أطلقت فصائل المعارضة السورية المنضوية تحت إدارة العمليات العسكرية معركة “ردع العدوان” فجر أمس الأربعاء، ضد مناطق سيطرة قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية، مستهدفة عدة محاور اشتباك غربي مركز محافظة حلب وشرقي إدلب شمال البلاد، وهي العملية الأولى من نوعها منذ مارس/ آذار 2020.
وتهدف العملية العسكرية، بحسب بيانات غرفة العمليات، إلى حماية المناطق المحررة، والردّ على قصف النظام والميليشيات الإيرانية وردعها لضمان أمن المدنيين، ومنع الميليشيات من إعادة التمركز والتوسع بعد هروبها من الأراضي اللبنانية جراء الاجتياح الإسرائيلي، وقطع الطريق أمام مشاريع التمدد الإيراني في سوريا.
وتقدمت فصائل إدارة العمليات العسكرية في إطار عملية ردع العدوان نحو 10 كيلومترات إلى عمق مناطق سيطرة النظام السوري والميليشيات الإيرانية، مسيطرة على أكثر من 40 قرية ونقطة عسكرية مهمة مثل الفوج 46 وقرية الشيخ عقيل، بريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي، في إطار عملية “ردع العدوان”.
أثار إطلاق المعركة في هذا التوقيت تساؤلات عديدة، حول ما تمتلكه فصائل المعارضة السورية من قدرات العسكرية وطرق إمداد وذخيرة وأسلحة نوعية تمكّنها من شنّ عملية عسكرية، فضلًا عن الغطاء الدولي الذي يساهم في استمرارية العملية العسكرية.. فماذا بين يدي المعارضة لإطلاق عملية تغيير خرائط سيطرة قائمة منذ عام 2020 برعاية روسية-تركية؟
تطوير الجاهزية العسكرية
بدأت غرفة عمليات الفتح المبين التحضير لمعركة عسكرية ضد النظام السوري والميليشيات الإيرانية غربي حلب وشرقي إدلب منذ عدة أسابيع، بالتزامن مع عملية البيجر وما تبعها من هجمات الاحتلال الإسرائيلي ضد عناصر وقادة ميليشيا “حزب الله” اللبناني، والميليشيات الإيرانية في الأراضي السورية واللبنانية.
وتضمّ الغرفة كلًّا من هيئة تحرير الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، وجيش العزة، وحركة أحرار الشام، بينما انضمَّ خلال العملية العسكرية الجارية في أرياف حلب الغربية وإدلب كل من حركة نور الدين الزنكي، والجبهة الشامية، والقوة المشتركة، وحركة التحرير والبناء، المنضوية في صفوف الجيش الوطني السوري التابع لوزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، تحت مسمّى إدارة العمليات العسكرية.
واستطاعت فصائل المعارضة المنضوية ضمن غرفة عمليات الفتح المبين من جهة، والجيش الوطني السوري من جهة أخرى، منذ توقف المعارك العسكرية في فبراير/ شباط 2020 إعادة هيكلة الكوادر البشرية، من خلال تطوير الأساليب القتالية خلال معسكرات ودورات تدريبية تحاكي العمليات العسكرية الواقعية، فضلًا عن تطوير المعدّات العسكرية وتصنيع الأسلحة والعربات المدرّعة والقذائف والراجمات والصواريخ، وصولًا إلى تصنيع الطائرات المسيّرة.
كما فتحت باب الانتساب وتطوير القدرات القتالية في معسكرات ميدانية، بدءًا من أساليب استخدام رشاشات PKC والقذائف المحمولة RBG، وعموم الأسلحة الفردية الخفيفة، واللياقة البدنية، وعمليات التدخل السريع، والتعامل مع العمليات العسكرية البرية بين الأحراش والمناطق الجبلية وحرب الشوارع.
وفرزت العناصر إلى مجموعات يختص كل منها بمهام موكلة إليها، مثل سرايا القنص الهجومي، التي تقدم التغطية لتقدُّم المشاة وسرايا الحراري، التي تقدم عمليات استطلاع برية وجوية تستهدف التحركات والمواقع العسكرية، منها يتبع لهيئة تحرير الشام وأخرى تتبع للجبهة الوطنية للتحرير، وجيش العزة، حيث جهّزت ودرّبت سرايا الحراري، وقوات خاصة، وطواقم مضادة للدروع.
كما طورت فصائل الجبهة الشامية، وحركة نور الدين الزنكي، والقوة المشتركة، وحركة التحرير والبناء، وفرقة المعتصم المنضوية في صفوف الجيش الوطني السوري، قدرات العناصر عسكريًا وبدنيًا، من خلال تخريج دورات متنوعة المهام، كما هو الحال لدى القوة المشتركة التي شهدت تطورًا كبيرًا خلال تخريج العمليات القتالية في معسكراتها في منطقة عفرين.
بعنوان خطوات نحو المجد …
الفرقتان ٢٢ و٢٨ في الفيلق الثاني تنفذان مشروعاً تكتيكياً لاختبار الجاهزية القتالية للعتاد والقوى البشرية…#وزارة_الدفاع pic.twitter.com/Aq3rfM72XD
— وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة (@MfDefen) October 13, 2024
وكشفت إدارة العمليات العسكرية خلال عملية “ردع العدوان” عن تطورات هجومية نوعية، أبرزها كتائب شاهين، وهي مسيّرات محلية الصنع تحمل حوالي 100 كيلوغرام من المتفجرات، حيث استطاعت تدمير طائرة مروحية لقوات نظام الأسد في مطار النيرب العسكري، إضافة إلى تنفيذ عمليات انتحارية في الفوج 46 ومدرسة الشرطة غربي حلب.
ويرى المحلل العسكري والاستراتيجي العقيد عبد الجبار العكيدي، أن أهم ما تمتلكه فصائل المعارضة لشنّ عملية عسكرية من هذا النوع هو العنصر البشري والإرادة والعقيدة القتالية، لا سيما من قبل أبناء المناطق المستهدفة في العملية، وهم أبلوا بلاءً حسنًا خلال اليوم الأول من العملية.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن فصائل المعارضة استطاعت تطوير قدرات عناصرها القتالية خلال السنوات الماضية، وتمتلك سلاحًا ثقيلًا ومتوسطًا وخفيفًا، لا سيما المدفعية 130 والدبابات والطائرات المسيرة”.
وأضاف: “إن محاور هجوم معركة “ردع العدوان” تشير إلى تخطيط عسكري متقن واحترافي، تفسح المجال أمامهم للسيطرة بشكل أوسع بسبب وجود مناطق مرتفعة راصدة للتحركات العسكرية”، معتبرًا أن استمرارية المعركة في الميدان تعتمد على إمدادات الغنائم، ومخزون الفصائل من الذخيرة.
موافقة تركية ضمنية
يتفق مدير مركز رصد للدراسات الاستراتيجية العميد عبد الله الأسعد، مع العكيدي في امتلاك فصائل المعارضة لأنواع من السلاح الفعّال، وأجهزة عسكرية متطورة تستطيع من خلالها شنّ عملية عسكرية، لكنه يشير إلى أن العملية العسكرية ترتبط في الدرجة الأولى بالمعطيات السياسية، بسبب وجود عدد من الدول الأجنبية في سوريا.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن شنّ المعركة في هذا الزخم يشير إلى وجود تغيرات في المواقف السياسية، والخرائط الجغرافية، من قبل الدول الفاعلة بالشأن السوري، وعلى وجه الخصوص أمريكا وروسيا وتركيا وإيران”.
وأضاف: “لا يوجد دعم بشكل مطلق للعملية العسكرية، إنما يمكن اعتباره موافقة تركية، وهي دولة حليفة للمعارضة السورية، وهذا الدعم يمكن أن يؤمّن الخلاص من الوجود الإيراني في سوريا، وهو ما تراه الدول الإقليمية في الشرق الأوسط”.
وتخضع منطقة إدلب وريف حلب الغربي وأجزاء من ريف حماة الشمالي لاتفاق سوتشي، الذي ينصّ على وقف إطلاق النار وتسيير دوريات مشتركة بين روسيا وتركيا في الأول من مارس/ آذار 2020، ما تسبّب في إيقاف خرائط السيطرة، وسط استمرار القصف المدفعي والصاروخي من قبل النظام السوري والميليشيات الإيرانية والطيران الروسي.
وجاءت على خلفية تعطُّل مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق برعاية روسية، بعدما وُجّهت دعوات متكررة بلسان المسؤولين الأتراك للنظام بهدف إعادة العلاقات السورية التركية، إلا أنها وصلت إلى طريق مسدود نتيجة إصرار النظام خروج الجيش التركي من الأراضي السورية بصفته “محتلًّا”، بينما تصرّ تركيا على البقاء حتى تشكيل دستور جديد للبلاد والحل السياسي وفقًا للقرار الأممي 2254.
ويرى الباحث في مركز الحوار السوري أحمد قربي، أن السياق الإقليمي الحالي يمثل ضوءًا أخضر لفصائل المعارضة في شنّ عملية عسكرية، في ظل التداخل الدولي من مختلف الأطراف الفاعلة بالشأن السوري، في حين تبدو تركيا غير معارضة للعمل العسكري، إنما تريد استغلال الظرف الحالي وتراجع النفوذ الإيراني من أجل تقوية أوراقها في سوريا.
وقال قربي خلال حديثه لـ”نون بوست”: “أرجّح أن العملية قائمة بموافقة ضمنية من تركيا على الأقل في الوقت الحالي، وربما لاحقًا تتغير الأمور سواء باتجاه تأييد العملية، أو التوجيه بإيقافها، لكن عدم إصدار بيان حتى اللحظة يعدّ مؤشرًا مهمًّا في إطار العملية على أرض الميدان”.
وأضاف: “إن خرائط السيطرة مستقرة منذ مارس/ آذار 2020 نتيجة التفاهمات التركية-الروسية، وأي تغيير يحتاج إلى توافق طرفَي الاتفاق، لكن الأمور لا تمضي دائمًا بهذه الصورة، بمعنى أنه في بعض الأحيان يستغل طرف تراجع الآخر من أجل تحقيق مكاسب وفرضها بحكم الأمر الواقع والمساومة بها”.
ويعتقد الباحث أن العملية قائمة على سيناريوَين، الأول ناتج عن توافقات ضمنية بين تركيا وروسيا، خاصة أن الطيران الروسي لم يتدخل بفعالية عقب تقدم فصائل المعارضة السورية، والثاني أن روسيا تراقب ما يحصل على الأرض ثم بعد ذلك تقوم بالتدخل لصالح النظام، سواء في حال كان التقدم الحالي خارج الرغبة الروسية، أو أنه يتجاوز الحدود المتوافق عليها بين كل من أنقرة وموسكو.
ويعدّ السيطرة على مدينة حلب مطلبًا تركيًا قديمًا، يهدف إلى أعادة نحو 3 ملايين لاجئ سوري على الأراضي التركية، حسب ما تحدثت صحف تركية خلال العام الماضي، إلا أنه لم يتم الوصول إلى الاتفاق، بسبب الوجود الإيراني المستشري ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري في حلب.
ويبدو أن تركيا اتخذت موقفًا حازمًا إزاء سياسة النظام السوري المصرّة على إخراجها من الأراضي السورية دون الوصول إلى حلّ سياسي، إذ تفتح التحركات العسكرية للفصائل الباب أمام تغيرات جديدة في خرائط السيطرة، وتحقيق مكاسب ضاغطة على النظام السوري والمحور الإيراني، وهذا ما يتوافق مع المصالح الروسية.
خطوة تركية استباقية
مع فشل مسار تطبيع أنقرة مع النظام السوري، وتوسع عمليات الاحتلال الإسرائيلي لتصل إلى الأراضي اللبنانية ضد ميليشيا “حزب الله” اللبناني، وإعلان الهدنة بعد أكثر من شهرَين من الحرب، وصولًا إلى تهديد نتنياهو لرأس النظام بشار الأسد في الابتعاد عن إيران، بدأت تركيا تعمل وفق سياسة جديدة تضمن لها مصالحها الإقليمية.
ويرى الباحث فراس حاج يحيى، أن توقيت المعركة في ظل الحديث عن شرق أوسط جديد، وبُعيد ساعات من الهدنة في لبنان مع الاحتلال الإسرائيلي، وافتتاح جبهة ريف حلب بدل جبهة معرة النعمان وكفرنبل التي قد تحظى بدعم دولي، لأنها تستهدف الميليشيات الإيرانية بالتحديد، يشير إلى تدخل تركي غير مباشر.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن تركيا صاحبة القول والفصل بانطلاق العملية وإيقافها، وستستخدم نتائجها سواء كانت سلبية أو إيجابية لمصالحها، بهدف الحصول على أكبر المكاسب بالضغط على النظام السوري والولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بشمال شرقي سوريا، وهي من تحدد من أين تبدأ، ومتى تنتهي”.
وأضاف: “إن ما جرى منذ قرابة 24 ساعة ضمن عملية “ردع العدوان”، أشبه بتسليم واستلام للمواقع العسكرية، رغم إعلان عن وجود حشود عسكرية للنظام وحلفائه، ما ينبئ بوجود صفقة متفق عليها ويجري تنفيذها، تزامنًا مع تهديد إسرائيلي للنظام والتخطيط لمهاجمة الأراضي السورية بشكل أوسع، وهذا أكثر ما تخشاه تركيا”.
دعم شعبي.. ومخاوف
تحظى العملية العسكرية باحتفاء شعبي واسع، خاصة من أبناء المناطق المهجرة في مناطق ريفي حلب الغربي والشمالي، ومعرة النعمان وسراقب وكفرنبل في أرياف إدلب الجنوبية والشرقية، نتيجة تهجيرهم بشكل قسري من قبل النظام السوري وحلفائه بين عامي 2019 و2020.
لكن في الوقت ذاته، يتملك الأهالي في مناطق شمال غربي سوريا مخاوفًا عديدة، لا سيما أبناء مناطق خطوط التماسّ الحالية، خشية أن تتحول المكاسب الحالية إلى خسائر مستقبلية كما حصل في معركة فكّ الحصار عن حلب، وأرياف إدلب وحماة، إذ استطاع النظام وحلفاؤه قضم مناطق إضافية إلى جانب المناطق التي خسرها في البداية.
وحذّر ناشطون وباحثون سوريون في تقرير سابق على موقع “نون بوست”، من مخاطر شنّ عملية عسكرية دون وجود رعاية دولية، وخلص التقرير إلى أن شنّ عملية عسكرية دون غطاء دولي يعني إيجاد شرعية للنظام السوري وحلفائه، كل من إيران وروسيا، ذريعة للسيطرة على آخر معاقل المعارضة في مناطق شمال غربي سوريا، وتهديد حياة أكثر من 6 ملايين إنسان.
ختامًا، يبدو أن العامل الحاسم فيما تمتلكه فصائل المعارضة في عملية “ردع العدوان”، حصولها على توافقات من الأطراف الفاعلة في الشأن السوري مثل تركيا وروسيا، لأن الإعداد العسكري والبدني لعناصرها قد يلعب دورًا في تقدمها، لكنه يبقى ثانويًا في ظل التفوق الروسي الجوي، وعدم امتلاك المعارضة لدفاع جوي قادر على إيقافه، وهو ما يعني أن الكفّة العسكرية ستبقى لصالح النظام في حال وضعت روسيا ثقلها في المعركة.