يواصل الاحتلال الإسرائيلي عملياته الهمجية الوحشية في قطاع غزة والتي بدأها في أكتوبر/تشرين الأول 2023، مُرسخًا لمرحلة جديدة من جرائم الإبادة ضد الإنسانية لم تعرفها البشرية منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، مستخدمًا في ذلك كافة صور الإجرام، قتل وحرق وتنكيل وتدمير وتجويع وتهجير قسري.
وعلى مدار أكثر من عام ونصف تقريبًا لم تتوقف آلة التدمير الإسرائيلية، سوى بضعة أيام قليلة إبان فترتي الهدنة أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ويناير/كانون الثاني 2025، مخلفة أكثر من 50 ألف شهيد ما يزيد عن 120 ألف مُصاب، وتشريد ما يقرب من مليوني فلسطيني بعد تدمير 90% من قطاع غزة، وصت صمت إقليمي ودولي فاضح.
وتجاوز الإجرام الإسرائيلي استهداف الفلسطينيين إلى قصف المعدات والجرافات المصرية وكل المناطق التي أقامتها الدولة المصرية ضمن جهود إعادة إعمار القطاع، حيث دمر جيش الاحتلال فجر الثلاثاء 22 أبريل/نيسان الجاري 12 معدة مصرية (9 جرافات، و3 كباشات)، ضمن 25 معدة تم استهدافها، تساهم في رفع الأنقاض، حسبما نشر المركز الفلسطيني للإعلام.
الليلة قصفوا كل الجرافات والمعدات الثقيلة الموجودة في البلديات المختلفة والشركات الخاصة وحتى التي تعود للمواطنين المركونة بالشوارع
وقصفوا الجرافات التي أدخلتها اللجنة القطرية و المصرية فترة الهدنة
هذه ليست حرب ، هذه إبادة pic.twitter.com/ID7nQbzYQh
— محمد سعد الدين 🇵🇸 (@MhmmedSd) April 22, 2025
كما أظهرت مقاطع الفيديو التي نشرها صحفيون ونشطاء فلسطينيون احتراق الجرافات والمعدات وسيارات نقل المياه والسولار وكاسحات المجاري، والتي كانت متمركزة في إحدى الجراجات في جباليا، والتي قصفت بشكل متعمد كما جاء على لسان شهود عيان في جباليا ممن أفادوا باتصال جاءهم من ضابط في جيش الاحتلال أخبرهم بضرورة الإخلاء تمهيدًا لقصف الجراج والمنازل المحيطة به، ما يعني أن القصف لم يكن عشوائيًا.
وأثار استهداف الاحتلال للمعدات التي أدخلتها مصر للقطاع في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2025 ضمن تفاهمات المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي خرقته الحكومة الإسرائيلية بعد انتهاء تلك المرحلة، الكثير من التساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذا التصعيد مع الجانب المصري، فما الرسائل التي يبعث بها الكيان المحتل من وراء هذا القصف وماذا عن رد الفعل المصري إزاء الاستفزازات الإسرائيلية التي لم تتوقف منذ بداية الحرب؟
ليست المرة الأولى
من الواضع أن كافة المعدات التي أدخلتها مصر لقطاع غزة خلال المرحلة الأولى من الاتفاق المُخترق كانت أهدافًا إسرائيلية، فالأمر لم يقتصر على جراح جباليا فقط، ففي 8 مارس/أذار الماضي، استهدفت قوات الاحتلال جرافة مصرية في بلدية بيت حانون شمال القطاع بقنبلة مما أسفر عن إصابة سائقها المصري.
العربدة الإسرائيلية تجاوزت الآليات والجرافات إلى كل ما له صلة بالمصريين، مناطق ومدن وطرق، ففي فبراير/شباط الماضي، دمر جيش الاحتلال مشروع كورنيش مصر على ساحل غزة، فيما أظهرت مقاطع فيديو استهدافًا مباشرًا لكافة الأحياء التي شيدتها القاهرة ضمن جهود إعادة الإعمار بعد الحرب الإسرائيلية في مايو/أيار 2021.
كما أحدث القصف الإسرائيلي أضرارًا بلغت حد الدمار في المناطق السكنية التي أقامتها الدولة المصرية داخل القطاع، خاصة في مدينة “دار مصر 3” وحي “دار مصر 2” بمنطقة الكرامة في جباليا شمال غزة، بجانب الإتلافات الكبيرة التي أحدثتها الغارات العنيفة في مشروع كورنيش مصر في شارع الرشيد الساحلي.
التحرش الإسرائيلي بمصر.. استفزاز متواصل
لا يمكن قراءة ما يحدث في القطاع بمعزل عن استراتيجية الاستفزاز التي تتبعها حكومة الاحتلال مع الجانب المصري، والتي وصلت إلى مستويات متقدمة لم تشهدها العلاقات بين البلدين منذ إبرام اتفاقية السلام ثمانينات القرن الماضي، تلك الاستراتيجية التي تعاظمت بشكل لافت منذ بداية حرب غزة الحالية.
وتنوعت صور الاستفزاز الإسرائيلي ما بين تحرش عسكري من خلال استهداف بعض الجنود المصريين على الحدود أو إسقاط عدد من الصواريخ داخل الأراضي المصرية، ورغم الاعتذار الإسرائيلي عن مثل تلك الأحداث والإشارة إلى أنها جاءت على سبيل الخطأ إلا أنها وفي سياقها العام أعمق وأكبر وأكثر دلالة من مجرد الحدث الخطأ.
الأمور أخذت منحى آخر بالاحتلال الإسرائيلي لمحور فيلادلفيا الحدودي بما ينسف الملحق الأمني لاتفاقية السلام الموقعة بين البلدين، وجولات الاستعراض العسكري الاستفزازية التي قام بها جنود إسرائيليون على الشريط الحدودي، فضلًا عن التصريحات الاستعدائية الصادرة عن النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
البداية كانت مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي اتهم مصر بشكل علني بالتورط في حصار القطاع وتحويل غزة إلى سجن مفتوح، واتهام الجانب المصري بتلقي أموال باهظة نتيجة السماح لعبور القادرين فقط من معبر رفح للأراضي المصرية، تلاه التحذير المباشر من وزير الخارجية يسرائيل كاتس الذي هدد بعدم السماح لمصر بانتهاك اتفاقية السلام من خلال تكثيف تواجدها العسكري في سيناء.
تصاعدت مظاهر التحرش بشكل لافت بعد رفض القاهرة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وإبداء موقف متشدد إزاء مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العنصري، الأمر الذي أغضب الأمريكان والإسرائيليين على حد سواء، حيث طالب كل من رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان، وزعيم المعارضة يائير لابيد، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ومن بعده وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بضرورة الضغط على مصر لقبول هذا المقترح، ترهيبًا وترغيبًا.
سياسة الأرض المحروقة
يأتي هذا التحرك في سياق أعم وأشمل، حيث سياسة الأرض المحروقة التي يتبناها نتنياهو وحكومته وجيشه منذ بداية الحرب، ووأد كافة مقومات الحياة داخل القطاع، وتحويله إلى أرض غير صالحة للعيش عليها، وتسوية كل ما فوق الأرض بما تحتها، من حجر وشجر وبشر.
ويتفنن المحتل في تنفيذ هذا المخطط بكافة الطرق، المُتخيلة وغير المُتخيلة، فبعد تشديد حصاره المطبق على القطاع من كافة الجهات، استهدف إمدادات الغذاء فنسف المخابز والآبار والبنية التحتية المائية وكافة المرافق العامة، رافق ذلك قصف كافة المشافي والمراكز الصحية، ثم تدمير المدارس ومراكز الإيواء التابعة للمنظمات الدولية، لينفرد بالمدنيين من النساء والأطفال، ممارسًا معهم كافة أنواع البطش والتنكيل الإجرامي، قتلا بالقصف، وأخر بالرصاص الحي وثالث بالحرق أحياء، ومن لم يمت بهذا أو ذلك مات جوعًا بعدما جفت الأرض من كافة مقومات العيش.
لم يترك الاحتلال فرصة حتى للخيال الذي كان يداعب البعض بإعادة الإعمار بعد التهدئة، ممن استبشروا بدخول المعدات والجرافات للقطاع خلال المرحلة الأولى من الاتفاق، لينسف ويدمر تلك الآليات ويحرقها على مرأى ومسمع من الجميع، في مشهد توهم أنه يحرق الأمل في قيامة غزة من كبوتها الحالية، في سياق الحرب النفسية التي يخوضها المحتل لـ “كي وعي” الفلسطيني إزاء ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
مدير العلاقات العامة والإعلام في بلدية جباليا، سعدي الدبور، يقول إن الجراح، الذي استُهدف الثلاثاء الماضي، أهم مرافق جباليا، لاستخدام المعدات به في عمليات إزالة الركام، وتزويد المواطنين بالمياه الصالحة للشرب، وتصريف الصرف الصحي، وإزالة النفايات، واصفًا هذا القصف بالكارثة التي حَلت على البلدية، ويُنذر بوقوع كوارث بيئية وصحية، وأن البلدية لا تستطيع الآن تقديم الحد الأدنى من المقومات الأساسية للحياة لمواطني جباليا.
تقويض جهود إعادة الإعمار.. رسالة الاحتلال للقاهرة
رغم أن آلة التدمير الإسرائيلية لم تترك شيئًا في غزة إلا وطالته، قصفًا أو حرقًا أو تدميرًا، إلا أن استهداف المساعدات المصرية من معدات وجرافات ومناطق سكنية، لا يمكن قراءته بمعزل عن المساعي الإسرائيلية لتقويض جهود مصر لإعادة إعمار القطاع، وهي الجهود التي وإن انطلقت من مقاربة أمنية خالصة، لكنها وفي ظل الصلف الإسرائيلي والتحرش الذي لا يتوقف اتخذت مسارًا أخر كان له تداعياته على توتير العلاقات بين القاهرة وتل أبيب رغم التفاهمات الكبيرة التي تجمع حكومتيهما.
ومنذ كشف ترامب عن مقترحه العنصري لتهجير الغزيين، يناير/كانون الثاني الماضي، والترويج لمزاعم تحويل غزة إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”، والطلب من كل مصر والأردن فتح حدودهما لاستقبال العديد من فلسطيني القطاع، أعلنت القاهرة رفضها لهذا المقترح، حيث قدمت بالتنسيق مع الدول العربية خطة بديلة تم إقرارها في القمة العربية التي احتضنتها العاصمة المصرية مارس/أذار الماضي.
وشددت الخطة المصرية العربية على ضرورة إعادة الإعمار مع بقاء الغزيين داخل القطاع، وهو ما أثار حفيظة الإسرائيليين خاصة اليمين المتطرف الذي طالب الإدارة الأمريكية بممارسة أقصى أنواع الضغوط الممكنة لإجبار القاهرة على الرضوخ لتلك المطالب، تزامن ذلك مع حملات إعلامية وسياسية ممنهجة تستهدف ابتزاز الجانب المصري لإعادة النظر في موقفه من التهجير.
وتعتمد الرؤية المصرية والعربية في الإعمار على بقاء الفلسطينيين في المناطق المؤهلة للحياة بالقطاع، والتي لا تزال تمتلك الحد الأدنى من مقومات العيش ولو لفترة مؤقتة، وهو ما دفع المصريين لتزويد غزة ببعض المعدات اللازمة لهندسة المشهد بما يتفق مع الخطة المقدمة، وهو تنبه له الاحتلال الإسرائيلي الذي بعث برسالته المباشرة والتي تتلخص في تقويض كافة الجهود المصرية الرامية لإعادة الإعمار، بما يجهض المقترح المقدم، ويدفع نحو التفكير في مقترحات أخرى بديلة، على رأسها المقترح الترامبي حتى وإن تم صياغته بصورة أقل حدة مما بدا عليه أول الأمر.
ابشركم ، دخول عدد من الجرافات المصرية المتخصصة في ازالة الركام إلى غزة قبل قليل.
يارب بارك في كل جهود إنقاذ وإعمار غزة pic.twitter.com/uTchfCPTU1
— MO (@Abu_Salah9) February 3, 2025
الرسالة الإسرائيلية من وراء هذا القصف قرأها بشكل نسبي النائب المقرب من النظام، مصطفى بكري، والذي وصف ما حدث بأنه “عدوان إرهابي مجنون” لا يستثني شيئًا على أرض غزة، حتى وإن كان هدفه البناء والإنقاذ، مضيفًا في تصريحاته لموقع “الرسالة نت” الفلسطيني، أن مثل هذا القصف يتجاوز كونه مجرد عدوان عسكري، ليُعبّر عن رسالة واضحة مفادها أن الاحتلال لا يعترف بأي جهود إنسانية أو تنموية على أرض فلسطين.
وأوضح بكري أن المعدات المستهدفة “ليست أدوات حرب بل أدوات سلم وحياة، دخلت إلى غزة ضمن اتفاق واضح وتفاهمات قائمة بين مصر والجانب الآخر”، لافتًا أن “استهداف هذه الآليات يدخل في إطار تطاول مرفوض ومُدان، ويجب أن يُقابل برد رسمي واحتجاج دولي حازم، لأن ما قامت به إسرائيل لا يشكل فقط اعتداءً على آليات إنقاذ، بل يمثل انتهاكًا فاضحًا للقوانين الدولية وخرقًا للاتفاقات الموقعة مع مصر”.
واختتم النائب المصري حديثه بالتأكيد على أن الدولة المصرية ، قيادةً وشعبًا، لن تتراجع أمام هذه الممارسات العدوانية، وستواصل دورها الإنساني والداعم لأهل غزة، رغم محاولات الاحتلال اليائسة لإفشال مشاريع إعادة الإعمار وجهود التهدئة، قائلا : “رسالة الاحتلال وصلت، لكنها لن تُخيفنا ولن تُثنينا عن واجبنا القومي والإنساني تجاه أشقائنا في فلسطين”.
جدير بالذكر أن مصادر مطلعة كانت قد كشفت عن مقترح مصري قطري بشان هدنة في القطاع تتراوح من 5 – 7 سنوات، تتضمن أنهاء الحرب وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة وفتح المعابر وإدخال المساعدات والشروع في إعادة الإعمار مقابل إعلان حماس وضع السلاح، وإنهائها حكم قطاع غزة، على أن تديره لجنة الإسناد المجتمعي إدارياً، وقوات تابعة للسلطة الفلسطينية.
ومن المتوقع وفق ما ذكرت تقارير إعلامية أن يزور وفد إسرائيلي، وآخر من الحركة، القاهرة في غضون الساعات القادمة، لدراسة هذا المقترح الذي أبدت حماس موافقة مبدأية عليه رغم التحفظ على مسألة وضع السلاح، وسط تصاعد الضغوط الداخلية على حكومة نتنياهو لإبرام صفقة تبادل تنقذ ما تبقى من الأسرى المحتجزين لدى المقاومة خاصة بعدما فقدت الحرب بوصلتها وباتت بلا رؤية، منزوعة الأهداف إلا من باب الضغط على حماس ورفيقاتها.