شهد القطاع الصناعي في تركيا نقلات نوعية منذ تأسيس لبناته الأولى في عهد الدولة العثمانية التي شهدت سيطرة الأقليات غير المسلمة على هذا القطاع الناشئ الذي حالت حروب الدولة العثمانية اللامتناهية والأطماع الغربية دون تطوره. أولت الجمهورية التركية اهتمامًا خاصًا بالصناعة والتصنيع فشهد القطاع الصناعي منذ عشرينيات القرن الماضي عددًا من التطورات والنقلات أفضت إلى مكانة تركيا الحاليّة كإحدى أهم الدول الصناعية في العالم.
الصناعة في ظل الدولة العثمانية
شهدت الدولة العثمانية محاولات جادة لخلق بنية صناعية حقيقية، من خلال عمليات تحديث البنى الصناعية التقليدية وخلق قطاع صناعي مستقل بدءًا من عهد التنظيمات 1839، فظهرت عدد من المنشآت الصناعية كمصانع الزيت ومعامل النسيج وأحواض السفن الحديثة بالإضافة لمصانع المواد الغذائية، فوصلت عدد المنشآت الصناعية عام 1915 لـ269 منشأةً، 88 منها للصناعات الغذائية و75 منها للنسيج و55 لصناعات التبغ و20 مصنع إسمنت وسيراميك.
تركزت هذه الصناعات في المناطق الغربية للأناضول وخاصة مدن مثل إسطنبول وإزمير وبورصا ومانيسا وأوتشاك، حيث توجد 55% منها في مدينة إسطنبول، و22% في مدينة إزمير.
مصنع نسيح يعود للعصر العثماني
امتلكت الدولة 19% من المنشآت الصناعية، فيما عادت النسبة المتبقية لشركات وهيئات اعتبارية أخرى، وبينما امتلك الأتراك 20% من القطاع الصناعي في الدولة العثمانية امتلك اليونانيون والأرمن واليهود 80% منه.
ووفقًا لبيانات عام 1915 استثمر الأتراك ما نسبته 15% من رأس مالهم في القطاع الصناعي، فيما استثمر الروم ما نسبته 50% من رأس مالهم، واستثمر الأرمن 20% من رأس مالهم في القطاع الصناعي، أما اليهود فقد استثمروا 95% من رأس مالهم.
أما القوى العاملة في المجال الصناعي فشكل الأتراك ما نسبته 15% منها، فيما شكل الروم 60% من القوى العاملة، بينما شكل الأرمن 18% منها وجاء اليهود بنسبة 10%.
تعرضت الصناعة في عهد الدولة العثمانية لمضايقات غربية حالت دون تقدمها وتطورها، بالإضافة إلى المشاكل المحلية المتعلقة بالتمويل وغياب الخبرات وسيادة الطرق التقليدية في العمل والإنتاج.
الصناعة في ظل الدولة التركية
خرجت تركيا من حرب الاستقلال بخسائر كبيرة في الأرواح والأموال، سببتها الحروب الطويلة التي استنزفت قوى المجتمع التركي ومقدراته، الأمر الذي زاد من العبء الملقى على كاهل الحكومة التركية الناشئة، فنظم في الـ17 من فبراير/شباط 1923 المؤتمر الاقتصادي الأول في إزمير. ركز المؤتمر على آليات تطوير القطاع الصناعي وسبل تمويله، فتم تأسيس بنك العمل (İşbanakası) عام 1924 لتمويل المشاريع الصناعية وإدخال إصلاحات على مستوى الضرائب والجمارك، بالإضافة إلى ذلك حصل الأتراك على مساعدة السوفيت وعدد من الدول الغربية لتطوير قطاعهم الناشئ.
أنتجت هذه الخطوات ارتفاعًا في عدد المنشآت الصناعية في البلاد لما يقرب من 65 ألف منشأة، 43.5% منها في مجال الصناعات الزراعية و23.8% منها في النسيج و22.6% في صناعات المعادن.
تأثر الاقتصاد التركي بأزمة الكساد العالمي عام 1929، مما دفع الحكومة التركية إلى اتخاذ عدد من السياسات التدخلية لوقف التدهور، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية استفادت تركيا من مشروع مارشال لإعادة إعمار الدول المدمرة، فوصلت عدد المنشأت الصناعية 1950 لـ83.5 ألف منشأة صناعية، كما شهدت هذه الفترة زيادة دور الدولة التدخلي الذي تمثل في محاولات تتريك الصناعة التركية من خلال فرض تشريعات وقوانين ساهمت في هذه العملية.
مصطفى كمال أتاتورك إلى جوار عصمت إينونو خلال تفقد أحد مصانع النسيج
ومع تولي حكومة الحزب الديمقراطي الحكم بقيادة عدنان مندريس شهد القطاع الصناعي تقدمًا ملحوظًا عززته الإجراءات التسهيلية التي اُتخذت من الحكومة.
بالمجمل العام سيطرت النخب الاقتصادية الكمالية على العمليات التجارية والصناعية في ذلك الوقت مدعومة بسياسات التتريك التي اتخذتها الدولة التركية في بداية عهدها ومن ثم سياسات الحماية التي وفرتها الحكومة التركية، حيث استغلت هذه النخب علاقتها القوية مع النخب السياسية الحاكمة لضمان بقائها وتمددها.
تورجوت أوزال وظهور نمور الأناضول
لا يمكن تناول ما وصل الاقتصاد التركي من تطور دون التطرق لجهود تورجوت أوزال الذي يصفه البعض بـ”المؤسس الثاني للجمهورية التركية” نتيجة للأثر الكبير الذي تركته سياساته على المستوى الاقتصادي والسياسي التي ساهمت في تكوين صورة تركيا الحاليّة.
وصل تورجوت أوزال إلى الحكم بعد فوزه في أول انتخابات حرة بعد الانقلاب العسكري عام 1980. ورث أوزال تركيا وقد أثقلتها أزماتها الاقتصادية والسياسية عن المبادرة في وقت أخذ فيه العالم بالتغير والاتجاه نحو نظام دولي جديد، واستطاع إدراك متطلبات العالم الحديث وبدأ بالتحرك وفقًا لمقتضاياتها سعيًا لضمان مكان لتركيا داخل ترتيباته.
فاتخذ أوزال مجموعة من السياسات الاقتصادية التي تركزت على دعم قطاع الصادرات خاصة الصناعية منها، حيث شكل قطاع التصدير القاطرة التي أخرجت الاقتصاد التركي من حالة الانكماش وتدني مستويات التشغيل. استلزم ذلك من أوزال اتخاذ عدد من الخطوات باتجاه تحرير الاقتصاد التركي من قيود دولة الرفاه، فشهدت تلك الفترة عمليات خصخصة واسعة لقطاعات من الاقتصاد.
الرئيس التركي تورجوت أوزال
نمت بفضل هذه السياسات طبقة جديدة من رجال الأعمال في مدن الأناضول الداخلي كمدينة قيصري التي يعيش فيها 50 من بين أغنى 500 تركي، فتحولت من مدينة داخلية مصدرة للعمالة لمدن الغرب التركي إلى أهم مركز صناعي في تركيا.
قاد رجال الأعمال هؤلاء قاطرة التصدير للخارج، فأخذت الصادرات التركية بالارتفاع والتوسع لتغطي مساحات جغرافية وقطاعات صناعية جديدة، نظم رجال الأعمال الجدد أو كما يطلق عليهم “نمور الأناضول: Anadolu Kaplanları” أنفسهم في اتحاد الصناع ورجال الأعمال المستقلين موسياد “Müsiad“، وارتكز حزب العدالة والتنمية في صعوده وتقدمه على هذه الفئة من رجال الأعمال التي رأت في صعوده ترجمة لإنجازاتها الاقتصادية.
الصناعات الدفاعية والبحث عن فائض القيمة
لطالما شكلت الصناعات الدفاعية القاطرة التي ارتكزت عليها الصناعات المدنية التي يعود تطورها إلى تطور الصناعات الدفاعية، فمنذ نشأة الجمهورية، والدولة التركية تولي اهتمامًا للصناعات الدفاعية، لكن التطورات السياسية في العقود الأخيرة جعلت من الصناعات الدفاعية أولوية وضرورة عززتها رؤية حزب العدالة والتنمية لمستقبل البلاد.
فتسعى تركيا حالًًّا لتجاوز النمط التقليدي من الصناعة – كصناعة المواد الكهربائية والسيارات وغيرها من الصناعات التي تسمح بهامش محدد من الربح – والوصول إلى قدرات في إنتاج وتصدير التقنية العالية التي تعد الصناعات الدفاعية بوابتها الأساسية.
فاستطاعت تركيا خلال السنوات الأخيرة تحقيق تقدم واضح وملموس في صناعاتها الدفاعية وخاصة صناعات الطائرات دون طيار، حيث استطاعت فرض نفسها كلاعب مهم إلى جوار عدد من الدول الكبرى، وتسعى إلى تطوير بنية تحتية معرفية تعمل على نقل الاقتصاد التركي من كونه اقتصادًا صناعيًا إلى اقتصاد يقوم على المعرفة، يأخذ القطاع الخاص إلى جوار الجامعات ومراكز الأبحاث دورًا رياديًا في هذا التوجه.
ويولي حزب العدالة والتنمية اهتمامًا خاصًا بهذا القطاع فيلاحظ قرب رواده من الحزب، فشركة بايكار المنتجة للطائرات دون طيار بيرقدار وبيرقدار 2 تعود في ملكيتها إلى المهندس سلجوق بيرقدار صهر الرئيس التركي.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أثناء زيارته لقاعدة جوية لتشغيل الطائرات دون طيار