أمضى تامر ما يقرب من أربع سنوات كاملة في محاولة لفهم ما يعاني منه ابنه الأصغر ذو الاعوام الخمس، وبعد عشرات الرحلات المكوكية متنقلاً بين أطباء المخ والأعصاب والطب النفسي والاستشارات الأسرية تم تشخيص الحالة أنها توحد من نوع متقدم نسبيًا.
اعتقد تامر أن بتشخيص المرض الذي كان صدمة له بداية الأمر أن المشكلة قد حُلت، لكنه للأسف بدأ رحلة أخرى من العذاب، تحول فيها ابنه إلى حقل تجارب للأطباء وأدويتهم، حتى استقر في قرارة نفسه أن يبقي عليه في البيت وألا يذهب لأي طبيب مرة أخرى جراء ما عاناه منهم.
في مارس 2008 أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة الـ2 من أبريل يومًا عالميًا للتوعية بمرض التوحد (القرار 139/62) وذلك لتسليط الضوء على الحاجة للمساعدة على تحسين نوعية حياة الذين يعانون من التوحد حتى يتمكنوا من العيش حياة كاملة وذات مغزى كجزء لا يتجزأ من المجتمع.
التوحد عبارة عن حالة عصبية مدى الحياة تظهر في مرحلة الطفولة المبكرة، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ويتميز بشكل رئيسي بتفاعلاته الاجتماعية الفريدة، والطرق غير العادية للتعلم، والاهتمام البالغ بمواضيع محددة، والميل إلى الأعمال الروتينية، ومواجهة صعوبات في مجال الاتصالات التقليدية، واتباع طرق معينة لمعالجة المعلومات الحسية، ويعتبر معدل التوحد في جميع مناطق العالم مرتفعًا ويترتب على عدم فهمه تأثير هائل على الأفراد والأسر ومجتمعاتهم المحلية.
ورغم ما توليه حكومات العالم من اهتمام كثيف لمعالجة هذا المرض ودعم المصابين به، صحيًا ونفسيًا ومجتمعيًا، في ضوء جهود بحثية علمية حثيثة فإن الوضع في المنطقة العربية يختلف نسبيًا.. فهل نجحت الدول العربية في التعامل مع هذا الملف بالشكل الملائم؟
بالكاد لا توجد دراسة واحدة موثقة عربيًا تكشف الأرقام الحقيقية لأعداد المصابين بالتوحد في مختلف البلدان العربية، وتبقى الأرقام المقدمة مجرد اجتهادات فردية من بعض المراكز الطبية
70 مليون مصاب بالتوحد
تشير التقديرات إلى أن طفلاً واحدًا من بين 160 طفلاً يعاني اضطرابات التوحد التي تظهر في مرحلة الطفولة وتميل للاستمرار في فترة المراهقة وسن البلوغ، وذلك بحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية عام 2016، بينما 1% من سكان العالم مصابون بهذا المرض، أي ثمة نحو 70 مليون شخص مصابين بالتوحد في العالم، وفق أرقام الأمم المتحدة.
وتقدر السلطات الأمريكية أن واحدًا من كل 68 مولودًا في البلاد يولدون ولديهم هذا المرض، فيما تشير الإحصاءات إلى أن 3.5 مليون أمريكي يعانون من أحد أشكال التوحد، أما في أستراليا فيقدر عدد المصابين بنحو 164 ألف شخص (واحد من كل 150 شخصًا)، بحسب أرقام دائرة الصحة للعام 2015، غالبية هؤلاء من عمر 25 عامًا وما دون.
أما عن علاقة النوع بمعدل الإصابة فتكشف الأرقام إلى أن الذكور أكثر عرضة للإصابة بالتوحد من الإناث، وذلك بمعدل يصل تقريبًا إلى أربعة أضعاف، في الوقت الذي لا يزال 80% من كبار السن ممن يعانون المرض عاطلين عن العمل، وفق الأمم المتحدة.
دعوات أممية لتفعيل الجهود للتوعية بمرض التوحد
التقنيات المساعدة
تحت عنوان “التقنيات المساعدة والمشاركة الفعالة” أعلنت الأمم المتحدة موضوع الاحتفال باليوم العالمي لهذا العام (2019)، إذ زاد الوعي بالمرض في جميع أنحاء العالم في السنوات الأخيرة، وتعد حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة – بما في ذلك الأشخاص الذين يعانون من مرض التوحد – على النحو المنصوص عليه في اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، جزءًا لا يتجزأ من ولاية الأمم المتحدة.
المجتمع الدولي وعبر خطته المستدامة لعام 2030 التي أقرها عام 2015 أعاد من جديد تأكيد التزامه القوي بالتنمية الشاملة المستدامة التي في متناول الجميع، وتعهد بألا يتخلف أحد عن الركب، وفي هذا السياق، تغدو مشاركة الأشخاص المصابين بالتوحد – بوصفهم فاعلين في تحقيق التنمية المستدامة ومستفيدين منها – ضرورة.
وفي إطار تحقيق هذا الهدف، فإن الحصول على التقنيات المساعدة بأسعار معقولة شرط أساسي في تمكين الأشخاص المصابين بمرض التوحد من ممارسة حقوقهم الإنسانية الأساسية والمشاركة الكاملة في حياة مجتمعاتهم، ومن ثم يمكن أن تسهم التكنولوجيا المساعدة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال التخقيف من أثر الحواجز القائمة التي تحول دون وقوع تلك المشاركة على قدم المساواة مع الآخرين.
لكن لم يكن الطريق ممهدًا أمام توفير مثل تلك التقنيات، فهناك العديد من العقبات التي تحول دون تعميمها، على رأسها الكلفة الباهظة لها، ونقص المتاح من تلك التكنولوجيات وضعف الوعي بها وبإمكاناتها والتدريب عليها، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من نصف المصابين بالإعاقة في الدول النامية الذين هم في حاجة لأجهزة مساعدة لا يستطيعون الحصول عليها.
وفي ضوء ما سبق دشن الأمين العام للأمم المتحدة إستراتيجية جديدة للتكنولوجيات الجديدة تهدف إلى تحديد كيفية دعم منظومة الأمم المتحدة استخدام هذه التقنيات للتعجيل في تحقيق جدول أعمال التنمية المستدامة لعام 2030، وكان ذلك في سبتمبر 2018، ومن ثم كان الاحتفال هذا العام في سياق تلك الإستراتيجية.
رغم تلك الجهود المبذولة فإن مرضى التوحد في غالبية الدول العربية يعانون من ندرة المراكز الطبية الحكومية المتخصصة، وارتفاع تكلفة العلاج في القطاع الخاص. مع انخفاض الدعم الحكومي
لا توجد إحصاءات عربية
بالكاد لا توجد دراسة واحدة موثقة عربيًا تكشف الأرقام الحقيقية لأعداد المصابين بالتوحد في مختلف البلدان العربية، وتبقى الأرقام المقدمة مجرد اجتهادات فردية من بعض المراكز الطبية تعتمد على آليات خاصة لا يمكن تعميمها ولعل هذا أحد أبرز التحديات أمام جهود علاج هذا المرض.
العديد من الدراسات التي أجرتها بعض المراكز في عدد من الدول العربية تشير إلى تزايد أعداد الإصابة بالتوحد، في ظل تواضع الجهود المبذولة في هذا الشأن، ففي لبنان على سبيل المثال وفي إحدى الدراسات التي أجراها المركز الطبي التابع للجامعة الأمريكية في بيروت العام الماضي، وشملت أطفالاً تراوح أعمارهم بين 16 شهرًا وثلاث سنوات، كشفت أن نسبة انتشار التوحد هي حالة واحدة في كل 67 طفلاً.
سعوديًا.. وفي دراسة أجرتها جامعة الملك سعود بالتعاون مع الجمعية السعودية الخيرية للتوحد أظهرت أن أعداد المصابين يصل إلى 120 ألفًا وفي دراسة أخرى تجاوز العدد 400 ألف، إلا أنّ الدراسة أشارت أيضًا إلى أنّ خجل الأهالي من التصريح يسبب عائقًا كبيرًا لحصر أعداد المصابين فضلاً عن قلة المراكز المخصصة لذلك هناك.
وفي مصر الوضع لا يختلف كثيرًا عن لبنان والسعودية، إذ تقدر الأمانة العامة للصحة النفسية عدد المصابين بالتوحد بنحو 800 ألف مواطن أي ما نسبته 1% من السكان، لكن أطباء متخصصين قدروا الأعداد الفعلية بأكثر من ذلك، لعدم وجود إحصاءات ودراسات دقيقة عن هذا المرض في مصر.
الدكتورة ياسمين رسلان، مديرة وحدة الأطفال بمستشفى العباسية للصحة النفسية، في تصريحات لها قالت: “أزمة علاج التوحد في مصر، تكمن في ندرة المراكز الحكومية المتخصصة في علاج هذا المرض، إذ لا يزيد عددها على 4 مراكز فقط في كل محافظات الجمهورية، واستيعاب فصول هذه المراكز قليل جدًا، لأنها تستوعب نحو 30 طفلاً فقط في السنة، لأن علاج التوحد يحتاج إلى وقت طويل جدًا وجهد فائق”، كاشفة: “توجد قائمة انتظار طويلة تقدر بمئات الأطفال لدينا، من الذين يريدون علاج أطفالهم في الفصول الدائمة”.
وفي الأردن ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية تبين أعداد المصابين بالتوحد هناك، فإن اختصاصيين وخبراء يؤكدون أن عددهم يصل لنحو 8 آلاف مصاب ومصابة، مطالبين من عام إلى آخر بإجراء مسح وطني شامل لمعرفة الأرقام الدقيقة عن عدد مصابي هذا المرض، حتى يتسنى لهم تشخيصه مبكرًا وبالتالي التخفيف من أعراضه.
لا توجد إحصائات موثقة عن عدد المصابين في العالم العربي
جهود ناجحة ولكن…
العديد من التجارب الناجحة قامت بها بعض الدول العربية في مكافحة هذا المرض والحيلولة دون انتشاره وعلاج المصابين به، لا سيما في دول مثل لبنان والكويت، حيث تم وضع برامج تعديل سلوكي للتعامل مع المصابين بالتوحد، تخضع في معظمها للجمعيات الخيرية والدينية.
ففي الكويت على سبيل المثال هناك مركز الكويت للتوحد، الذي تأسس عام 1994، ويعد أكبر المراكز المتخصصة في الخليج، ويتبع الأمانة العامة للأوقاف، كذلك الجمعية اللبنانية للتوحّد التي تعد الأكثر بروزًا منذ نشأتها عام 2005، حيث نجحت في توفير خدماتها لنحو 600 طفل مصاب بالتوحد.
ورغم تلك الجهود المبذولة فإن مرضى التوحد في غالبية الدول العربية يعانون من ندرة المراكز الطبية الحكومية المتخصصة، وارتفاع تكلفة العلاج في القطاع الخاص، مع انخفاض الدعم الحكومي لهذا المرض الذي ينتشر بصورة متزايدة في السنوات الأخيرة.
تحد آخر يواجه الدول العربية في هذا المضمار يتمثل في الافتقار للدراسات والأبحاث المعدة في هذا المجال، وهو ما يعيق جهود العلاج والمكافحة، هذا بخلاف قلة عدد الأطباء المتخصصين في علاج التوحد، يقابله زيادة كبيرة في أعداد المرضى من الأطفال في ظل محدودية المراكز المتخصصة.