تحتل المؤسسة العسكرية بأفرادها وهيئاتها مكانًا مميزًا لدى المجتمع التركي، وذلك انعكاسًا للحضور القوي للنزعة العسكرية فيه التي تظهر في عادات المجتمع وتصوراته عن ذاته التي يرى فيها أن كل تركي يولد جنديًا “Her türk asker doğar“، كما تظهر في توصيفاته التي يطلقها على المشتغلين بالقوات المسلحة الذين يصفهم بالمحمديين “Mehmetçik“.
سببت هذه التسمية جدلًا على مواقع التواصل الاجتماعي العربية بعد استخدامها من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لوصف قوات الجيش التركي وذلك في أثناء إعلان انطلاق العملية العسكرية شمال شرق تركيا التي حملت اسم “نبع السلام”.
تسائل عدد من النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي عن سبب التسمية وأصولها ووقت ظهورها واستخدامها، حيث ظن العديد من النشطاء أن هذه التسمية ظهرت في عهد حزب العدالة والتنمية وتحديدًا على يد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لكن الحقيقة أن ظهور هذا الوصف يرجع إلى فترة الحرب العالمية الأولى، حيث تعددت الروايات بشأن التسمية والسياق الذي جاءت به هذه التسمية.
أقبل كافة أفراد الجيش المحمدي الأبطال المشاركين في عملية نبع السلام من جباههم، وأتمنى النجاح والتوفيق لهم ولكافة العناصر المحلية الداعمة والتي تقف جنبًا إلى جنب مع تركيا في هذه العملية، وفقكم الله وكان في عونكم.
— رجب طيب أردوغان (@rterdogan_ar) October 9, 2019
العساكر المنصورة المحمدية
لطالما شكلت تشكيلات الانكشارية مصدر تحدٍ للسلاطين العثمانيين الذين سعوا جاهدين لضبطها وإصلاحها، وبحلول القرن الـ19 تحولت هذه التشكيلات إلى مصدر حقيقي للإزعاج وعدم الاستقرار مما دفع السلطان محمود الثاني إلى اتخاذ قرار إنهائها، فتم حصار معسكرات الانكشارية وقصفها بالمدفعية والقضاء عليها نهائيًا عام 1826.
قام السلطان محمود الثاني بعد ذلك بإعادة بناء الجيش العثماني من خلال استحداث تشكيلات جديدة حملت اسم العساكر المنصورة المحمدية “Asâkir-i Mansûre-i Muhammediyye“.
تعمد السلطان محمود الثاني إضافة لفظ المحمدية رغبة منه في استرضاء علماء الشرع في الدولة العثمانية الذين تعاطفوا مع قوات الانكشارية في رفض مظاهر التحديث التي رأى فيها بعضهم مخالفة للشريعة الإسلامية.
ورغم قدم التسمية وتشابهها مع الوصف الحاليّ، فالمرجح أن وصف المحمديين الحاليّ يرجع لمرحلة أقرب لتلك الحقبة، حيث لم يكثر استخدام الوصف قبل الحرب العالمية الأولى ومعاركها، كما أن الوصف “Muhammediyye” يختلف في أصله عن الوصف “Mehmetçik“، فالأول يرجع أصله كلية إلى اللغة العربية ويأتي بمعنى محمدي، في حين جاء الوصف الثاني من اللغة التركية حيث يتكون من الاسم “مهمت” وهو مرادف للاسم محمد، حيث يكثر استخدامه من الأتراك، واللاحقة “çik” تستخدم للتصغير والتحبيب.
حملة ليبيا والجندي مهمت
تعرضت ليبيا في سبتمبر 1911 لعدوان إيطالي هدف إلى احتلال الأراضي الليبية آخر ما تبقى للعثمانيين في شمال إفريقيا، وردت الدولة العثمانية بإعلان الحرب على إيطاليا وإرسال المتطوعين من الضباط والجنود العثمانيين للقتال في الأراضي الليبية إلى جوار القبائل العربية هناك.
ووفقًا لبعض الروايات والمصادر وعلى رأسها مجلة الجيش التركي فإن وصف المحمدي يرجع لحادثة وقعت خلال معركة طبرق 1912، حيث استشهد جندي عثماني يحمل اسم محمد إلى جوار عريف تركي أخذ في الصراخ بأن محمد سقط شهيدًا ليجيب الضابط بصوت عالٍ “وا محمدي، واه Vah vah Mehmetçik“، ظن الجنود الأتراك أن من سقط يحمل اسم “مهمتشيك” حيث دون في سجل شهداء الكتيبة باسم “مهمتشيك”.
لاحقًا تم تسجيل جميع الشهداء المجهولي الاسم والهوية باسم مهمتشيك، وبذلك انتشر الاسم وأصبح وصفًا خاصًا بالجنود الأتراك.
مجموعة من الضباط الأتراك والمتطوعين العرب
الشاويش محمد البجالي
ولد الشاويش محمد البجالي عام 1878م في مدينة بلوفديف بالدولة العثمانية التي أصبحت الآن تابعة لبلغاريا، حيث دفعت الحرب الروسية العثمانية عام (1877-1878) إلى الانتقال للأناضول حيث عاش وعائلته.
ومع بداية الحرب العالمية العظمى التحق الشاويش محمد البجالي باللواء 27 ضمن الفرقة التاسعة المكلفة بحماية مضيق جناق قلعة، حيث قاد الشاويش محمد البجالي قلعة سد البحر ضمن الطابور الثالث.
وبحلول شهر مارس 1915 قامت قوات الأنزاك بالإنزال على شاطئ جناق قلعة وبدأت بالتقدم باتجاه قلعة سد البحر التي تمركزت فيها قوات البجالي، حيث اشتبكت قوات محمد البجالي لمدة ثلاث ساعات مع قوات الأنزاك، ورغم التفوق العددي لقوات الأنزاك، فإن مفرزة البجالي استطاعت الصمود والقتال بصورة ضارية.
وبعد ثلاث ساعات كاملة من الاشتباك سقط ما يقرب من 6 مقاتلين أتراك و23 مقاتلاً من الإنجليز، واستطاعت مفرزة الشاويش محمد تثبيت قوات الأنزاك ومنعها من التقدم، ومما يذكر للشاويش محمد أنه في أثناء القتال نفدت ذخيرته فهاجم الأنزاك بالحجارة والفأس الخاص به، حيث تعرض لإصابات دفعت إلى نقله للمستشفى، حيث رفض المكوث طويلًا مفضلًا الذهاب إلى الجبهة للقتال بجوار رفاقه.
محمد البجالي
وبعد انتهاء المعارك نال الشاويش محمد النجمة الفضية وانتشر اسمه في الصحف العثمانية كشخصية بطولية، حيث أهداه قائد الفرقة 19 مصطفى كمال باشا ساعته الفضية الخاصة، وفي هذا السياق تمت تسمية الجنود الأتراك بالمحمديين نسبة إلى بطولة الشاويش محمد وتيمنًا بها.
صورة من متحف الشمع الخاص بمعركة جناق قلعة
عاش الشاويش محمد في قرية تركية، حيث رفض كل العروض المادية من الدولة التركية، وأكد أن ما قدمه يأتي في إطار الواجب الوطني رافضًا الحصول على أي مقابل مادي، وظل البجالي مداومًا على حضور ذكرى الانتصار في معركة جناق قلعة حتى وفاته في قرية أرين كوي في 13 من فبراير/شباط 1964 عن عمر يناهز 86 عامًا.
فخري باشا
تولى فخر الدين باشا قيادة الحامية العثمانية في المدينة المنورة خلال الحرب العالمية الأولى، حيث تعرضت قوات فخر الدين لحصار شديد من قوات الشريف حسين المدعومة من الإنجليز.
استطاع فخر الدين باشا الصمود بقواته بفضل سكة الحجاز التي وفرت له حدًا أدنى من التموين المستدام، لكن سيطرة قوات الشريف حسين على السكة وحالة الانهيار التي تعرضت لها القوات العثمانية في بقية الجبهات، بالإضافة إلى الأوامر العليا، دفعت خيري باشا لتسليم المدينة المنورة وإجلاء القوات العثمانية المشاركة في عملية الدفاع.
وينسب لفخري باشا استخدامه أول مرة لمصطلح المحمديين في أثناء مراسلاته مع حكومة إسطنبول خلال حصار المدينة، بالإضافة إلى ذلك استخدم فخري باشا هذا الوصف بصورة مكثفة خلال خطاباته الحماسية لجنوده المحاصرين، فمهمة هؤلاء الجنود كما صورها فخري باشا تتمثل في حماية قبر النبي محمد من الأعداء، فهم المحمديون في هذه المهمة.
فخري باشا
ختامًا ترجح المصادر التركية وعلى رأسها مجلة الجيش التركي ارتباط وصف المحمدي بقصة الجندي مهمت الذي استشهد في أثناء الحملة الإيطالية، وهذا ما يدعمه العامل الزمني حيث تسبق الحملة الإيطالية على ليبيا معركة جناق قلعة وحصار المدينة المنورة.
يتضح مما سبق، أن ظهور المصطلح لم يرتبط بالمعنى الذي ينسبه إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكن الاستخدام المتداول للوصوف لا يحيل المسألة إلى أصولها التاريخية بقدر ما ينسبها إلى النبي محمد صلي الله عليه وسلم، إذ يأتي هذا الوصف في ضوء جهد المجتمع التركي لترميز الجيش التركي، حيث يتسق هذا الوصف مع تصور الأتراك عن دورهم ومساهمتهم في التاريخ الإسلامي كشعب مقاتل استطاع حماية هذه البلاد في محطات تاريخية، ولا يرتبط استخدام هذا الوصف بصعود حزب العدالة والتنمية ذي الخلفية الإسلامية للحكم، فالوصف مستخدم بصورة واسعة لدى كل فئات المجتمع التركي بما فيها الأشد علمانية.