تعود جذور العلاقات العراقية التركية إلى أوائل القرن الـ20، التي كان يحكمها جملة عوامل وأسس تاريخية واقتصادية وثقافية نابعة من علاقات الصداقة وحسن الجوار وتشابك المصالح الثنائية، رغم تخلخل العلاقات في بعض الأحيان والدخول في مراحل من القطيعة.
وعلى هذا الأساس حملت العلاقات بين البلدين أبعادًا دولية وإقليمية، فالدائرة العراقية لها أهمية كبيرة إقليميًا وعالميًا، بحكم الموقع الجيوإستراتيجي المهم والموارد الاقتصادية الهائلة، مما أكسبها دورًا مهمًا وعلى مختلف الصعد.
كذلك الدائرة التركية وما تحمله من مكانة كبيرة على الصعيد الإقليمي والعالمي، فتركيا إحدى الدول الرئيسة التي تجاور العراق والوطن العربي، وتمتاز بثقلها الديمغرافي وقوة جيوبوليتيكية ذات وزن سياسي واقتصادي مؤثر، نالت بفضل مظاهرها الجغرافية ميزات جعلت منها قوة إقليمية ترغب في أن يكون لها دور قيادي ضمن حيز واسع يتجاوز حدود المنطقة، ويرسم سمات اتجاهات سياستها الخارجية نحوه.
حاولت تركيا فيما مضى خلق واقع جيوبوليتيكي داخل حدود العراق، مما شكل إرباكًا للمنطقة الحدودية المشتركة بين البلدين، خصوصًا أن الحكومات التركية المتعاقبة عملت على تسخير قضية الحدود بين البلدين، وتحديدًا مسألة التعاطي مع قضية الموصل، وجعلتها مدخلًا للتدخل في الشؤون الداخلية العراقية، واعتبر العراق هذا الوضع تدخلًا في شؤونه الداخلية وانتهاكًا لحرمة أراضيه وسلامته الإقليمية، وتناقضًا مع علاقات حسن الجوار وقواعد القانون الدولي والمعاهدات الدولية والاتفاقات الحدودية الدولية التي تم إبرامها مع تركيا، ووافقته على هذا الرأي جامعة الدول العربية والمجموعة الأوروبية التي وقفت كذلك بالضد من تطلعات تركيا تجاه دول إقليمها.
شكل التعاطي السياسي التركي مع مدينة الموصل كتاريخ وجغرافية، إشكالية كبيرة على صعيد الخطاب السياسي والإستراتيجية العملياتية نحو العراق
حظيت مدينة الموصل بمكانة مهمة في عقلية السياسي التركي، وعلى امتداد التاريخ السياسي المعاصر، شكلت هذه المدينة قاعدة التوازن والصراع بمختلف مراحل التاريخ، بدءاً من الأكاديين والسومريين، ثم الأشوريين والبابليين، والبيزنطينيين والساسانيين، والعثمانيين والصفويين، فالإنجليز والأتراك، والعراق وتركيا، بل يمكن القول أيضًا إنها كانت جزءًا من مسلسل نهاية الإمبراطورية العثمانية، وكيف لا وهي آخر مدينة انسحب منها العثمانيون بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
إذ شكل التعاطي السياسي التركي مع مدينة الموصل كتاريخ وجغرافية، إشكالية كبيرة على صعيد الخطاب السياسي والإستراتيجية العملياتية نحو العراق، وهو ما خلق حالة من الصدام السياسي بين البلدين، مبعثه سعي تركيا الدائم إلى استغلال قضية وجود التركمان في هذه المدينة، فضلًا عن كونها غنية بالموارد الطبيعية والزراعية، ورغم السعي العراقي الدائم إلى إيعاد هذه المدينة من أي حسابات سياسية بين البلدين، فإن تركيا لم تفرط بهذه الورقة حتى الآن.
إذ خضعت مدينة الموصل لحسابات سياسية معقدة، أرهقت كثيرًا الساسة الأتراك، فمنذ اتفاق مودرس 1918 واتفاق سيفر 1920 والميثاق الوطني التركي عام 1920 الذي صادق عليه مجلس المبعوثين العثماني قبل إعلان الجمهورية التركية واتفاق لوزان 1923 واتفاق أنقرة 1926، ما زالت تركيا ترنوا ببوصلتها كلما استجد طارئ على الساحة الموصلية، فهي لا تريد أن تسقط ورقة الاستحقاق التاريخي التركي في هذه المدينة، بناءً على رؤيا تركية مفادها أن هذه المدينة انتزعت بالقوة من الأتراك، والجغرافيا الموصلية امتداد طبيعي للجغرافيا التركية التي نص عليها الميثاق الوطني التركي.
لا ينبغي للحكومة العراقية أن تتجاهل حقوق الأمن القومي العربي والتركي في الموصل، وضرورات استقرار المنطقة
وبالتوافق مع ما ذكر أعلاه، شكلت اتفاقية لوزان 1923، محور التعاطي السياسي للقيادة السياسية التركية الحاليّة مع مدينة الموصل، ففي عام 2016 قال كتاب أتراك مقربون من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن تركيز الرئيس التركي في العام ذاته مع المخاتير الأتراك على ما يصفونه بـ”جرح اتفاقية لوزان العميق”، يحمل رسائل للداخل والخارج، منها أن الأتراك لم ينسوا ما فُرض عليهم في لوزان، وحينها قال الرئيس أردوغان: “هناك من يريد إقناعنا بأن معاهدة لوزان انتصار لتركيا وللأتراك.. لوّحوا لنا بالموت لنقبل بالعاهة الدائمة”.
وفي العام ذاته نقلت وكالة “رويترز” عن الرئيس التركي أيضًا قوله إن الحدود بين بلاده ودول الجوار “ثقيلة على قلوبنا“، كما أعلن في تصريحات أخرى: “الموصل كانت لنا، وكركوك كانت لنا“، وأضافوا أن حرص الرئيس أردوغان على التدخل العسكري في دول الجوار لتحصين خط حلب الرقة الموصل، وضمان موطئ قدم جديد لتركيا في سوريا والعراق.
وفي تقرير لوكالة الأناضول التركية تحدثت عن أن الأرشيف الرسمي يحتفظ بعشرات الآلاف من الوثائق، عما سمته أملاك أصيلة تعود لفترة الحكم العثماني في الموصل وكركوك بالعراق وحلب بسوريا، ونقلت تقارير إعلامية عن صحيفة “يني عقد” المعروفة بقربها من أردوغان في 2017 زعمها أن كركوك والموصل من أملاك السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، فيما ذهبت مجلة “جرتشاك حيات” التابعة لمجموعة “يني شفق” التركية لأبعد من ذلك، حين قالت إن تركيا لديها صك ملكية الشرق الأوسط، وفي الاتجاه ذاته، ظهر مقطع فيديو للرئيس أردوغان وهو يتحدث عن أحلامه بالعودة التركية للشرق الأوسط الذي كان تحت السيطرة العثمانية بقوله “يوجد هناك (في تلك الدول) الكثيرون الذين ينتظرون عودتنا منذ 100 عام“.
تشكل مدينة الموصل قاعدة مهمة لانطلاق الأتراك نحو ثلاثة مجالات جيوسياسية هي: الأول الموصل – سوريا – الأردن، أما الثاني فهو الموصل – بغداد – الخليج العربي، في حين يربط المجال الثالث مدينة الموصل -إقليم كردستان – غرب إيران
بل والأكثر من ذلك صرح مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك في خطاب ألقاه في مجلس أنقرة، أنه واثق من أن مجلس عصبة الأمم سيراعي قراره النهائي الذي يصدره بحل مشكلة الموصل وحقوق تركيا، ثم قال إن علاقة تركيا مع فرنسا حسنة جدًا نظرًا إلى تسوية الخلاف الذي كان قائمًا بين الدولتين بخصوص الحدود السورية، وهذا ما تؤكده الوثائق الدولية ذات الشأن، وفي بعضها حق تركيا باستعادة الموصل حال انفصالها عن الدولة العراقية، بحسب شروط وملاحق معاهدة لوزان اللاحقة، ولذلك لا ينبغي للحكومة العراقية أن تتجاهل حقوق الأمن القومي العربي والتركي في الموصل، وضرورات استقرار المنطقة، وحق شعوبها العيش بأمن وأمان، ودون حروب طائفية ولا قومية.
عندما يفكر الساسة الأتراك بمدينة الموصل فإن النسق السياسي التركي يستحضر أربعة أبعاد رئيسية هي:
البعد الأمني: وهنا يتم الحديث عن سياسة الأمن القومي التركي، إذ تعطي هذه السياسة قيمة أمنية عليا لمدينة لموصل، حيث تحتل هذه المدينة موقعًا مركزيًا في هذه السياسة، فتشير وثائق الأمن القومي التركي إلى أن المجال الأمني التركي يمتد من أنقرة شمالًا حتى بغداد جنوبًا، ومن حلب غربًا حتى قصر شيرين شرقًا، ومدينة الموصل النقطة المركزية لتلاقي هذه الأبعاد الأربع، وبالتالي ينبغي الحفاظ على هذه المدينة ضمن دائرة التأثير السياسي التركي.
البعد الجيوسياسي: تشكل مدينة الموصل قاعدة مهمة لانطلاق الأتراك نحو ثلاثة مجالات جيوسياسية هي: الأول الموصل – سوريا – الأردن، أما الثاني فهو الموصل – بغداد – الخليج العربي، في حين يربط المجال الثالث مدينة الموصل – إقليم كردستان – غرب إيران، ولهذا نجد أن صانع السياسة في تركيا يدرك القيمة الجيوسياسية لمدينة الموصل، فهي وكما عبر عنها رئيس الوزارء التركي السابق أحمد داوود أغلو بأنها الممر الطارئ للنفوذ إلى جيوبولتيك الشرق الأوسط والخليج العربي.
سعت تركيا إلى استغلال المخاضات الأمنية التي مر بها العراق منذ العام 2014 وحتى اليوم، لرسم خطوط نفوذها في العراق، التي تأتي في مقدمتها مدينة الموصل
البعد الاقتصادي: وهنا يمكن القول بأن جميعنا يعرف جيدًا مدى أهمية هذه المدينة اقتصاديًا لتركيا، فهي ساحة شهدت رواجًا وانتشارًا واسعًا للبضائع والصادرات التركية، ولهذا تسعى تركيا جاهدة للحفاظ على هذه المدينة بوصفها موقعًا مميزًا لتصريف المنتجات التركية.
البعد الديني “المذهبي”: تشترك مدينة الموصل بكونها معقلًا أساسيًا للإسلام المعتدل ببعده المذهبي السني الصوفي الحنفي مع تركيا التي يزيد عدد معتنقي هذا المذهب على 80% من مجموع سكانها، ولهذا تسعى دائمًا إلى إبعاد هذه المدينة عن تأثير نفوذ دول تسعى للامتداد إلى هذه المدينة، والتأثير على هذه الرابطة المذهبية التي تربطها بتركيا، خصوصًا أن تركيا تولي هذا الرابط اليوم أهمية كبيرة مع وجود أحزاب سياسية في تركيا تدفع بهذا الاتجاه، ضمن إطار العثمانية الجديدة الهادفة إلى إعادة السيطرة التركية على جغرافية السلطنة العثمانية القديمة.
سعت تركيا إلى استغلال المخاضات الأمنية التي مر بها العراق منذ العام 2014 وحتى اليوم، لرسم خطوط نفوذها في العراق، التي تأتي في مقدمتها مدينة الموصل، وعلى الرغم من علامات الاستفهام الكثيرة التي أثيرت عن طبيعة تعاطي الدور التركي مع وجود تنظيم داعش في المدينة، فالثابت أن تركيا لعبت على فرضية استثمار مزدوج للعدو تفيد وتستفيد منه، بالصيغة التي تخدم مجالات نفوذها في هذه المدينة.
بالمجمل يمكن القول إن مدينة الموصل ستبقى حاضرة في ذهنية السياسي التركي، طالما بقيت الدولة العراقية تراوح مكانها، وطالما غابت سياسة خارجية عراقية واضحة الأطر والأهداف، قادرة على إخراج هذه المدينة من دائرة المساومة، فالثابت أن هذه المدينة حضرت وما زالت في كل المشاكل البينية بين العراق وتركيا، فكلما ضعف طرف انبرى الطرف الآخر لتوظيف هذه المدينة ضد الآخر سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، بل يضاف إلى ما تقدم أن ارتباط الشأن الداخلي في مدينة الموصل بالشأن الإقليمي والدولي، سيزيد من حالة عدم الاستقرار السياسي في هذه المدينة، وهو ما سيدخل تركيا في صراعات لامتناهية بشأنها، فهي لا تريد بالمطلق تكرار سيناريو مدينة حلب السورية، وعليه فإن إبراز أهمية هذه المدينة عراقيًا سيجعلها في غنى عن الكثير من الحسابات السياسية الداخلية والإقليمية المعقدة.