ضجّت وسائل الإعلام خلال الساعات الماضية بالتصريحات غير المسبوقة لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي التي حذر فيها من أن بلاده “ستحشد الملايين” إذا اضطرت لخوض حربٍ بسبب النزاع مع مصر على مشروع سد النهضة الإثيوبي.
جاءت لغة الزعيم الإثيوبي الشاب مختلفة هذه المرة، وما زاد الاستغراب والدهشة أنها أتت بعد أقل من أسبوعين على فوزه بجائزة نوبل للسلام التي منحت له تقديرًا لدوره في تحقيق المصالحة مع الجارة إريتريا إضافة إلى دوره البارز في إبرام اتفاق نقل السلطة بين المدنيين والعسكريين في السودان قبل شهرين.
من المهم أن نشير إلى أنها أولًا وردت ضمن جلسة استماع للرجل أمام مجلس النواب “البرلمان”، وكان آبي أحمد يتحدث عن مختلف الملفات التي تهم المواطن الإثيوبي
تصريحات آبي أحمد تُعد الأولى من نوعها منذ التصريح الشهير لوزير خارجية إثيوبيا الأسبق تيدروس أدهانوم الذي قال في العام 2015 إن “مصر أضعف من أن تدخل حربًا معنا”، وآنذاك شغل حديث أدهانوم وسائل الإعلام العالمية وخاصة المصري الذي اعتبره تصريحًا عدائيًا مهينًا للقاهرة.
بالنسبة للمراقبين والمهتمين بالشأن الإثيوبي كانت لغة وأسلوب وزير الخارجية الإثيوبي الأسبق مفهومةً إلى حدٍ كبيرٍ نسبة لأن الرجل كان أحد أعضاء “جبهة تحرير تغراي” TPLF التي كانت تعد الحزب الأكثر تشددًا وسيطرةً على القرار داخل الائتلاف الحاكم في إثيوبيا، أما وقد تغيّر الوضع منذ أواخر مارس/آذار من العام الماضي بعد تبني ائتلاف الجبهة الثورية الحاكم في إثيوبيا لسياسة الإصلاح وتوقيع اتفاق السلام مع إريتريا فقد أصبحت اللغة أكثر هدوءًا وميلًا لحل الخلافات عن طريق الحوار رغم أن رئيس الوزراء الجديد آبي أحمد لم يقدم تنازلات لمصر في موضوع سد النهضة حتى الآن.
بالعودة إلى التصريحات الجديدة التي شغلت المنطقة والعالم، فإنه من المهم أن نشير إلى أنها أولًا وردت ضمن جلسة استماع للرجل أمام مجلس النواب “البرلمان”، وكان آبي أحمد يتحدث عن مختلف الملفات التي تهم المواطن الإثيوبي كالاقتصاد والانتخابات ومستقبل الائتلاف الحاكم.
عندما فُتح باب النقاش وجّه إليه أحد الأعضاء سؤالًا عن سد النهضة وبالتحديد عن كيفية التعامل مع التهديدات المصرية بضرب السد “في إشارة لما يتداوله الإعلام المصري عن إمكانية توجيه ضربة عسكرية تدمر السد بعد وصول المفاوضات إلى طريق مسدود“، عندها لم يتردد آبي أحمد في الإجابة: “يقول البعض أمورًا عن استخدام القوة (من مصر)، ينبغي التأكيد أنه ما من قوة تستطيع منع إثيوبيا من بناء السد”، وقال أحمد “إذا كانت هناك ضرورة للحرب نستطيع حشد الملايين، إذا كان البعض يستطيع إطلاق صاروخ فالآخرون قد يستخدمون القنابل، لكن هذا ليس في مصلحتنا جميعًا”.
ما وراء تصريح آبي أحمد
لكن رئيس الوزراء الإثيوبي عاد وقال: “الحروب لن تفيد أي طرف، لا مصر ولا السودان ولا إثيوبيا”، وقال إن السد سيُستكمل بطريقة لن تضر بدول حوض النيل، نافيًا وجود أي رغبة لدى بلاده في الإضرار بالمصريين.
ويمكن الإشارة لخمس نقاط قد تمثل أسبابًا مفهومة لتصريحات آبي أحمد، النقطة الأولى: أن حديث آبي أحمد جاء ردًا على سؤال من أعضاء البرلمان بشأن التهديدات التي تبثها وسائل الإعلام المصرية عن إمكانية ضرب السد إذا فشلت المفاوضات نهائيًا. نشير هنا من واقع معايشتنا للشعب الإثيوبي والمثقفين منهم بالتحديد أنهم أصبحوا يتابعون الإعلام المصري بدقة في الآونة الأخيرة باللغتين العربية والإنجليزية، ومستاؤون جدًا من التناول السلبي لصورة بلادهم والاستعلاء الذي يمارسه إعلام السيسي مثل الحديث عن أن طائرة مجهولة واحدة كفيلة بمهمة تدمير السد!
النقطة الثانية، أن فوز الزعيم الإثيوبي بجائزة نوبل للسلام منحه ثقة وكاريزما عالمية أدتا إلى تقوية موقف بلاده التفاوضي، كما أنه ضمِن التأييد السوداني غير المسبوق لموقفه في السد على مستوى الحكومة وعلى مستوى الشعب، فالسودانيون استقبلوا آبي أحمد استقبال الأبطال وصفقوا له كما لم يصفقوا لأحد يوم توقيع اتفاق نقل السلطة! وهذا ربما يكون السبب الثالث، أي الدعم السوداني الكامل لموقف بلاده في مواجهة مصر التي تقف وحيدة.
النقطة الرابعة، رغبة رئيس الوزراء الإثيوبي المحتملة في التعبير عن زهده في الجلوس مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي يُفترض أن يلتقي به يوم الأربعاء 23 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، أو ربما يريد أن يفشِل اللقاء قبل حدوثه بحيث لا تكون هناك آمال مصرية كبيرة معقودة عليه.
الخامسة، أن سد النهضة محل إجماع شعبي في إثيوبيا بين كل القوميات والأحزاب السياسية حاكمة أو معارِضة، ولذلك لم يكن من المستغرب أن يشيد أحمد بمساعي القادة الإثيوبيين الذين سبقوه واجتهادهم في تنفيذ مشروع السد، وتوضيح فوائده لحث المواطنين على مواصلة تقديم العون المادي والمعنوي، خاصة أن السد ساهم فيه كل فئات المجتمع الإثيوبي “أفراد ومؤسسات وشركات”، بالاستثمار والتبرعات المالية، وليس ممولًا من قطر ولا “إسرائيل” كما يزعم إعلام السيسي!
الشعوب الإثيوبية على اختلاف ثقافاتها ومشاكلها الداخلية، تتوحد جميعًا عندما تشعر أن هناك خطرًا يتهدد البلاد، وقد حدث ذلك بالفعل عندما حاولت إيطاليا غزو إثيوبيا عام 1896 فكانت معركة عدوة الشهيرة التي شكّلت أول هزيمة عسكرية مؤثرة لقوة استعمارية أوروبية على يد قوة غير أوروبية منذ بدء الاستعمار، وقد أثّرت موقعة عدوة كثيرًا على معنويات سكان المستعمرات حيث قضت على أسطورة أن الأوروبى لا يقهر، وحتى عندما عادت إيطاليا لغزو إثيوبيا عام 1936 لم يتمكن المحتل الإيطالي من البقاء في إثيوبيا إلا 4 أعوام فقط، تمكن بعدها الإمبراطور هيلا سيلاسي من استعادة ملكه على إثيوبيا.
اعتبرت الخارجية المصرية أن تصريحات أحمد تضمنت إشارات سلبية وتلميحات غير مقبولة، وقالت إن تصريحاته تخالف “نصوص ومبادئ وروح القانون الأساسي للاتحاد الإفريقي”
بالعودة إلى موضوعنا، نجد أن ردة الفعل المصرية على تصريحات آبي أحمد، لم تتأخر كثيرًا، فقد صرّح في البداية، وكيل أول لجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان، اللواء ممدوح مقلد، بأن إثيوبيا “إذا منعت عن مصر المياه، سنفوض الرئيس للتعامل مع أزمة سد النهضة”، وقال مقلد في تصريحات خاصة لـRT: “لن نصمت إذا منعت إثيوبيا المياه عن مصر، ولكن لا نأمل في أن تصل الأمور لهذا الحد”.
التصريح الآخر الأهم جاء في شكل بيانٍ صاغته وزارة الخارجية المصرية، أعربت فيه عن صدمتها ومتابعتها بقلق بالغ وأسف شديد للتصريحات المنسوبة لرئيس الوزراء آبي أحمد، أمام البرلمان الإثيوبي، واعتبرت الخارجية المصرية أن تصريحات أحمد تضمنت إشارات سلبية وتلميحات غير مقبولة، وقالت إن تصريحاته تخالف “نصوص ومبادئ وروح القانون الأساسي للاتحاد الإفريقي”.
التدويل.. خيار مصر الأوحد
في ظل الأزمة الراهنة المستفحلة لا يبدو الطريق سالكًا أمام مصر لمواجهة أزمة سد النهضة، بعد أن ورطها الرئيس عبد الفتاح السيسي في إعلان المبادئ الموقع في الخرطوم عام 2015، إلا بخيار واحد غير مضمون النتائج وهو تدويل الملف.
فمصر تدرك تمامًا حجم الورطة التي وقعت فيها، لذلك جاء الرد الرسمي على تصريح آبي أحمد متزنًا لدرجة كبيرة، حيث اكتفت خارجية السيسي بالتعبير عن الصدمة والدهشة، والتذكير بأن رئيس الوزراء الإثيوبي نال جائزة نوبل للسلام قبل أيام.
فعليًا، بدأت مصر في تدويل الأزمة، إذ عقد نائب وزير خارجتها السفير حمدي لوزا، اجتماعًا الأسبوع الماضي مع سفراء كل من ألمانيا وإيطاليا والصين، وهي الدول التي تعمل شركاتها في سد النهضة، خاصة شركة ساليني الإيطالية المقاول الأول للمشروع.
كان الغرض من اجتماع المسؤول المصري الرفيع بالسفراء، التعبير عن استيائه جراء استمرار عمل هذه الشركات في سد النهضة، رغم عدم وجود دراسات عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لهذا السد على مصر، ورغم علمها بتعثر المفاوضات بسبب تشدد الجانب الإثيوبي، بحسب وصفه.
كذلك أعلن الناطق باسم الرئاسة المصرية بسام راضي، أن قضية سد النهضة ستكون مطروحة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمن لقائهما في سوتشي، مؤكدًا “هذه القضية ستطرح في كل اللقاءات الدولية”، وتابع راضي في تصريحات لوكالة “سبوتنيك” الروسية، أن موضوع سد النهضة “يتم بحثه في معظم اللقاءات الثنائية مع زعماء العالم، لشرح وجهة النظر المصرية، وما تم التوصل إليه وما تم من إجراءات وما هو عالق، على أن يتحمل كل جانب المسؤولية، فهو موضوع يعتبر قاسمًا مشتركًا في كل اللقاءات مع زعماء العالم وبطبيعة الحال مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين”.
الخيار العسكري مستبعد
إذًا، تصريحات المسؤولين المصريين تؤكد ما قلناه عن استحالة الحل العسكري لمصر رغم تهديدات بعض المسؤولين، ذلك لأن هذا القرار لو اُتخذ من شأنه وضع مصر تحت طائلة عقوبات دولية باعتبارها دولةً معتدية بعد أن وقعت من قبل على إعلان المبادئ، وسيُلزمها بدفع مليارات الدولارات كتعويضٍ للحكومة الإثيوبية ومواطنيها، كما أنه سيوقعها في أزمة دبلوماسية مع دول كإيطاليا والصين وفرنسا التي تعمل شركاتها في تشييد السد، كل هذا إلى جانب احتمالية فشل الضربة العسكرية المقترحة، حيث إن إثيوبيا استعدت بالفعل بنشر بطاريات صواريخ ومضادات في منطقة قُطرها نحو بمساحة 63 كيلومترًا مربعًا كمنطقة عسكرية خاضعة لتأمين قوات الجيش الإثيوبي.
سد النهضة أصبح أمرًا واقعًا بعد أن أنهت إثيوبيا نحو 70% من إنشاءاته بالفعل، لذلك من المهم أن تتركز المحادثات بين البلدين على مناقشة قواعد تشغيل سد النهضة والتفاوض على مرحلة الملء وقواعد التشغيل في أثناء فترة ملء البحيرة بما يحقق التوافق على الحد الأدنى، ولكن ليس هناك مجال للحديث عن إيقاف العمل به أو تدميره بضربة عسكرية، فيما يبدو التعويل على الضغوط الدولية أمرًا غير مضمون لمصر، نسبةً لتمتع إثيوبيا بعلاقاتٍ دوليةٍ وطيدةٍ مع دول العالم ودول الجوار، تتفوق بالطبع على علاقات نظام السيسي المكبّل بالصورة الذهنية السالبة لدى الغرب، وبين هذا وذاك يبقى الجميع في انتظار ما ستسفر عنه الأيام المقبلة خاصة بعد اللقاء المرتقب للسيسي وآبي أحمد في سوتشي.