بعد سقوط نظام البائد وانتهاء حقبة حكم عائلة الأسد التي استمرت لأكثر من 6 عقود، برزت العديد من الملفات على طاولة الحكومة السورية الجديدة، والتي ترى فيها الحكومة العراقية في ذات الوقت أهمية كبيرة، لا سيما بعد نجاح المساعي القطرية في جمع الرئيس السوري أحمد الشرع برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في اجتماع في العاصمة القطرية الدوحة بهدف إعادة تطبيع العلاقات بين دمشق وبغداد.
ملفات عديدة مشتركة بين البلدين الجارين اللذين يشتركان في حدودٍ بطول 600 كيلومترٍ، لعل أبرزها ملف نهر الفرات وتقاسم مياهه، إضافةً إلى ملف المعابر الحدودية والنقل، يضاف لها ملف الطاقة وخط نقل النفط العراقي من محافظة كركوك وتصديره عبر ميناء بانياس في طرطوس السورية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، والذي توقف منذ عام 2003.
تشكل هذه الملفات مجتمعةً نقاطًا مشتركة بين بغداد ودمشق، ويرى مراقبون أن تعزيزها وتفاهم البلدين بشأنها سيشكل نواة تعاون سياسي واقتصادي بين البلدين يعود على شعبي سوريا والعراق بعوائد اقتصادية واجتماعية غاية في الأهمية.
ملف نهر الفرات
كان ملف المياه وتقاسم حصص المياه المتدفقة في نهر الفرات أبرز المشكلات التي لم تتوصل فيها حكومتا البلدين لاتفاقياتٍ نهائيةٍ ملزمةٍ للطرفين، ومن ضمن العشرات من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم حول نهر الفرات، تبرز اتفاقية عام 1989، كإحدى أهم الاتفاقيات، حيث نصت على أن تكون حصة العراق في مياه الفرات المتدفقة بنسبة 58% مقابل 42% لسوريا.
يعاني العراق وسوريا منذ أكثر من عقدين من مشكلة الجفاف وتراجع إمدادات المياه الواردة عبر نهر الفرات، لا سيما بعد تدشين تركيا للعديد من السدود الكبيرة مثل سد أتاتورك ومشروع الغاب الكبير، الذي أدى لتراجع تدفق مياه نهر الفرات لمستوياتٍ غير مسبوقةٍ، يضاف لذلك سوء إدارة ملف المياه في البلدين، لا سيما العراق الذي تفاقمت مشكلة المياه فيه بعد الغزو الأميركي عام 2003.
كما تضررت مشاريع المياه في سوريا بعد اندلاع الثورة عام 2011، وسيطرة قوات سوريا الديمقراطية على هذه المناطق بعد عام 2014، وذلك وفق ما يؤكده الخبير في الموارد المائية إبراهيم خليل.
يقول خليل لـ”نون بوست” إن العراق وسوريا وقعا 12 مذكرةً منذ عام 2018 تتعلق بالأمن والحدود وملف تقاسم مياه نهر الفرات، لكن خليل يؤكد أن النظام السوري لم يكن بمقدوره الالتزام بما تعهد به بسبب سيطرة قوات “قسد” على حوض نهر الفرات في سوريا وتضرر البنى التحتية المتعلقة بسد الطبقة وعدم صيانة مشاريع المياه.
وشهدت السنوات التي أعقبت اندلاع الثورة السورية عام 2011 توترًا كبيرًا في العلاقات السورية التركية، حيث أثرت سلبًا على تنفيذ الاتفاقيات المائية حول تدفق مياه نهر الفرات إلى سوريا والعراق، بما أدى لتراجع تدفق مياه نهر الفرات من 500 مترٍ مكعبٍ في الثانية إلى نحو 300 مترٍ مكعبٍ فقط عام 2018.
وبعد سقوط نظام الأسد، يرى خبراء أن الوضع المائي لكلٍّ من سوريا والعراق يمكن أن يشهد تطورًا كبيرًا خلال الفترة المقبلة، وهو ما يؤكده الخبير الاقتصادي أنمار العبيدي، الذي اعتبر أن العلاقات الوثيقة بين تركيا والحكومة السورية، والدعم التركي اللافت لسوريا الجديدة، يمكن أن يؤدي لتحسن مستويات تدفق مياه الفرات نحو سوريا، وبالتالي نحو العراق كذلك.
العبيدي، وفي حديثه لـ”نون بوست”، يرى أن الاجتماع الأخير بين الشرع والسوداني في الدوحة برعاية قطرية، يمكن أن يؤدي لتفاهماتٍ حقيقيةٍ هذه المرة، لا سيما أن العلاقات العراقية التركية تشهد تطورًا لافتًا في السنوات الأخيرة.
وأوضح العبيدي أن الأشهر القادمة يمكن أن تكشف عن تفاهماتٍ واتفاقياتٍ جديدة بين كلٍّ من تركيا والعراق وسوريا، لا سيما إذا ما أُخذ بنظر الاعتبار الاتفاق التاريخي بين الحكومة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على مناطق تدفق نهر الفرات في شرق سوريا.
وتشير تصريحات وزير الموارد المائية العراقي، عون ذياب عبد الله، إلى هذا التقدم، عندما أكد في كانون الثاني/ يناير الماضي أن الاتفاقيات المائية المبرمة مع سوريا ما زالت ساريةً ولم تُلغَ، وأن واردات نهر الفرات تعد أفضل بكثيرٍ من نهر دجلة، وفق قوله.
كما كشفت لجنة الزراعة والمياه في مجلس النواب العراقي في شباط/ فبراير الماضي عن إجراء مفاوضات مع الحكومة السورية حول الحصص المائية لنهر الفرات، حيث أكد عضو اللجنة النائب ثائر الجبوري أن هناك تحسنًا ملحوظًا في إطلاقات المياه من الجانب السوري خلال الأسابيع الماضية، خاصةً بعد 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
واوضح أن قوات سوريا الديمقراطية كانت تسيطر على أحد السدود الواقعة على نهر الفرات، ما أدى لقطع المياه عن العراق لفتراتٍ طويلةٍ، لكن الوضع تحسن حاليًا مع زيادة الإطلاقات المائية باتجاه العراق، موضحًا أن المفاوضات العراقية مع الجانب السوري تركز على تعزيز الإطلاقات المائية وتقليل أزمة الجفاف التي عانى منها حوض الفرات في السنوات الأخيرة.
ملف النقل والمعابر الحدودية
تشكل الحدود السورية العراقية ملفًا شائكًا بين البلدين منذ عام 2003، لا سيما مع اتهامات بغداد لدمشق بتسهيل عبور المسلحين الأجانب عبر أراضيها إلى العراق، ومشاركة دمشق غير المباشرة في الوضع الأمني السيئ الذي كان يشهده العراق طيلة السنوات منذ عام 2003 وحتى عام 2017، بعد سقوط آخر معاقل تنظيم داعش وانكفاء مقاتلي التنظيم نحو الداخل السوري قبيل معركة الباغوز في ريف دير الزور.
وكانت 3 معابر رئيسية تربط العراق بسوريا، وهي معبر التنف السوري في ريف حمص الشرقي الذي يقابله من الجانب العراقي معبر الوليد، إضافةً إلى معبر البوكمال في ريف دير الزور الشرقي الذي يقابله من الجانب العراقي معبر القائم، فضلًا عن معبر اليعربية في ريف الحسكة أقصى الشمال الشرقي السوري الذي يقابله من الجانب العراقي معبر ربيعة المفضي إلى شمال العراق وتحديدًا إلى محافظة نينوى.
بعد انطلاق الثورة توقف العمل بمعبر (التنف – الوليد) بعد فقدان الحكومة السورية السيطرة عليه، قبل سيطرة قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على المعبر، وإقامة قاعدةً عسكريةً كبيرةً في 2014 في إطار الحرب ضد تنظيم داعش في البلدين.
أما معبر (البوكمال – القائم)، توقف العمل فيه لمدة 7 سنوات بين عامي 2012 و2019، قبل انتظام العمل فيه منذ عام 2022، وليكون المعبر الرسمي الوحيد بين البلدين خلال السنوات الماضية، حيث شهد المعبر تبادلًا تجاريًا بما يزيد عن مليار دولار، قبل إغلاق المعبر بعد سقوط الأسد حتى الآن.
وفيما يتعلق بمعبر (اليعربية – ربيعة)، فقد أُغلق منذ نهاية عام 2011، ولم يُعَد افتتاحه حتى الآن، حيث تسيطر على المعبر من الجانب السوري قوات سوريا الديمقراطية، ولا يُستخدم إلا من قبل قوات التحالف الدولي وانتقال أرتال قوات التحالف بين العراق وسوريا.
وإلى جانب هذه المعابر الثلاثة، اعتمدت قوات سوريا الديمقراطية، بعد سيطرتها على الجزء الشمالي من الحدود العراقية السورية، على معبر غير نظامي يربط بين مناطقها وبين إقليم كردستان العراق، وهو معبر (سيمالكا – فيشخابور) في أقصى شمال غرب العراق الذي يقابله أقصى شمال شرق سوريا.
وفي تصريح سابق لـ”نون بوست” قال الخبير الاقتصادي محمود مصطفى، إن التبادل الاقتصادي بين البلدين من مليار دولار عام 2024 إلى 5% فقط بعد سقوط نظام الأسد، وذلك نتيجة إغلاق العراق لمعبر القائم العراقي مع سوريا.
ويرى مصطفى أن حجم التبادل التجاري سيتصاعد تدريجيًا في حال عودة فتح الحدود بين البلدين، لا سيما أن البنية التحتية الصناعية في سوريا متوفرة بشريًا وماديًا، خاصة في ظل إعادة إعمار المصانع المتعلقة بالنسيج والملابس وغيرها.
وأشار إلى أن البضائع السورية كانت حاضرةً بقوةٍ في الأسواق العراقية، وهو ما سيصب في مصلحة البلدين معًا، خاصةً أن السنوات التي سبقت اندلاع الثورة السورية شهدت ارتفاع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 8 مليارات دولار سنويًا.
ويبدو أن الدبلوماسية النشطة لكلٍّ من الحكومتين السورية والعراقية قد تسفر في المستقبل القريب عن إعادة افتتاح الحدود بين البلدين، حيث أجرى رئيس المخابرات العراقي حميد الشطري أمس الجمعة زيارة إلى العاصمة السورية دمشق، والتقى خلالها الرئيس السوري أحمد الشرع، حيث تناول اللقاء عدة ملفاتٍ من بينها ضبط الحدود وتوسعة التبادل التجاري.
ملف تصدير النفط العراقي عبر المتوسط
ومن الملفات العالقة بين البلدين هي تصدير النفط العراقي عبر المتوسط مرورًا بسوريا، حيث بات ملف النفط العراقي وتصديره يشكل أهميةً كبيرةً للحكومة العراقية، خاصةً مع سعي العراق لتنويع منافذ تصدير نفطه.
وبالإضافة إلى تصدير النفط عبر الخليج العربي عبر محافظة البصرة، نجحت الحكومة العراقية في إعادة تصدير النفط إلى البحر المتوسط عبر ميناء جيهان التركي، مع سعيٍ عراقيٍّ دؤوبٍ لتصدير نفط كركوك إلى البحر المتوسط عبر سوريا، وهو ما بحثه رئيس المخابرات العراقي حميد الشطري مع الرئيس السوري أحمد الشرع خلال لقائهما في العاصمة دمشق أمس الجمعة 25 نيسان/ أبريل.
وكان مصدر دبلوماسي عراقي كشف عن أن حميد الشطري ناقش رسميًا إمكانية تأهيل الأنبوب العراقي لنقل النفط عبر الأراضي السورية إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط، حيث كان العراق قد أنشأ في خمسينيات القرن الماضي، وتحديدًا عام 1952، خطًا لتصدير النفط العراقي من محافظة كركوك باتجاه ميناء بانياس في محافظة طرطوس السورية وإلى دول العالم، ويبلغ طول الأنبوب 880 كيلومترًا بقدرة تدفقٍ تتجاوز 300 ألف برميلٍ يوميًا، ويعد هذا الخط أول شبكة أنابيب استخدمها العراق لتصدير نفطه للأسواق الدولية.
ومع عودة الحديث عن هذا الخط الذي توقف بشكلٍ نهائيٍّ عام 2003، إبان الغزو الأميركي للعراق، يقول الخبير النفطي العراقي نبيل المرسومي إن طول خط تصدير النفط من كركوك إلى طرطوس السورية يبلغ 880 كيلومترًا وبقطر 32 بوصة، مبينًا أن الحروب التي مرت بالعراق وسوريا دمرت أجزاء كبيرة منه، فضلًا عن تقادم الخط ومضي أكثر من 70 عامًا على تأسيسه، كاشفًا عن أن إعادة تأهيله تحتاج لما لا يقل عن 8 مليارات دولار.
أما المنسق العام لشبكة الاقتصاديين العراقيين، بارق شبر، فيؤكد أهمية تفعيل الخط النفطي نحو سوريا، لما يضمه من إيجابياتٍ إستراتيجيةٍ أكبر بكثيرٍ من الخط النفطي العراقي نحو ميناء العقبة الأردني.
وفي حديثٍ صحفيٍّ، بيّن بارق شبر أن الخط العراقي السوري لن يقتصر على تصدير نفط كركوك، بل يمكنه نقل نفط البصرة والمحافظات الجنوبية كذلك، لافتًا إلى أن أهمية الخط العراقي السوري تكمن في أن خط تصدير النفط إلى ميناء بانياس السوري يعني تجنب المرور بقناة السويس المصرية، بما يعني خفضًا لتكاليف التصدير.
أما الباحث الاقتصادي أنمار العبيدي، اعتبر أن تصدير النفط العراقي عبر سوريا وإمكانية ربط نفط البصرة بهذا الخط، سيجعل العراق في مأمنٍ من أي توتراتٍ قد تؤدي إلى إغلاق مضيق هرمز، وبالتالي خروج موانئ تصدير النفط العراقي بمحافظة البصرة جنوبًا عن الخدمة.
ملف الغاز القطري إلى سوريا
ويشير العبيدي في حديثه لـ”نون بوست” إلى أنه، وفي حال إعادة تفعيل خط تصدير النفط كركوك – بانياس، فإن من شأن ذلك أن يشكل موردًا ماليًا مهمًا لسوريا من خلال استحصالها أجور مرور النفط بأراضيها، فضلًا عن ميزةٍ إستراتيجيةٍ لسوريا من خلال إمكانية حصولها على النفط العراقي بأسعارٍ تفضيليةٍ، وفق قوله.
ويرى العبيدي أنه، وبعد سقوط نظام الأسد، فإن هناك حديثًا عن إمكانية إعادة الدراسات بشأن تصدير الغاز القطري إلى أوروبا عبر سوريا، بيد أن العبيدي يرى أن أي دراسةٍ حديثةٍ لتصدير الغاز القطري عبر سوريا ستأخذ بالاعتبار تحسن الوضع الأمني العراقي، وبالتالي، إمكانية مرور الخط من قطر تجاه العراق عبر مياه الخليج، ومن ثم مرورًا بالأراضي العراقية تجاه سوريا، ومن ثم إلى أوروبا، بعد أن كانت الدراسات السابقة تشير إلى تصدير الغاز من قطر مرورًا بالسعودية والأردن ومن ثم إلى سوريا.
وقد يكون هذا الخط أكثر فائدةً لقطر وسوريا في آنٍ معًا، فضلًا عن إمكانية لعب العراق دورًا هامًا فيه، حيث إن مصادر قطرية كانت قد أكدت أن هناك عدة عراقيل وشروطًا وضعتها الدول عام 2009 والتي كان من المخطط أن يمر بها خط الغاز القطري.
كما أن مرور خط الغاز القطري بالعراق سيكون أكثر جدوى اقتصادية، وذلك إذا ما أُخذ بالاعتبار قصر خط الأنابيب مقارنةً بذات الخط في حال مروره بالسعودية والأردن، إضافةً إلى أنه يمكن الشروع بهذا الخط تزامنًا مع شروع العراق بالعمل على طريق التنمية الدولي الذي سيخترق العراق من جنوبه إلى شماله مرورًا.
قد يكون من المبكر الحديث عن هذا الخط وإمكانية بدء تنفيذه قريبًا، حيث إن خطوط نقل الغاز العملاقة تحتاج لسنواتٍ من الدراسات المكثفة وحساب الجدوى الاقتصادية والعقد الأمنية واللوجستية، والوضع الدولي بشكلٍ عام.
ختامًا.. يشترك العراق وسوريا بجملةٍ من الملفات المتقاطعة التي يمكن لها أن تشكل نواة تعاونٍ حقيقي بين البلدين يعود على كلا الشعبين بعوائد اقتصادية وجيوسياسية ضخمة بعد عقودٍ من الشد والجذب بين البلدين.