على مشارفِ مدينة البوكمال الواقعة أقصى شرق محافظة دير الزور على الحدود العراقية السورية، لا تزال آثار حقبة سيطرة الميليشيات الإيرانية ماثلةً للعيان، عباراتٌ طائفية تكتسي الجدران على طول الطريق المؤدي إلى الحدود، ومقراتٌ عسكرية متناثرة بمحيط المدينة وريفها.
قبل السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2024، لم يكن أحد من سكان دير الزور وخاصة أهالي البوكمال يتوقع زوال حكم ميليشيا الحرس الثوري الإيراني، إلا أن يومين فقط وتحقق الأمر الذي لا تزال نسبة من الأهالي غير مُصدقةٍ بشكل نهائي بأن الميليشيات الإيرانية اختفت نهائيًا من المكان.
تاريخ السيطرة
يُطلق أهالي البوكمال على مدينتهم اسم “مدينة اللّه أكبر”، فقد كانت من أوائل المدن المنتفضة ضد نظام الأسد مع انطلاق الثورة السورية، حيث تمكن الجيش السوري الحر من السيطرة عليها في عام 2012، قبل أن تخضع لسيطرة تنظيم “داعش” في عام 2014 بعد معارك عنيفة مع فصائل المدينة.
في 25 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، اجتاحت مجموعات تابعة لميليشيا “الحشد الشعبي” العراقي قريتي الهِري والسويعية بريف البوكمال قرب الحدود العراقية، بالتنسيق مع النظام البائد والروس، خلال المعارك ضد تنظيم “داعش” الذي كان يتمترس داخل المدينة ويمنع السكان من النزوح.
وبعد معارك عنيفة تمكنت الميليشيات من السيطرة على المنطقة الحدودية مع العراق، بما فيها مدينة البوكمال في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، لتخضع المدينة لسيطرة ميليشيات متنوعة تابعة للحرس الثوري أبرزها ميليشيا “حزب اللّه”، وميليشيا “أبو الفضل العباس”، وميليشيا “قمر بني هاشم” وميليشيا “الفوج 47” التي تتفرع عنها ميليشيا “هاشميون”، وميليشيا لواء الحسين، والباقر.
إضافة إلى الميليشيات العراقية أبرزها ميليشيا “سيد الشهداء”، و”النجباء”، و”كتائب الإمام علي”، وإضافة إلى هذه الكيانات كانت ميليشيا “فاطميون” الأفغانية، وميليشيا “زينبيون” ذات الأغلبية الباكستانية.
وارتبط اسم البوكمال ودير الزور خلال سيطرة الميليشيات الإيرانية بمحاولات تشييع المنطقة عبر أساليب ناعمة انتهجتها المراكز الثقافية الإيرانية في المحافظة، لكن المحاولات الإيرانية باءت بالفشل، لأن المنطقة ترفضهم بطبيعتها، وكان بقاؤهم فيها مرهونًا بقوة السلاح فقط وهيمنة النظام.
إلا أن المشروع الإيراني الذي عملت عليه لسنوات انتهى برمتهِ خلال أيام، وذهبت مساعي طهران أدراج فبُعيد انطلاق عملية “ردع العدوان” في 27 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، ومع وصول فصائل المعارضة إلى مشارف حمص، صبيحة يوم السادس من كانون الأول/ ديسمبر، قررت قيادة الحرس الثوري الإيراني تسريح جميع مقاتليها السوريين في صفوفها بدير الزور، تزامنًا مع الانسحابات الكبيرة التي نفذتها قوات النظام البائد من محافظة دير الزور نحو حمص.
كما سحبت قيادة الحرس الثوري مقاتليها الأجانب من أفغان وعراقيين وإيرانيين نحو العراق، معلنة نهاية النفوذ الإيراني في شرق سوريا، والذي كانت البوكمال عاصمةً لهذا النفوذ.
اليوم، وبعدما دفع أبناء المدينة تحديدًا وأهالي دير الزور بالعموم ثمنًا باهظًا نتيجة الهيمنة الإيرانية التي دامت ما يقارب سبع سنوات، تعود البوكمال إلى سيطرة الحكومة السورية التي ينتشر عناصرها على الحدود العراقية، ما أدى إلى استنفار كبير لميليشيا الحشد الشعبي العراقية المرتبطة بإيران.
وحسب بعض الأهالي في البوكمال لـ”نون بوست” فإن الطيران المروحي العراقي لا يغيب عن سماء المنطقة الحدودية، إلى جانب الدوريات التابعة للحشد الشعبي، والجيش العراقي، وسط احتقان كبير من قبل سكان البوكمال تجاه الميليشيات الشيعية التي تقف على بُعد أمتار من مدينتهم في الطرف الآخر من الحدود.
عودة المهجرين وتحديات أمنية
تشهد البوكمال اليوم عودة ملحوظة لسكانها المُهجّرين، الذين عادوا من مناطق نزوحهم في الداخل السوري ومن خارج البلاد، فالمئات يعودون يوميًا، وخلال كل برهة من الوقت، تصل لمسامعك رشقات من الرصاص. وحين يتساءل أي شخص غريب عن المنطقة عن السبب، يكون الجواب: ثمة شخص أو عائلة عادت للمنطقة بعد رحلة نزوح دامت سنوات.
يحاول السكان هنا ترميم ما أمكنهم من منازلهم التي حولتها الميليشيات الإيرانية خلال السنوات السبع الماضية، إلى مقرات عسكرية ومستودعات ذخيرة، ضمن أسلوب ممنهج للتخفي عن عيون الطيران الأمريكي والإسرائيلي، حيث تعرضت بعض هذه المنازل للتدمير فعلًا بفعل الغارات الأمريكية والإسرائيلية.
أما الخدمات فحتى يومنا هذا هي شبه غائبة عن المدينة وريفها، حالها حال بقية محافظة دير الزور، ورغم أن الجهود الحكومية لا تزال متواضعة، إلا أن الأهالي يقدمون أعذارا للحكومة بسبب الوضع الذي تمر به البلاد
وفي ظل ذلك تطغى المبادرات الأهلية في المنطقة ففي كل قرية وبلدة ومدينة في دير الزور، يتعاضد السكان وينظمون أنفسهم عبر مبادرات جماعية تهدف لتخديم مناطقهم: محطات المياه، الكهرباء، المشافي، إزالة الركام، تنظيف الأماكن الخدمية، وتفعيل البلديات، حيث يعوّل الجميع على أنفسهم في محاولة تحسين ظروف حياتهم.
أما الوضع الأمني يحتاج إلى مزيد من الجهد في سبيل ضبط المنطقة، حيث يتحدث الأهالي عن نشاط عصابات التهريب التي لا تزال تمتهن تهريب المخدرات والسلاح بين جانبي الحدود العراقية السورية.
وحسب مصادر “نون بوست” فإن جميع هذه المجموعات مرتبطة بميليشيات الحشد الشعبي وحزب الله العراقي، حيث شهدت الأيام القليلة التي تلت انسحاب الحرس الثوري من البوكمال قيام المهربين بتمرير شحنات ضخمة من السلاح لصالح الميليشيات الشيعية المتواجدة في الطرف الآخر من الحدود، ولا تزال هذه العمليات نشطة، رغم محاولات قوات الأمن السورية ملاحقتها.
كما تواجه السلطات السورية في دير الزور بالعموم تحديات كبيرة على رأسها تحركات العشرات من فلول النظام السابقين تزامنا مع قلة أعداد عناصر الأمن العام، وكذلك طبيعة المنطقة العشائرية.
ويطالب الأهالي السلطات السورية بجلب عناصر أمنية من خارج المحافظة لضبط الوضع في دير الزور، بسبب حساسية المنطقة.
إرث الميليشيات
وإلى جانب ذلك خلفت الميليشيات الإيرانية إرثا كبيرا من المظالم في مقدمتها مصير عشرات المدنيين الذين اختطفتهم الميليشيات الشيعية من البوكمال عشية اقتحام تلك الميليشيات للبوكمال في 2017ـ حيث اقتادت الميليشيات الشيعية 180 مدنيًا من بينهم مُسنّون وأطفال نحو العراق، ولا يزال مصيرهم مجهولا حتى اليوم.
يقول محمد الحاج، أحد أقارب المخطوفين، وهو من أبناء قرية الهِري لـ”نون بوست”: “لا يزال الحزن يُخيم على غالبية السكان هنا، فرحتنا بالتحرير وسقوط النظام منقوصة، لا نعلم أي شيء عن مصير أهلنا وأقاربنا. دفعنا الملايين إلى اليوم لعدة أشخاص في العراق على أمل الحصول على خبر عن مصير المفقودين. كل ما حصلنا عليه كان مقطع فيديو قصير يوضح لحظات اعتقالهم الأولى. لقد وصفهم عناصر الميليشيا بـالدواعش، وكانوا جميعهم مدنيين، ومن بينهم أطفال، ونتمنى توضيح مصيرهم حتى لو أحياء أو موتى، لنرتاح على الأقل من الانتظار”.
تتشابه الحكايا في القريتين الصغيرتين، فكل منزل بداخله مُغيّب وشهيد، فأعداد الضحايا ضخمة، والمفقودين أكثر، والتوثيق غائب، إلى جانب التغييب الإعلامي الكبير عما يجري في المدينة، فلا تزال قضية مُغيّبي البوكمال لا تتعدى حدود المكان التي حدثت فيه، كما هو حال عشرات القصص المؤلمة التي ذهبت طيّ النسيان.
الأستاذ عبد الكريم المرشد، وهو أحد أبناء البوكمال، أخذ على عاتقهِ مسؤولية توثيق وجمع بيانات المفقودين، في محاولةٍ منه للبحث عن مصيرهم، وإيصال صوت ذويهم وعوائلهم الذين ينتظرون منذ سنوات.
يقول المرشد لـ”نون بوست”: “وثقنا 180 اسمًا فُقدوا على يد ميليشيا الحشد الشعبي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وهم من سكان قريتي الهِري والسويعية. هناك ثلاثة سيناريوهات يُعتقد أنها حصلت بحسب شهادات متضاربة لذوي المفقودين: الأول أنه قد تم إعدامهم بعد اقتيادهم من قبل الميليشيا، حالهم حال المئات من أهالي غربي العراق الذين تمت تصفيتهم بدواعٍ طائفية”.
أما “السيناريو الثاني اختفائهم في سجن صيدنايا، فهناك ثمة معلومات بأن الميليشيات العراقية لديها مساجين سلّمتهم للنظام البائد لصالحها، تحت مسمى مُودَعون من قبل الحشد الشعبي، والسيناريو الثالث، وهو بصيص الأمل الذي يتمسك به أغلب ذوي المفقودين، هو فرضية وجودهم في سجون الميليشيات الشيعية في جرف الصخر داخل العراق”.
وخلال لقاء “نون بوست” مع عدد من أهالي وذوي المفقودين وجهوا نداءً لوزارة الخارجية السورية لبحث ملف أبنائهم مع السلطات العراقية، في سبيل معرفة مصيرهم، فجميع هذه العوائل لا تزال تتمسك بالأمل، وتنتظر خبرًا عنهم، سواء كانوا أحياء أو أموات.