 تمكن تاجران من البندقية من سرقة سيقان (القديس ماركوس) من الإسكندرية، وكان رمزه الأسد الطائر، وكانت البندقية نقطة التقاء الشرق بالغرب وبالذات مع الإسكندرية في مصر، وكان يحكمها مجموعة تجار، فكانت السلطة بيدهم، وفي عام 1453 توقفت حركة التجارة في البندقية.
السكان المحليون لم يعودوا يهتمون كثيرًا بمسألة الضيافة بسبب استيائهم الكبير من السياحة العشوائية
تتكون البندقية عاصمة مقاطعة فينيسيا الإيطالية من 116 جزيرة، بُنيت بأكملها على أخشاب ضخمة وسط البحر، وتعد اليوم من عجائب الدنيا، وهي نقطة التقاء كل الجهات، بين ثناياها الجمال والثقافة والحضارة، ويردد الكثيرون أن البندقية ستغرق تحت الماء بعد 30 عامًا، فهي قريبة من البحر الأدرياتيكي الذي يشهد ارتفاعًا قويًا في مستوى مياهه، وفق بيان لجامعة ساوثمبتون البريطانية.
للمدينة الإيطالية تاريخ طويل من الجذب السياحي، بفعاليات عالمية مثل الكرنفال السنوي ومعرض الفن الدولي والمهرجان السينمائي الذي يحضره النجوم، لكن ظهور السياحة الجماعية جعلها تكافح في كيفية التعامل مع حشود ثابتة تتجوَّل في مواقعها الثمينة، بما في ذلك كاتدرائية تعود إلى القرن الـ11 وجسر “ريالتو” الشهير ومتاهة “كالي” المتعرجة.
أهالي البندقية يحتجون على دخول السفن السياحية الضخمة إلى المدينة
قد يكون التدفق السياحي نعمة لأي مدينة في العالم، وهو كذلك بالنسبة لخزينة المجلس المحلي للمدينة الإيطالية، لكنه آفة للسكان الأصليين الذين يخشىون تدمير هذه المدينة الأثرية القديمة ومعالمها وبيئتها الهشة، خاصة الأخطار البيئية للبواخر العملاقة التي تقل عشرات الآلاف من السياح، وترسو يوميًا في البندقية.
في السنوات الأخيرة، ومع بلوغ الوضع حدًا لا يُطاق، ينظم سكان البندقية العديد من الاحتجاجات ضد صناعة السياحة التي يرون أنها أدت إلى تدمير نمط حياتهم وبيوتهم وتحفهم الفنية، وألحقت الضرر بالبيئة ودفعت السكان إلى النزوح، وقد تضاءل عدد السكان الحاليين البالغ 55 ألف نسمة بعد أن كانوا أكثر من 175 ألفًا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب توافد السياح.
انتقل الكثير من سكان فينيسيا للعيش في جانب من المدنية يسمى “كاستيلو” يبتعد بمسافة كبيرة عن ميدان “سان ماركو” الذي يعد قلب المدينة ومركز الجذب السياحي بها
وفي كثير من الأحيان يعترض المحتجون بقواربهم الصغيرة طريق السفن الساحية العملاقة، احتجاجًا على السياحة غير المنظمة وزيادة عدد السياح الذين يزورون المدينة السياحية، وفي أحيان أخرى، يحملون الحقائب ذات العجلات التي يجُرها السياح فوق الطرقات العتيقة، في تصرف استفزازي بدلاً من إظهار حسن الضيافة، لكن السكان المحليين لم يعودوا يهتمون كثيرًا بمسألة الضيافة بسبب استيائهم الكبير من السياحة العشوائية.
ومنذ 1600 عام تتحدى المدينة الماء وبالتالي الاندثار، وبدأت احتجاجات المواطنين الكثيرة تؤتي ثمارها، فقد قررت حكومة روما منع دخول السفن السياحية الضخمة إلى المدينة القديمة ابتداءً من العام الحاليّ، ورغم أنه حل مرضٍ إلا أن الممرات المائية ستبقى مفتوحة أمام السفن العادية.
كيف فقدت المدينة قيمة الحياة الأصلية بالنسبة لسكانها؟
تستقبل مدينة القوارب عشرة ملايين سائح كل عام ينزلون في فنادقها، يُضاف إليهم 14 مليونًا يزورون المدينة لمدة يوم واحد، وتعدّ هذه الأعداد كارثة حقيقية، فهي تفوق استيعاب المدينة وقدرتها على تقديم الخدمات اليومية للزائرين، مع الأخذ في الاعتبار أن إجمالي تعداد سكان المدينة لا يتجاوز 260 ألف نسمة.
ارتفعت أسعار الشقق السكنية العادية في البندقية بسبب السياحة المرتفعة، في حين لا يستطيع المواطن العادي مجاراة ذلك
بينما يستحوذ السياح تدريجيًا على ملكة البحر الأدرياتيكي يجد سكانها أنفسهم مضطرين إلى الرحيل عنها، ليتراجع عددهم في غضون جيل واحد بمقدار الثلث، وبحسب صحيفة “ذا ديلي ميل” البريطانية، فإن حجم السكان ما زال يتضاءل، فمنذ عام 1951، تقلص سكان البندقية بشكل مطرد من 175 ألف نسمة إلى نحو 55 ألف نسمة.
ووسط مخاوف من رحيل هذه المدينة في السنين القادمة، انتقل الكثير من سكان فينيسيا للعيش في جانب من المدنية يسمى “كاستيلو” يبتعد بمسافة كبيرة عن ميدان “سان ماركو” الذي يعد قلب المدينة ومركز الجذب السياحي بها، والسبب في ذلك يرجع إلى رغبة السكان في العيش بصورة تقترب من الحياة الطبيعية.
وخلف المناظر الخلابة لجسر “ريالتو” وساحة “سان ماركو” أصبحت تجارة الربح تسيطر على البندقية التي لم تعد مكانًا يتسنى فيه لسكانها تأمين المستوى الحياتي المعهود، وذلك بسبب الغلاء الفاحش، لكن تدفق الأموال عبر السياح يزيد الأمر سوءًا بالنسبة للسكان المحليين، حيث يزاحم السياح سكان المدينة المحليين في السكن والخدمات، وهو ما يؤثر على سكان البندقية الذين لا يملكون منزلاً ويبحثون عن سكن للعيش فيه.
ارتفعت أسعار الشقق السكنية العادية في البندقية بسبب السياحة المرتفعة
ويمكن كسب المال عن طريق التأجير الخاص الذي يشكل مصدر دخل إضافي للكثير من سكان البندقية الذين حالفهم الحظ بامتلاك بيت في المدينة، ويقبل السياح بكثرة على ذلك، ما زاد من ازدهار هذا النوع من التأجير الذي تعجز السلطات المحلية عن إلغائه، وكلها أموال تحتاجها بلدية المدينة المديونة بـ800 مليون يورو.
ارتفعت أسعار الشقق السكنية العادية في البندقية بسبب السياحة المرتفعة، في حين لا يستطيع المواطن العادي مجاراة ذلك، وأكثر المتضريين من ذلك المطلقات والأرامل والعائلات الشابة، وعندما تكون النوافذ مغلقة فهذا يعني أنها غير مسكونة من أهالي البندقية، لكنها شقق فندقية خالية من السكان في هذا التوقيت، ولن يؤثر بقاؤها دون مستأجر لفترة قصيرة، لأن السياح يدفعون أكثبر بكثير من المستأجرين المحليين.
في منتصف عام 2016، هددت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو بوضع البندقية على قائمة المواقع التراثية المهددة بالانقراض
كما أن الوظائف – بغض النظر عن قطاع السياحة – ليست متوافرة في أغلب الأحيان إلا بعيدًا عن جزر المدينة، وهكذا أصبح أهل البندقية غير قادرين على دفع الإيجارات المرتفعة للشقق التي يُفضل مالكوها تأجيرها للسياح، وذلك غالبًا عبر أهم مقدمي العروض شركة الخدمات العقارية “إير بي إن بي”.
ولم تَسلَم المباني التاريخية من الغزو السياحي، فأصبحت تُباع بمبالغ زهيدة لتنشأ مكانها فنادق ومراكز تجارية عملاقة، وحتى المحال والمطاعم والمقاهي أصبحت توجه خدماتها إلى السياح فقط، وأصبحت البنية التحتية توفر للسياح باطراد كل ما يحتاجون إليه على حساب سكانها الأصليين.
هذا الوضع يؤجج باطراد شرارة الاحتجاج لدى أهل البندقية الذين كونوا الكثير من المبادرات وشنوا الحملات للتعامل مع شعبية مدينتهم بين السياح، كما تقوم بلدية البندقية بحملات شبيهة، فقد منعت الأكل في الأماكن العامة والسباحة في الممرات المائية وإطعام الحمام، وقد تصل العقوبة إلى 500 يورو، لكن هناك انتهاك للقواعد في كل مكان.
موت البندقية.. هل ما زالت الحياة ممكنة في المدينة؟
في منتصف عام 2016، هددت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو بوضع البندقية – إلى جانب حديقة “إيفرجليدز” الوطنية في الولايات المتحدة، والغابات المطيرة في مدغشقر – على قائمة المواقع التراثية المهددة بالانقراض، إذا فشلت في منع السفن الضخمة من عبور مياه البندقية بحلول عام 2017، التي تتسبب في أضرار كبيرة للمدينة.
تحولت بلدية المدينة إلى آلة سحب نقدي عبر المخالفات التي فرضتها على رمي القمامة وركوب الخيل وعدم ارتداء قميص في الأماكن العامة
وتعود القصة إلى صيف عام 2016 حينما اختنقت البندقية بما يقرب من 28 مليون سائح، ما تسبب بوقوع الكثير من المشكلات بسبب التدافع من جهة، واعتباره ضغطًا غير عادي على الأماكن التاريخية من جهة أخرى، إضافة إلى مرور المئات من السفن السياحية التي باتت تشكل تهديدًا للبيئة بسبب محركاتها التي لا تتفق ومبادئ البيئة التي جرى إقرارها، وتسبب كل هذا بغياب أساليب حماية كافية من السلطات لتفادي الأمرين.
لكن المدينة أفلتت من عقوبات اليونسكو، وفي تحرك لتهدئة المخاوف البيئية، أخبر عمدة المدينة بروجنارو، منظمة اليونيسكو، في أواخر عام 2017، أن سلطات البندقية أصبحت صارمة في التعامل مع سفن الرحلات البحرية التي تزن أكثر من 96 ألف طن، وتنزل آلاف المسافرين في قلب المدينة، ولم يعد بإمكانها الإبحار عبر ساحة سان ماركو، وستتخذ بدلاً من ذلك مسارًا عبر منطقة “مارغيرا” الصناعية.
المخالفات التي فرضتها بلدية البندقية على السياح
وعلى الرغم من أن شبح التهديد بالعقوبة قد تلاشى تدريجيًا الآن، فإن الوضع، بحسب صحيفة “لوموند” الفرنسية، لا يزال غامضًا بشكل ملحوظ، فحماية المدينة على ما يبدو سوف تحتاج إلى نقاش قد يمتد لأعوام، خصوصًا فيما يتعلق بعلاج الأضرار الناجمة عن مرور السفن السياحية.
وعلى الرغم من تفاؤل المسؤولين عن بلدية مدينة البندقية بحل الكثير من مشاكل السفن عبر حفر ممر جديد سيسمح للقوارب بالوصول إلى المدينة من دون العبور بقناة “جيوديكا” التي تعد أحد المعالم التراثية في المدينة، فإن دعاة حماية البيئة يجدونه مصدر قلق كبير، حيث يصعب التنبؤ بالآثار طويلة الأجل للمبادرات المطروحة.
وطبّقت البندقية قواعد صارمة فيما يتعلق بالسياحة، ففي أوقات سابقة أثارت الحقائب ذات العجلات التي يجرها السياح فوق الطرقات العتيقة غضب أهالي البندقية الذين حملوا عربات الأطفال والتسوق في إشارة إلى أمتعة السياح، حتى تعهدت السلطات بتغريم أي شخص يتم ضبطه، وهو يستخدم هذا النوع من الحقائب، بمبلغ يصل إلى 500 يورو.
في إجراء يمكن أن يحد من الاكتظاظ السياحي الذي يخنق البندقية، قررت سلطات المدينة، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فرض رسوم تتراوح بين 2.5 يورو إلى 10 يورو على الزوار
ومع مرور الوقت تحولت بلدية المدينة إلى آلة سحب نقدي عبر المخالفات التي فرضتها على رمي القمامة وركوب الخيل وعدم ارتداء قميص في الأماكن العامة وترك أقفال الحب والكتابة على الأشجار أو المباني أو إتلافها، حتى تتمكن بلدية البندقية من إدارة تدفق ملايين السياح الذين يزورون المدينة العائمة كل عام، ومع ذلك فإن عشاق البندقية الذين يأتون لالتقاط الصور سيضطرون للدفع، على الرغم من أنه من غير الواضح متى سيتم البدء في تطبيق الضريبة أو كيف يمكن فرضها.
وفي إجراء يمكن أن يحد من الاكتظاظ السياحي الذي يخنق البندقية، قررت سلطات المدينة، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فرض رسوم تراوح ما بين 2.5 يورو إلى 10 يورو على الزوار الراغبين في الدخول إليها سواء أرادوا المبيت في المدينة أم لا، وذلك ابتداءً من مطلع السنة الجديدة.
لكن بحسب الأكاديمي البريطاني دومينيك ستانديش، مؤلف كتاب “البندقية تواجه خطرًا بيئيًا”، فإن فكرة الرسوم قد تأتي بنتائج عكسية، فالكثير من السكان المحليين يشعرون بالغضب بسبب فكرة أنهم سيدفعون الرسوم أيضًا، في حال غادروا المدينة ثم عادوا إليها لزيارة عائلاتهم، خاصة بعد أن أُجبر الآلاف من الناس على مغادرة المدينة.