جرت العادة أن يتحكم الوالدان بكل شاردة وواردة في حياة طفلهما خوفًا عليه من أي أذى محتمل، ومع ذلك لم ينجحا دومًا في حمايته، لا سيما في عصر منصات التواصل الاجتماعي التي دفعت بعض الأهالي لتشكيل هوية رقمية للطفل قبل أن يقرر ذلك بنفسه، بهدف توثيق الذكريات أو تثقيف الأسر الأخرى بتجارب التربية وتطورات نمو الطفل، وربما طلب الدعم والنصائح منهم في المقابل، وقد تتحول هذه المشاركات التوعوية إلى تجارة مربحة.
ففي بعض الأحيان يتلقى الأهل أجرًا ماديًا مقابل ما يقدمونه من نصائح وإعلانات لمستلزمات وألعاب الطفل، ويتسابقون على جمع أكبر عدد ممكن من التعليقات والإعجابات والمشاركات على صور أطفالهم لتحقيق الأرباح المادية، دون الالتفات إلى آثار وانعكاسات هذا السلوك على خصوصية الطفل وحياته الاجتماعية في المستقبل، وذلك تحت ما يُسمى بظاهرة “العائلة المدونة” أو كما يطلق عليها بالإنجليزية “Sharenting”.
الأطفال من أكثر المحتويات تداولًا على المنصات الافتراضية
عام 2015، ذكرت وسائل الإعلام أن فتاة نمساوية تبلغ من العمر 18 عامًا، رفعت دعوى ضد والديها بسبب انتهاكهما لخصوصيتها لأنهما كان ينشران صورًا محرجة لها في مرحلة الطفولة ورفضا إزالة المنشورات التي تزعجها، وبالتالي فتحت هذه الحادثة أبوابًا واسعة من التساؤلات عن حق الوالدين بالمشاركة عن حياة أبنائهم وحق الطفل في تكوين بصمته الرقمية بالطريقة التي يراها مناسبة.
ذكرت دراسة أن 56% من المنشورات احتوت على معلومات محرجة عن الأطفال، و51% احتوت على معلومات شخصية ودقيقة مثل تاريخ ميلادهم وموقعهم الجغرافي، و27% نقلوا صورًا غير ملائمة كإظهارهم وهم عراة
فلقد وجدت دراسة حديثة أن الأهالي ينشرون أكثر من ألف و500 صورة لطفلهم قبل أن يبلغ سن الخامسة، و80% من الأطفال بعمر سنتين لديهم حضور رقمي، وأكثر من 4 من كل 10 آباء يشاركون بشكل مستمر صور أطفالهم، إذ عادةً ما تشمل هذه الصور جميع مراحل حياتهم منذ الولادة وربما قبل وحتى دخولهم إلى المدرسة، وغالبًا ما تتضمن هذه المشاركات والمنشورات العديد من اللحظات والمواقف المحرجة.
إضافة إلى ذلك، ذكرت دراسة أجرتها جامعة ميشيغان أن الأهالي يشاركون معلومات متنوعة وعديدة عن أطفالهم، وقسمتها إلى 5 مواضيع، وهي مرحلة ما قبل المدرسة ومشاكل السلوك والتربية والانضباط ومشاكل النوم والتغذية، وأشارت النتائج إلى أن 56% من المنشورات معلومات محرجة عن الأطفال و51% احتوت على معلومات شخصية ودقيقة مثل تاريخ ميلادهم وموقعهم الجغرافي، و27% نقلوا صورًا غير ملائمة كإظهارهم وهم عراة، وهي معلومات يمكن تسجيلها وتخزينها، ما يزيد من خطورة استغلالها من بعض الأشخاص وخاصةً في محيط المدرسة وما قد يتعرض له الطفل من سخرية وتنمر من أقرانه المستقبليين.
ما المشكلة في نشر صور أطفالنا؟
رأت جامعة نيويورك أن نشر المعلومات الشخصية مثل أعياد الميلاد وأوقات أنشطتهم اليومية ودياناتهم وتفضيلاتهم ومواقع وجودهم، لا تصل فقط للأقارب والأصدقاء وغيرهم من المتابعين الافتراضين الذين يحاولون الاستفادة من تجارب الآخرين، وإنما تصل أيضًا للغرباء وربما المتحرشين الذين قد يتسببوا بأذى للأطفال من خلال مراقبة تفاصيل حياتهم اليومية، وتبعًا لذلك، نبهت نتائج الدراسة من الجهات التي قد تسرق هذه الصور مثل المواقع الإباحية الشاذة.
في هذا الخصوص، يقول كبير المحققين في مفوضية السلامة الإلكترونية توي داج، إن أحد هذه المواقع يحتوي على 45 مليون صورة على الأقل، ونصف تلك الصور سُرقت من المنصات الاجتماعية وتم تخزينها وتداولها في الموقع الإباحي بمسميات غير لائقة، ولذلك لا يفضل خبراء الأمن الإلكتروني تداول صور الأطفال بشكل مبالغ ومتكرر حتى لا تستخدم في أغراض لن تسر الأهالي.
وتخوفًا من هذا الاحتمال، أعلنت كل من فرنسا وبريطانيا عزمهما فرض غرامة ضد الآباء الذين ينشرون صور أطفالهم دون موافقتهم، لكن البعض يرى مبالغة في هذه الإجراءات والتخوفات، إلا أن خبراء السوشيال ميديا يرون أن كل ما يتم نشره على هذه المواقع عرضة لأهداف أحد المعلنين أو الشركات التي تريد الوصول إلى كل ركن من أركان حياتنا.
كما يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة مع مرور الوقت، فحين لا يشعر الطفل بأي سيطرة على معلوماته وأحداث حياته الخاصة، قد يؤدي ذلك إلى تشويه مفهومه ورأيه العام عن الخصوصية، وقد تختلط الحدود بين ما هو مسموح ومقبول وما هو غير ذلك.
المزيد من العواقب السلبية
أجريت دراسة في العام الحاليّ، بعنوان: “المشاركة: العشق الأبوي أم الإذلال العلني؟”، تتحدث عن دور الأهل في تحديد هوية أطفالهم الذاتية بواسطة ما ينشرونه عنهم من صور ومقاطع واقتباسات وقصص، وهي مشاركات قد تحبط الأطفال، خاصةً عندما يكونون في سن المراهقة المبكرة، فقد يكون الطفل بعيدًا كل البعد عن هذه الملامح التي يستعرضها الآباء أمام الملأ وبالتالي يشعر الطفل بالضغط النفسي، محاولًا أن يشبه الشخصية الرقمية التي اشترطها والداه عليه.
قد يعتقد الأهل أن هذه الأشياء لا تمثل مشكلة كبيرة، لكنها بلا شك تسبب ضررًا نفسيًا للمراهقين بالذات وتؤثر على صورتهم الذاتية، وفي بعض الحالات قد تخلق لديهم تصورات وتقديرات خاطئة، لا سيما فيما يخص مظهرهم الخارجي ومكانتهم الاجتماعية مثل اعتقادهم أن كثرة الإعجابات والتعليقات تعني أنهم أكثر أهمية وقبولًا في المجتمع، وقلتها تشير إلى انعدام أهميتهم وشعبيتهم في الواقع الحقيقي.
وإلى ذلك، تبقى هذه المسألة محور للجدل بين الكثيرين الذين يرى البعض منهم أن إيجابيات هذا النوع من التدوين يفوق السلبيات لا سيما في الحالات المرضية والعلاجية التي تستدعي الحصول على الدعم اللازم من الآخرين وتبادل الخبرات، وفي الوقت نفسه، يرى البعض أن حتى المشاركة في هذه المواضيع أمر غير مقبول لأنه قد يسبب الخجل والعار للطفل، ويعرضه لمواقف جارحة، ونظرًا لتعقيد الموضوع، يبقى التوازن في المشاركات والمدونات أكثر الخيارات آمانًا وأقلها خطرًا على حياة الطفل النفسية والاجتماعية.